كلما وقعت على انطباعٍ سيء عن رواية سالينغر The Catcher in the Rye، والمُترجم عنوانها خطأ إلى الحارس في حقل الشوفان، أحاول التهوين على نفسي بأن الناس فيما يقرؤون مذاهب وأذواق، وليس عليهم استحسان ما بلغت درجة إعجابي به حد التبجيل والتبشير. وهذا الأمر الطبيعي الذي أظنني أحاول إقناع نفسي به فعلًا.
لكن بمجرد علمي أن هذا الانطباع السيء ناجمٌ عن قراءة ترجمة غالب هلسا الصادرة عن دار المدى، يهون الأمر كثيرًا. أقلّها أني أستطيع توجيه أصابع اللوم إلى الترجمة الفاشلة بعيدًا عن سوء ذائقة القارئ الزعول (مع أنه قد يكون سيء الذائقة حقًا، لكن هذا موضوع مختلف). وبتكرر رؤية الانطباعات السيئة المتولدة عن الترجمة على تايملايني التويتري أو الإكسي، شعرت بحاجة للتحلطم إزاءها.
إذن، على عكس ما قد يوحي به العنوان، ليست هذه الخربوشة تحذيرًا من قراءة الرواية بحد ذاتها على غرار ما يحاوله اليمين الأمريكي والمحافظون، ولا تحذيرًا من قراءتها تحت طائلة تضييع الوقت أو ما أشبه. الخربوشة محاولة لتسليط الضوء على الكيفية التي يمكن للترجمة السيئة من خلالها إفشال تجربة القراءة. نعم، هذا معياري في الحكم: تباين تجربة القراءة.
قليلة هي الروايات التي شعرت بكون التحذير من ترجمتها العربية واجبًا في حقها. الحارس في حقل الشوفان واحدةٌ منها. اللون الأرجواني أخرى. فحين أقرأ مثلًا فصول الرواية الرساليّة المسرودة على لسان فتاة سوداء غير متعلمة بأرياف ولاية جورجيا (أي الجنوب الأمريكي) مطلع القرن العشرين، فلن أتوقع قراءة نص فصيح بليغ ومنمق كما بدا في الترجمة العربية. تكتب سيلي بلهجتها في صفحة الرواية الأولى: "She say It too soon, Fonso, I ain't well" أو "She say Naw, I ain't gonna"، ومن المحبط قراءة العبارتين مترجمتين إلى: "وهي تقول: ما زال الوقت مبكرًا جدًا يا ألفونسو، لست على ما يرام" وإلى: "قالت له: لا أستطيع الآن" على التوالي. هذه المقاربة الترجمية تشلني عن فهم محورية موقع سيلي الجندري والاجتماعي كما يتجلى في أسلوبها ومفرداتها، وتشلني أيضًا عن إدراك نشأة سيلي وتطور كتابتها وأي مما يرتبط بتعبيراتها اللغوية عن ذاتها. لكن هذا ليس موضوع الخربوشة.
لحظة، ربما سيتهمني أحدٌ بالتحامل على دار المدى لأني ذكرت مثالين من منشوراتها. ماشي. سأحذر أيضًا من ترجمتي مهد القطة و المسلخ رقم ٥. حين أقرأ المسلخ رقم ٥ بتهكمها السوداوي عن معنى الموت والحرب والزمن، وأتعرف على محورية عبارة "so it goes" في ربط مختلف أنواع الموت باستمرارية الحياة وبتقويض مركزية حياة الإنسان، فستنقص تجربتي إذا ما قرر المترجم حذف العبارة المفتاحية أو ترجمتها ترجمةً مختلفة كل مرة ترد حسب مزاجه. تفكروني أبالغ صح؟ دعوني أراجع أول عشر مرات وردت العبارة فيها:
ولكن هذه الخربوشة ليست عن المسلخ رقم ٥ برضه، ولذا يكفي شطحة.
