إن كنتم تتابعون حسابي التويتري (أو الإكسي)، فلعلكم رأيتم إحدى تغريداتي التي أعلن فيها صدور ترجمتي لكتاب سارة مازا التفكير في التاريخ عن دار معنى أواخر العام المنصرم (يتوفر الكتاب عن طريق منصة اطبع للراغبين في اقتنائه). بطبيعة الحال، تكرر عليّ سؤال "ليش ترجمت هالكتاب؟" حتى قبل صدوره، وكررت نفس الإجابة كل مرة تقريبًا مع تغييرات طفيفة متعلقة بسياق طرح السؤال نفسه. أضع هنا إجابة موجزة أوردتها في مقدمة الكتاب. ولمن يرغب بنسخة أطول وأكثر تفصيلًا، فهنا حلقة كتبيولوجي بعنوان "كيف أصير قارئ تاريخ أفضل؟"
اخترتُ ترجمة هذا الكتاب تحديدًا نظرًا لافتقار المكتبة العربية لأمثاله. كما يشير عنوان الكتاب، تتمثل ثيمته الرئيسية في تأمل التاريخ، أو في مجموعةٍ من التأملات حول صنعة التاريخِ سواءً من ناحية الاشتغال أو من ناحية التلقي. والكتاب موجه في المقام الأول لطلاب التاريخ الجامعيين، ولذا يمتاز باستطراداته الكثيرة في سبيل رسم خارطة طريق ذهنية تُعين المهتمين بمجالات معينة على البدء في مطالعتها من خلال الاستبصارات التي يطرحها. وحين وقعتُ عليه للمرة الأولى عام ٢٠١٨ (أي بعد أشهرٍ قليلة من نشره)، كان خير معينٍ في تزويدي بعشرات المصادر التي بنيت عليها أبحاثًا لاحقة، سواء للاستناد عليها أو تفنيد بعض أطروحاتها. ومن الضروري التنويه على أن المنهجية التاريخية التي يتطرق لها الكتاب مبنيةٌ على المهنة التاريخية كما تحضر في العالم الأنغلو-ساكسوني بشكلٍ رئيسي، أي أن الأمثلة المطروحة والتحولات الحادثة في المجال مؤطرةٌ ضمن التيارات التاريخية الأكاديمية السائدة في هاته النواحي.
ثمة تمييزٌ أساسي ينبغي التطرق له قبل الدخول في معمعة فصول الكتاب أو اختلافه عن نظائره المتوفرة بالعربية، وهو متعلق بكلمة "التاريخ" التي ترد في عنوان الكتاب. لعل أول ما سيتبادر لذهن القارئ حين يقرأ العنوان أن التاريخ هنا يرد بمعانيه العامة، كالمتضمنة في كليشيهات من قبيل "التاريخ يكتبه المنتصرون" أو "التاريخ يعيد نفسه" أو غيرها. ولكن ذلك ليس صحيحًا. إن المقصود بالتاريخ هنا حسبما تشير الكاتبة في مقدمتها وفصول الكتاب (وفي البريد الإلكتروني الذي سألتها فيه إذا ما كانت تُفضّل ترجمة العنوان إلى التفكير بالتاريخ أو التفكير في التاريخ) هو صنعة التاريخ حصرًا كما تطورت في القرن التاسع عشر وما بعده. وبالتالي تتجلى ضرورة التمييز أولًا بين "التاريخ" بمعناه العام بوصفه كل ما هو ماضٍ، وبين "التأريخ" بوصفه فعلًا قصديًا لتدوين جزءٍ من هذا الماضي. وثانيًا، لا بد من التمييز بين "التأريخ" بوصفه نشاطًا متعدد الأشكال والمقاصد والمُنتجين، و "التأريخ" بوصفه نشاطًا علميًا ضمن معايير وسياقات محددة لإنتاج المعرفة.
إن عدم إدراك مثل هذه الفوارق يُفضي لإشكالات كبيرة في التعاطي مع المنتجات التاريخية الأكاديمية اليوم. فحين يكون القارئ غير ملم بآلية إنتاج المؤلف التاريخي والعناصر المكونة له والأسئلة المتداخلة في تشكيله والنقاش حوله، سيكون عاجزًا عن نقد المؤلف معرفيًا. ومن هنا جاءت فكرة ترجمة هذا الكتاب.
نعم، ثمة عناوين ومؤلفات متوفرة بالعربية تتناول منهجيات التاريخ ومدارسه ونظرياته وفلسفته، وتحاول بشكلٍ عام تحقيق هدفٍ مشابه لما يود هذا الكتاب تحقيقه. ولكني أجدها في الحقيقة قاصرةً في أغلب الأحيان من حيث أنها تُقولب موضوعها بشكلٍ مغلوط. يدور بذهني شكلان لهذه الكتب، وسأستشهد بهما. على سبيل المثال، لا أعتقد بصواب تقسيم المدارس التاريخية إلى مدرسة وضعية ومدرسة عقلانية ومدرسة فرويدية على غرار ما تفعله بعض المؤلفات. فمن جانبٍ أول، ليس المؤرخ حصرًا على أحد هذه الفئات دون الأخرى (فما التعارض بين الوضعية والعقلانية؟). ومن جانبٍ ثانٍ، إن تقسيم المدارس بهذا الشكل يهمش تفاوت الأسئلة التاريخية المطروحة وآليات استنطاق المصادر في سبيل الإجابة.
