"كيف بيفيدك هالتخصص في وظيفتك؟"
لو أنشأتُ صفحة خاصة بالأسئلة الشائعة التي وُجّهت لي خلال السنوات الخمس الأخيرة، فلا شك أن هذا السؤال سيتبوأ إحدى المراتب الأولى. لا يأتي السؤال من فراغٍ طبعًا، بل يسبقه عادةً سؤالان أو أكثر بحسب الظروف والفضاوة، وجميعها تنبع من لحظة إدراك السائل بأنني درست ماجستيرين عن بعد وأنا على رأس العمل. تجري المحادثة عادةً كالتالي:
👴🏻: أوه ما شاء الله، وش أول ماجستير؟
👨🏻: ليبرال آرتس، آداب.
👴🏻: وشو يعني؟ تدرس عن الليبرالية؟
👨🏻: خلنا نقول إنه خليط مجمّع من مختلف التخصصات الإنسانية تحت مظلة واحدة، تخصص بيني.
👴🏻: اممم انترستنغ. والماجستير الثاني وشو قلت لي؟
👨🏻: تاريخ عولمي.
👴🏻: يعني تدرسون تاريخ العالم من الحضارات القديمة للحين؟
👨🏻: لا، ما أعرف كيف أشرح بالزبط، بس التاريخ العولمي منظور للتاريخ، مو موضوع أو حقبة أو شدي، ولذلك فهو غالبًا يُعرّف بتناول العمليات التاريخية من زاوية لامركزية.
👴🏻: والله أنا أحب التاريخ، خصوصًا التاريخ الإسلامي والصراعات اللي كانت تصير في ذاك الوقت. درسوكم وياه؟
👨🏻: لا والله. توني أقول إنه مو متعلق بموضوع أو حقـ....
👴🏻: وكيف بيفيدك هالتخصص في وظيفتك؟
👨🏻: أخذته علشان نفسي، مو عشان الوظيفة.
👴🏻: لعبوا عليك. ولد عمي أخذه لنفسه وللوظيفة. ما علينا، للحين تشجع الاتفاق؟
يأتي هذا الاستغراب غالبًا من زملاء العمل أو ممن يعرفني شخصيًا ويعرف تخصصي البكالوريوسي وطبيعة عملي، إذ يبدو التوجه في دراسة الماجستير إلى الآداب والتاريخ شطحةً جذرية بالنسبة لهم. فحسين الموظف تخرج ببكالوريوس في علم الأرض من جامعة تكساس أيه أند إم الأمريكية وصار يعمل في أرامكو السعودية. في يوم العمل المثالي، أقضي وقتي في فحص العينات تحت المجهر ومعاينة المحتوى الأحفوري فيها لأجل تحديد كم مئة مليون سنة بلغ عمرها، أو لتوجيه مدقّ الحفر وإدارة عجلة التنمية. بعد كل هذا، خصوصًا عند من لا يتصور التخصص خارج الإطار الوظيفي أو عند من يقتصر تصوره على عبيد الشغل الذين لا هم لهم سوى استعراض الـKPIs والحديث عن الـPMP والتحلطم عن قسم ABCDEFU المنطوي تحت الـGL، قد تبدو أي شهادة خارج نطاق الوظيفة المباشرة شطحةً أساسًا، فكيف لو كانت شهادة آداب أو تاريخ؟
لكن من الإجحاف القول بأن هذه هي القصة كلها. ليست الاستفسارات حول الشطحة سوى جزءٍ بسيطٍ من الاستفسارات التي تصلني. هناك أيضًا من أراد معرفة بعض التفاصيل عن البرامج –سواء من ناحية المحتوى أو التكلفة أو غيرها- رغبة في التسجيل فيها، ومن استفسر عن الأسباب التي دفعتني لإكمال دراستي في تخصصات مختلفة جوهريًا عن وظيفتي، ومن أراد أيضًا معرفة تجربتي الشخصية في الانتقال من مجالٍ لآخر أو في التوفيق بين الدراسة والعمل وما إلى ذلك. ولحسن الحظ (أو لسوئه، ما أعرف) قررتُ بعد تفكير مليّ كتابة مقال يتطرق لبعض هذه التساؤلات ويحاول الإجابة عنها بشكلٍ وجيز، على الأقل ضمن نطاق الأسئلة المطروحة. ولكن في الوقت نفسه، نظرًا لارتباط كامل الرحلة باهتماماتي الذاتية وتغير قناعاتي ووجهات نظري حول التعلم والدراسة وأغراضهما، ثمة ضرورة لقراءة الرحلة من زاوية هذه التغيرات لفهم بعض نواحيها بشكل أفضل.