القاسم المشترك بين هذه الأمثلة هو ما اعترى الترجمة من تشويه وحذف وتحوير معنى للدرجة التي يصعب القول بعدها أن تجربتي قراءة النصين -الأصلي والمترجم- متشابهتان. وكما قلت، إن تجربة القراءة معيار حكمي الرئيسي فيما يتعلق بالأمر. لا يهمني ما ينظّره خراطو دراسي الترجمة ولا خرابيطهم عن تجسير ثقافة إنتاج النص واستقباله بلغة أخرى أو عن كون كل ترجمة تفسير، ولا أمتلك الوقت لمناقشة ترقيعات ما يكتظ به السوق من ترجمات فاشلة. مشهد الترجمة كارثي بما يكفي لتسمية الأشياء بمسمياتها ولتسليط الضوء على دور المترجمين ودور النشر في ترسيخ الانحطاط القائم.
وفي الحقيقة، حالة الحارس في حقل الشوفان أعوص مما ظننت لما باشرت مقارنة بعض جزئيات ترجمتها بالنص الأصلي. أدركت مثلًا انعدام دقة ترجمة عنوان الرواية، ولكنني لم أتصور ثراء صفحاتها الأولى بما يشيب الرأس. وربما يهون الأمر بعض الشيء لو كان مترجمها ممن يعانون إسهال الترجمة على السوشال ميديا اليوم ممن يعتقدون أن إلمامهم بالإنجليزية كافٍ لترجمة سبعين كتابًا سنويًا متراوحًا بين الأدب والفلسفة والفيزياء وتطوير الذات. ولكن غالب هلسا لسوء الحظ روائي، أي من المشتغلين أساسًا باللغة وبتقنيات التلاعب بها في إعادة خلق تجربة للقارئ، وهذا ما يزيد الأمر سوءًا؛ كيف يغفل الروائي لهذا الحد عن إشكاليات اقتصاد الرواية اللغوي وأهمية تسلسل الكلمات؟
لا يقتصر الأمر هنا على اختيار كلمات غير دقيقة ولا على إعادة صياغة غير موفقة ولا حتى على استخدام أسلوب ركيك، ولو كان الأمر كذلك لما أضعت وقتي محذرًا من سوء الترجمة. ما وقعتُ عليه أثناء مراجعتي مزيجٌ مستفز من حذف المفردات وقلب معاني الثيمات ١٨٠ درجة وإساءة فهم مشاهد كاملة. في السطور التالي ملاحظات انتقائية مما خطر ببالي مقارنته بين النص الإنجليزي الأصلي والترجمة العربية حين كنت أعد لجلسة مناقشة للرواية قبل بضعة سنين، وهو الإعداد الذي كشف من فشل الترجمة ما لا يمكن احصاؤه. يفتتح سالينغر روايته بالعبارة التالية:
"If you really want to hear about it..."
لو تُرجمت العبارة ترجمة شبه حرفية لعنت شيئًا كالتالي: "إذا كنتَ تريد سماع ذلك فعلًا"، أو "إن كنت ترغب أن تسمع عن الأمر فعلًا". لكن هلسا اختار ترجمتها على النحو التالي: "إذا كنتُ قد أثرتُ اهتمامك بالفعل".
ظاهريًا، قد لا تبدو الترجمة إشكالية وايد، فالأهم فيها أن المخاطَب مهتم بمعرفة شيء ما. لكن هذه الظاهرية تتهاوى بمجرد قراءة الرواية والانتباه لمحورية كون هولدن يبحث دائمًا عمن يستمع إليه. لا يهم من؛ أحد أقرانه ربما، أو أحد معلميه، أو أحد الغرباء في الشارع، أو سائق التاكسي. يود هولدن دائمًا لو أن هنالك من يستمع إليه فعلًا. في ترجمة هلسا ("إن كنتُ قد أثرتُ اهتمامكَ بالفعل")، غابت مفردة الاستماع، وتغيّر لسببٍ ما أسلوب العبارة بحيث بدا وكأن هولدن أكثر ولعًا بأن يتسبب بإثارة الاهتمام، أي بأن يشير لذاته، وهو الأمر الذي أدى لسوء ترجمة وسوء فهم أخريين بنفس الصفحة:
"I’ll just tell you about this madman stuff that happened to me around last Christmas just before I got pretty-run down and had to come out here and take it easy."