أما الشكل والمثال الثاني فهو متعلقٌ بمختلف كتب فلسفة التاريخ. تتمحور أغلب أطروحات هذه المؤلفات على استعراضٍ لما قاله فلاسفة التاريخ عبر الزمن (وقد يعودون في طرحه لفلاسفة الإغريق القدامى). تنبني هذه المؤلفات على فكرة أن معرفة "فلسفة" التاريخ كفيلٌ بفهم الماضي أو الحاضر، سواء مباشرة أو عن طريق وساطة. لكن الحقيقة هي أن هذه الكتب الموسوعية ليست إلا تضليلًا (غير مقصودٍ ربما) للمهتم بالإنتاج التاريخي المعرفي. ذلك أن طلاب التأريخ قد يقضون حياتهم المهنية برمتها دون إدراك حيثيات فلسفات فيكو أو رانكه أو بوبر أو آرندت أو هوبزباوم أو ريكور أو غيرهم، إذ أن ممارسة التاريخ -كما ستبين الكاتبة أيضًا- لا تشترط طرح إطارٍ نظري مسبق تدور الأطروحة في فلكه على غرار ما قد يوجد في مجالات أخرى.
وهذه إحدى الخصال الرئيسية في كتاب التفكير في التاريخ التي تميزه عن غيره، إذ يترتب فهرسه بطريقةٍ تُسهّل على من هم خارج المجال التاريخي الأكاديمي البدء بما يستعرض لهم الأبعاد النظرية بأمثلةٍ من المجال نفسه. وعلاوةً على ذلك، تنطلق الكاتبة من وعي بأن مجال التاريخ معقد ومتفاوت ومتشعب لدرجة أنه لا يمتلك متنًا محددًا ولا مصطلحات تقانية تمايز بين المختصين فيه وغير المختصين. وهذه بنظري إحدى نقاط قوته وسهولة إتاحته.
وكما تشير الكاتبة في مقدمتها، ينقسم الكتاب إلى قسمين رئيسيين، يحتوي كل منهما على ثلاثة فصول. تطرح الفصول الثلاثة الأولى أسئلةً ينبغي طرحها على كل مؤلفٍ تاريخي لمعرفة موقعه من الإعراب سواء في مجال التاريخ نفسه أو من حيث مواقعيّة إنتاجه: يتطرق الفصل الأول "تاريخ من؟" إلى فكرة الفاعلية التاريخية، ويسلط الضوء على تفاوت التواريخ وقتما تغيرت الجماعات الفاعلة فيه. ويتطرق الفصل الثاني "تاريخ أنى؟" إلى إشكالية الحدود المكانية للتأريخ، حيث أن المكان والزمان لا ينفصلان عن الأسئلة التي يبتدئ بها المؤرخ بحثه. أما الفصل الثالث "تاريخ ماذا؟" فهو يتناول العوامل الأخرى -غير البشرية- الداخلة في تشكيل التاريخ دون وعي منا أحيانًا.
في القسم الثاني من الكتاب، تتناول الكاتبة بشكلٍ موسع بعض الإشكالات النظرية في تصور التاريخ أيًا كان نوعه ومجاله والفاعلون فيه. الفصل الرابع مثلًا "كيف يُنتج التاريخ؟" يحاول التطرق إلى حيثيات إنتاج التاريخ والتعاطي مع مصادره، في حين يتطرق الفصلان الخامس والسادس إلى "فلسفات" تاريخ بالمعنى العام كان لها دورٌ رئيسي في إعادة صياغة المجال في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، أي بعد تمكن شرائح اجتماعية مختلفة من اقتحام أبواب المجال التي كانت موصدةً عمن سوى البيض البروتستانتيين الأنغلو-ساكسونيين.
ولكن أهمية الكتاب لا تقتصر على أطروحات فصوله وحسب، بل على ما يرد في مراجعه كذلك. أستعير هنا فكرةً سمعت صياغتها التالية من أستاذ التاريخ البيئي بجامعة برمنغهام فرانك يوكيتر: إذا ما أراد المرء أن يكون مؤرخًا حقيقيًا (بالمعنى الاصطلاحي/العلمي للتأريخ)، فعليه تدريب عينيه على أن تتفقدان الهوامش في كل شاردة وواردة. وإذا ما طبق قارئ هذا الكتاب فكرة يوكيتر، فإنه سيكتشف أن الكاتبة لجأت في العديد من الأحيان لمصادر ثانوية في صياغة بعض أفكارها الرئيسية، وهو الأمر الذي أدى لاختزالات مجحفة لبعض المجالات التاريخية مثل تاريخ الفكر والتاريخ ما-بعد-الكولونيالي والتاريخ العولمي. لكن مع ذلك، لا بد أن نأخذ إقرار الكاتبة في ختام مقدمتها على محمل الجد، حيث قالت أن متن الكتاب محدودٌ بمجال اختصاصها في تاريخ فرنسا الحديث، وأن من الممكن تكميله باستبصارات المجالات الأخرى. وبالتالي، تظل الخطوط العريضة التي رسمتها الكاتبة والمصادر التي أوردتها مهمةً في التعرف على إمكانيات هذا الكتاب وحدوده.