تنويه امتيازي
أنوه من البداية على أني لا أقدم هذه التجربة بصفتها تجربة نضالٍ أو كفاحٍ حياتيّتين، ولا أعتبر نفسي ذا تجربةٍ خارقة للعادة. لا أقول هذا من باب التواضع، ومن يعرفني يعرف أيضًا مدى اعتدادي بنفسي. أدرك تمامًا أن الظروف التي تهيأت لي مذ فتحتُ عيني على الدنيا ونشأت في كنفها لعبت دورًا رئيسيًا في إيصالي لما أنا عليه الآن.
ولدتُ في عائلة من الطبقة المتوسطة، ولم أعانِ يومًا في تدبير ضروريات المعيشة الأساسية أو في التفكير بشأن المستقبل الذي علي رسمه. في القرية التي نشأت وما زلت أعيش فيها، تدبير الضروريات المعيشية من البداية يجعلني في وضعٍ أفضل من العديد من أقراني الذين رافقوني في سنوات الدراسة الأولى. كما أن دراسة والدي في أمريكا بعد الثانوية وإلمامه هو ووالدتي بالإنجليزية جعل تعلمها أمرًا سهلًا بالنسبة لي ولإخوتي، وهو امتيازٌ لم يكن طبيعيًا أو عاديًا حيث نشأت. وبحكم إدراك والديّ لأهمية التعليم في هذا الزمن، كانا حريصين أشد الحرص على تبوئنا المراكز الأولى في ترتيب الطلاب، غير متهاونين مع أي تقصيرٍ قد نبديه. هذا الشيء بحد ذاته ليس هينًا.
وبالإضافة لذلك، مكنتني كل هذه العوامل وغيرها من تكوين رأسمالٍ ثقافي في فترة مبكرة من حياتي، رأسمالٍ أشعرني يوم كنتُ على مقاعد الدراسة بأنني حيثُ أنتمي فعلًا. فعلى عكس كثيرين ممن زاولوا مقاعد الدراسة معي أو من اضطرتهم ظروف حياتهم للخروج منها في مرحلة مبكرة، كان الذهاب للمدرسة والتعلم امتدادًا لعمليةٍ بدأها والديّ. وبفضل هذا الرأسمال نفسه، أتيحت لي فرصٌ ما كانت لتتاح لولا الآثار التراكمية له عبر الزمن. هذه النقطة الأخيرة هي الأهم؛ أعرف أنه لو أتيحت لغيري ذات الظروف المتاحة لي لتمكنوا (أو لتمكن الكثير منهم على الأقل، ثمة الكثير من الخراطين والمتقاعسين) من تحقيق ذات الإنجازات. هذا أحد الأسباب التي تدفعني لتجريد تجربتي من أي نزعةٍ خصوصية أو فوقيةٍ وما إلى ذلك، وسأكون جاحدًا وكاذبًا لو نسبتُ كل الفضل لنفسي فيما أنجزته. لنضع حدًا لخرافات النقطة الصفرية.
الصدمة الدراسية الأولى
لعل من المناسب البدء الآن بالشطحة المزعومة. هل كانت شطحةً فعلًا؟ يمتلك والدي مكتبةً صغيرة كنتُ أتجول في رحابها بين الفترة والأخرى منذ صغر سني، ولقد عوّدنا أيضًا على الذهاب لمكتبة جرير وشراء ما يستهوينا من كتب ومجلات. وإلى جوار مجلات ميكي وماجد وباسم التي تشاركت حبها مع إخوتي، كنت أمتلك شخصيًا عشرات الأعداد من سلسلة فلاش التي يقوم عليها خالد الصفتي. لذا أستطيع الافتراض بكون القراءة جزءًا أساسيًا من طفولتي.
رافق حب القراءة هذا حبّ الكتابة. ولذا لم يستغرب أحد أني كتبت في الابتدائية حبكةَ حلقةٍ طلبتُ من والدي إرسالها لطاش ما طاش. ملخص الحلقة -الذي ما زلت أملك نصّها- هو أنّ القصبي والسدحان أرادا شراء كومبيوتر، وبعد مفاضلةٍ بين جهازين قررا شراء الأرخص. الفكرة أن صاحب المحل باعهما جهازًا معطوبًا، وفي محاولاتهما المستمرة لإصلاحه انتهى الأمر بهما صارفين ما يتجاوز سعر الجهاز الآخر الذي استغلياه. لا، ليس ثمة هدفٌ من وراء هذه القصة حين كتبتها، مع أني أستطيع الآن ربطها بفكرة شراء سيارة مرسيدس -قديمة شوي- مستعملة ومن ثم صرف مبالغ طائلة في محاولة جعلها صالحة للاستخدام، كل هذا في سبيل أن يقول الناس عن صاحبها بأنه يسوق مرسيدس. وربما ما تزال عندي فرصة لإرسال الحلقة قياسًا على مستوى بعض حلقات الموسم الأخير (😉).