ترد الجملة بترجمة هلسا كالتالي: "سوف أروي فقط تلك الأحداث الجنونية التي مرت بي في فترة عيد الميلاد الماضي وذلك عندما وصلت بي الأمور إلى حد شديد السوء". ثمة خطآن جوهريان في هذه الترجمة. يتعلق أولاهما باختيار هلسا ترجمة "madman stuff" إلى "الأحداث الجنونية". أعترف أن ترجمة "madman stuff" صعب، وكذا غيرها من التعبيرات الدارجة التي تمتلئ الرواية بها. مع ذلك لا أجد مبررًا في تحول نسبة الجنون في العبارة من الشخص إلى الأحداث. تكررت مفردة madman في الرواية ١٦ مرة، كلها جاءت صفة لشخصية ما. لذا يبدو غريبًا أن يختار المترجم هذا الموضع المحوريّ لتحويل نسبة الجنون من هولدن إلى الأحداث. لماذا موضع محوري؟ لأنه يقترن بالخطأ الجوهري الثاني المتمثل بقرار هلسا حذف أو تأخير كلمة "here" (أي "هنا") التي ترد في النص الأصلي.
في النص الأصلي، يقول هولدن أنه سيحكي ما جننه من أمور حدثت في فترة عيد الميلاد الماضي، وهي الأحداث التي أدت به للانهيار ومن ثم المجيء إلى "هنا" والاستكنان. قارئ الرواية سيدرك انتهاء مطاف البطل في مصحة نفسية أو شيء من هذا القبيل، وسيدرك أيضًا أن المخاطَب بالسطور غالبًا معالج أو محلل نفسي يشرف على حالته. ولذا ثمة تلازم بين ذكر مفردة الجنون وبين إشارة هولدن لمكان وجوده، أو بالأحرى تلازم بين حالته العقلية وبين استذكاره الأحداث بالكيفية التي اختار استذكارها. لكن هلسا اختار حذف الإشارة للمكان في الجملة الأصلية وتأخيرها لجملة بعدها أعيدت معها صياغة الفكرة: "وأنا قد حكيت ذلك لأخي د. ب. الذي يسكن في هوليود التي لا تبعد كثيرًا عن هذا المكان التعس الذي أنا فيه".
طبعًا كل هذا من صفحة الرواية الأولى فقط، أي الصفحة رقم ٧ من طبعة دار المدى الأولى المنشورة عام ٢٠٠٧. تفكروني خلصت؟ لا. هناك ملاحظة أخرى متعلقة باستخدام سالينغر لعبارة "and all". يمكن ترجمتها حرفيًا إلى "وكذا" بنفس معنى استخدامها الدارج في اللهجات المختلفة عامية وفصيحة. وردت "وكذا" في الصفحة الأولى ثلاث مرات بالنص الأصلي. توقعوا كم مرة وردت بالترجمة العربية؟ صفر. هنا المواضع الثلاثة:
"and how my parents were occupied and all before they had me"
"They're nice and all"
"I mean that's all I told D.B. about, and he's my brother and all"
وهنا ترجمات هلسا للمواضع الثلاثة بالترتيب نفسه:
"وماذا كان يعمل والداي قبل أن ينجباني"
"وهما طيبان لا أنفي ذلك"
"وأنا قد حكيت ذلك لأخي د. ب."
إذا أحصيت جيدًا، فقد تكررت "وكذا" ١٠٠ مرة في الرواية، وهي إحدى تعبيرات هولدن المهمة في فهم شخصيته ورؤاه عما يحيط به، حالها حال "نوعًا ما"، و "أعني ذلك"، و "حقًا"، و "والله العظيم" التي يكثر من استخدامها. وبالتالي فإن اختيار حذف "وكذا" في موارد ذكرها الثلاثة الأولى (وغيرها بالتأكيد، ولكني لست مستعدًا للتحقق من كل موضع) أمرٌ لا يمكن ترقيعه.
ما علينا. سأنتقل لانتقاءات زيادة من صفحات أخرى. في الصفحة الثانية من الرواية (أي الصفحة رقم ٨ في نفس طبعة دار المدى المذكورة)، يقول هولدن:
"Where I want to start telling is the day I left Pencey Prep"
ترجم هلسا العبارة كالتالي: "تبدأ حكايتي يوم غادرت (بنسي) الثانوية". المستقعد الذي فيني سيستنكر حتمًا تغير المعنى رغم طفافته. في النص الأصلي، يقول هولدن أنه سيبدأ الحكاية من يوم مغادرته ثانوية بنسي. في الترجمة العربية، يقول المترجم أن الحكاية تبدأ من ذلك اليوم. شفتون الفرق؟ اختيار هولدن لنقطة بدء حكايته لا يعني أنها بداية الحكاية فعلًا؛ هولدن هو من اختار أن يبدأها من تلك النقطة. قارئ الرواية سيدرك أن مغادرته ثانوية بنسي ليست سوى جزءًا من سلسلة أحداث مؤسفة، ولا تشكل بأي حال من الأحوال بدء المصيبة. ومجددًا، ما دمنا نتحدث عن استذكار هولدن الأحداث قبال معالج، تصبح فكرة اختياره لنقطة بدء الحكاية أكثر أهمية.
في الصفحة الثالثة من الرواية (الصفحة رقم ٩)، يقول هولدن:
"Old Selma Thurmer"
ومجددًا، يصعب ترجمة مفردة "old" في هذا السياق الدارج بما يحفظ دلالاتها المرحة أو مدري ويش يسموها، لكنها تكررت مرارًا في الرواية. وفي حين اختار هلسا ترجمتها -خطأ- إلى "العجوز" في بعض مواضع ورودها، إلا أنه آثر حذفها في مواضع أخرى، ومنها هذا الموضع، إذ ترجم العبارة إلى: "وكانت سلمى ثرمر... الخ". شخصيًا ربما سأترجمها لـ "الشيخ" أو "الشيخة" بنفس استخدامها بين الأصدقاء مثلًا: أهلًا شيخ حسين. كيف الشيخة اليوم؟ ولكن بغض النظر عن اختياري لمقابل لها، على الأقل لن أحذفها يا غالب يا هلسا.
في نفس الصفحة أيضًا، يقول هولدن:
"I sat next to her once in the bus from Agerstown and we sort of struck up a conversation"
وقد اختار هلسا ترجمتها كالتالي: "ركبت مرة بجوارها في الباص في مدينة (اجر ستاون) وتحدثنا سويًا". يريد المستقعد فيني أن يتطرق إلى غباء اعتبار "Agerstown" (والذي يعني حرفيًا مدينة آجر) اسم علم بحيث تترجم إلى "مدينة آجر ستاون" (أي حرفيًا مدينة مدينة آجر). ولكن هذه نقطة هامشية نوعًا ما، خصوصًا أن هلسا ترجمها بشكل سليم في الموضع الذي قبله.
المهم، شايفين كيف "نوعًا ما" أفادتني في جملتي السابقة؟ كيف أنها خففت هامشية النقطة وفتحت باب التساؤل حول ما إذا كانت وجهة نظري منطقية أساسًا؟ "نوعًا ما" رهيبة نوعًا ما، ويجب ألا تُتَجاهل، صح؟ طيب. أعود للاقتباس أعلاه. لو تُرجم النص الأصلي كما يجب، لكان قول هولدن: "وقد تجاذبنا أطراف الحديث نوعًا ما"، وهي نفس النوعًا ما التي تكررت قرابة الـ١٠٠ مرة في النص، والتي لن تجدها دائمًا مذكورة في الترجمة العربية لأن هلسا قرر حذف جزء منها، مثلما فعل حين اقتصر على "وتحدثنا سويًا"، أو مثلما فعل في الجملة التي تليها حين ترجم "but you felt sort of sorry for her" إلى: "ولكنها أثارت شفقتي"، حاذفًا بذلك موضعين متتالين وردت فيهما "نوعًا ما"، ومغيرًا أيضًا صيغة الخطاب ومعناه.
في صفحة ٢٥، يقول هولدن:
"I didn't feel like going into the whole thing with him. He wouldn't have understood it anyway. It wasn't up his alley at all."