عمومًا، استمر تلازم القراءة والكتابة في المرحلة المتوسطة. اعتدتُ أن يأخذ مدرس اللغة العربية دفتر التعبير الخاص بي نهاية كل سنة كي يعطي منه أمثلةً لطلاب السنوات القادمة. كما بدأتُ محاولاتي الفاشلة في كتابة الشعر، والتي انتهت بشكلٍ شبه رسميّ بعدما ألقيتُ قصيدةً في أمسية بحضور مدير مكتب التعليم بالشرقية يوم كنتُ بالصف الثالث الثانوي (لم تكن القصيدة سيئة ربما، ولكن نبوغ قصائد من معي أحبطني وجعلني أعتزل مبكرًا. وبين كل هذا، بدأت روايات أغاثا كريستي وبعض الروايات التشويقية الأخرى تجد طريقها إلي.
بعد إنهاء المرحلة الثانوية، قُبلت في برنامج الابتعاث الجامعي التابع لأرامكو السعودية. كان تصوري عن التخصصات الجامعية حينها ساذجًا، ولم أجد نفسي ميّالةً لأي مجال محدد. والحقيقة أنني كنتُ أجهل طبيعة التخصصات الجامعية والفروق بينها من الأساس. ولذا، بعد استشارة أهلي وذوي الخبرة، اخترتُ من علوم الأرض وهندسة البترول ثلاثة تخصصات، برغم أنني لا أمتلك أدنى فكرةٍ عن تفاصيلها ولا عن مستقبل الوظائف فيها ولا أي شيء آخر، لا من قريبٍ أو بعيد. كل ما أعرفه هو ما أخبروني إياه أهل الخبرة.
كانت سنة الإعداد الجامعي في الظهران الصدمة الدراسية الأولى بحياتي. فبعدما كنتُ أحصل على الدرجات الكاملة في أغلب المواد، وجدت نفسي للمرة الأولى أصارع للحصول على درجات مقبولة. وفي حين كنت أتبوأ مقعدًا من بين الثلاثة الأوائل طوال سنين دراستي، وجدت نفسي حينها طالبًا عاديًا لا ترتفع درجاته عن الآفرج إلا ما رحم ربي. بل كان من الطبيعي أن أدخل الاختبارات في تلك السنة دون أن أفهم من المقرر المطلوب شيئًا. وفي خضم كل هذا، كنت محاطًا بعشرات الطلاب الذين اختلفت بيئاتهم التعليمية عن البيئة التي أعرفها بشكل تام. فليس الأمر فقط أنهم درسوا بالإنجليزية أو ارتادوا مدارس مجهزة بمنشآت أحدث، بل أن بعضهم بدأ منذ التخرج من الثانوية بتقديم أوراقه للجامعات وأخذ اختبارات الـSAT والـTOEFL اللازمة لها. أما أنا؟ كنت ماشيًا بالبركة ودعاء الوالدين، لا سلوان لي إلا قدراتي التهديفية.
أنهيتُ سنة الإعداد الجامعي على هذا الحال، وسافرتُ لأمريكا لإكمال دراستي. لم يكن الوضع أفضل حالًا بكثير، إذ استمرت النتائج المخيبة للآمال منذ بداية الفصل الدراسي الأول رغم أن الكورسات التي أخذتها كنت قد درست جزءًا كبيرًا منها خلال السنة الإعدادية. لم أكن أفهم وقتها ما يجري لي، ولم تفلح محاولات المقربين مني في معرفة الأسباب. بدا وأنها قصة تهاوٍ غير مبررة. الفرضية الأقرب لمن حولي هي أنني بلغتُ سقف قدراتي وبدأت الانكسار للأسوأ، وكنتُ شخصيًا أجد الفرضية منطقيةً ومعبرةً عما أمر فيه. ولأن نتائج الفصل الدراسي الثاني من السنة الأولى لم تكن أفضل حالًا من الأول، بدأت أقتنع بأن الحظ تخلى أخيرًا عني، وصادف أني بدأت بلا وعي أتخلى عن العديد من اهتماماتي في نفس الفترة.
أقول كل هذا بلا خجل ولا خوفٍ من أي إحراجات مستقبلًا، ولا يخفى على من يعرفني شخصيًا أنني أتكلم في هذه الأمور بتفاصيلٍ أكبر حتى. كما أني لا أستحضره الآن من باب الفضفضة والتبرير بقدرما أشاركه لأني لم أسمع مثله يوم كنتُ أعيش أسوأ مراحلي نفسيًا، يوم كنتُ حائرًا وأحاول فهم ما يجري. لم أستطع حينها الوصول لأي خيوط تعينني على فهم لحظة التهاوي والانكسار؛ شعرتُ أنني أصارع نفسي والجميع دون إدراك ماهية هذا الصراع بأي شكل من الأشكال، وشعرتُ وأنا أسمع قصص النجاح المتكاثرة بأن ثمة جوهر فطري يمايز بين الناجح والفاشل. بمرور الوقت، أدركت خطأ كل ذلك، وأدركت أني لم أكن وحيدًا فيما مررت به.
لاح بصيص الأمل في صيف السنة الجامعية الأولى. أخذت كورس تاريخ المسرح الغربي وكورس علم النفس ١٠١ بحكم كونهما خيارين متاحين ضمن المقرر الدراسي. بدت الفوارق بين شعوري إزاء هاتين المادتين وشعوري إزاء كل ما قبلهما تتضح من أول الأيام. وجدتُ نفسي أجلس في الصفوف الأولى كيلا أفوت على نفسي شيئًا مما يُكتب ويُقال. ووجدتني أشارك بحماس في النقاشات الدائرة في الصف وأتجاوز المنهج للاطلاع على كل ما يثير اهتمامي ضمن ثيماته. بل وجدتني للمرة الأولى أيضًا أتواصل مع البروفسورات خارج وقت الحصة لفهم ما أشكل عليّ. والحقيقة أن تفاوت سلوكي أثار استغرابي؛ هل يعقل أن التعلم ممتع وأنا ما أدري؟ لماذا لا أستطيع إحضار نفس درجة الاهتمام في الكورسات الأخرى ضمن علم الأرض وما استلزمني أخذه حولها؟
بمعنويات عالية بدأت سنتي الدراسية الثاني. لكن بدل مواصلة الحصول على درجات ممتازة والسعي وراء فهم لكل ما يثير اهتمامي، حصلت على أسوأ درجات وأقل معدل في السمستر الذي تلا ذاك الصيف السعيد. قال بصيص أمل قال. كان السمستر الأسوأ في مسيرتي الدراسية بلا منازع، وهو الذي مررت فيه بأسوأ حالاتي النفسية على جميع الأصعدة. أخذت كورسات صعبة عند بروفسورات نزقين، ولم أتمكن من العثور على كورس ضمن اهتماماتي يناسب وقته جدولي. ومنذ الأسابيع الأولى، تلاشى أي اهتمام حاولت ابداءه تجاه تخصصي، وبدأت أفكر للمرة الأولى جديًا بكل الاحتمالات الأخرى السيئة.
لن أخوض في كل التفاصيل. المهم أني نجحت في هذا السمستر على الحفة، حتى لو حصلت على إنذارين. بعد تفكير ملي طوال فصل الخريف أعلاه، قررت أني لم أرد تضييع السنتين السابقتين من حياتي والبدء مجددًا، ولذا أخذت على عاتقي إتمام متطلبات بكالوريوس علم الأرض ولكن بطريقتي الخاصة في تكميلها بما أحب وأرغب. في نهاية المطاف، تخرجتُ عام ٢٠١٤ ببكالوريوس في علم الأرض وبتخصص ثانوي في التاريخ. ليست أهمية التخصص الثانوي في كونه مفتاحًا للهياط أحيانًا وحسب، بل في كونه قد أوقد بقلبي شعلةً جديدةً لم أعلم بوجودها قبلًا، إضافة لإنعاشه حب القراءة والكتابة اللذين فقدتهما بضع سنوات. كيف أوقدها؟
تشترط قوانين التعليم العالي بتكساس أخذ ست ساعاتٍ دراسية في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، أي ما يعادل كورسين دراسيين. أخذت أولهما في الفصل الأول من سنتي الدراسية الثالثة. للوهلة الأولى، بحكم كوني ملزمًا على أخذ الكورس، شعرتُ بنفس الضجر الذي شعرت به في صفوف علم الأرض، وزاد الأمر سوءًا كون الكورس الأول يشبه كل حصص التاريخ التي أخذتها في السابق، إذ تمحور المقرر حول الأحداث والتواريخ والأفراد وغيرها من العناوين الكبرى. لم يتميز الكورس إطلاقًا، وانتهى بتبخر تام دون أن يترك أي أثرٍ على نفسي. لكن حين أخذت الكورس الإلزامي الثاني في الفصل الذي تلاه معتقدًا أنه مشابه للأول، حدثت الصدمة والمفاجأة الأولى...
لا لا يا حسين ما يصلح كذا كنت متحمس
نطالب بتعجيل الجزء القادم
خربوشة ملهمة جداً، في انتظار التكملة. شكرًا