ويترجمها هلسا كالتالي: "لم أكن أرغب في الحديث عن هذا الموضوع معه. وعلى أي حال فليس باستطاعته أن يفهمها، ولا يتناسب مع تفكيره".
ما يهمني من هذه الجملة ما اختار هلسا ترجمته إلى "فليس باستطاعته أن يفهمها"، وهي ترجمة غير دقيقة لما كان من المفترض أن يكون شيئًا يشبه: "لم يكن ليفهمها". ثمة فارق جوهري بين الترجمتين، وهو الفارق بين معنى القدرة والاستطاعة على وجه التقريب. ثمة ثيمتان مهمتان لفهم هذا الفارق. أولاها ثيمة التهاوي من البراءة حين انتقال المرء من عالم الطفولة إلى عالم البلوغ، وهي ثيمة عولجت جزئيًا عن طريق التمييز بين عالم البالغين المزيف (وردت كلمة "phony" ٣٥ مرة في الرواية) وعالم الأطفال. حسب رؤية هولدن الكونية، هنالك خطرٌ في البلوغ، خطرٌ يستأصل المرء مما هو أصيل فلا يعود قادرًا على إدراك الأمور على حقيقتها. أما الثيمة الأخرى فهي ما ذكرته أعلاه من إحساس هولدن الذي يتخلل الرواية بأن لا أحد يفهمه، بل لا أحد يسمعه حتى.
حين توضع هاتان الثيمتان جوار بعضهما وقبال ترجمة هلسا، سيبدو اختيار مفردة "الاستطاعة" في الترجمة كسولًا وباهتًا، إذ لا يرتبط الأمر باستطاعة السيد سبنسر (وهو المعني بالجملة) شخصيًا بقدر ما يرتبط بانعدام القدرة كينونيًا إن صح التعبير؛ ينتمي السيد سبنسر إلى عالم البالغين، وهو انتماء يجعل من المستحيل عليه إدراك ما خالج هولدن. وأظن الإشارة في صفحة ١٩ مهمة في هذا السياق. ففي معرض حلطمته على ما يأمره الناس به بألا يتصرف كطفلٍ وهو الذي بلغ من العمر ستة عشر عامًا، يتذمر هولدن قائلًا أن التصرف كابن سنه يصيبه بالملل، وبأنه يتصرف أصلًا كشخصٍ بالغ أحيانًا دون أن يلاحظ الناس ذلك. فكأنه حسب كلامه يتقنع الطفولة والبلوغ حيث يشاء دون قدرة الناس على رؤية هذا التقنع على حقيقته.
مجددًا، كل هاته الملاحظات مبنية على انتقاء عشوائي لجمل وثيمات أردت مراجعة ترجمة هلسا لها، ولو استقعدت لكل عبارة وجملة وصفحة لخرجت بنص يفوق حجمه الرواية الإنجليزية وترجمتها مجتمعتين. ومع ذلك، حتى لو قررت مثلًا التغاضي عن كل هاته الإشكالات وبررتها الواحدة تلو الأخرى، يظل لساني معقودًا أمام الثيمة الأهم التي تستوحي الرواية عنوانها منها، وهي ما سأتناوله الآن.
في نهاية الفصل الثاني والعشرين، يحكي هولدن خيالًا يراوده. يصوغه في النص الأصلي كالتالي:
Anyway, I keep picturing all these little kids playing some game in this big field of rye and all. Thousands of little kids, and nobody's around--nobody big, I mean--except me. And I'm standing on the edge of some crazy cliff. What I have to do, I have to catch everybody if they start to go over the cliff--I mean if they're running and they don't look where they're going I have to come out from somewhere and catch them. That's all I'd do all day. I'd just be the catcher in the rye and all.
اختار هلسا ترجمتها كالتالي:
فأنا أصور لنفسي هؤلاء الأطفال يلعبون لعبة ما في حقل الشوفان هذا الكبير. آلاف من الأطفال الصغار ولا أحد غيرهم هناك، لا أحد من الكبار، أعني، عداي أنا. وأنا واقف على حافة هضبة جنونية. ومهمتي الإمساك بكل من يحاول الصعود إلى الهضبة، أعني أن الأطفال ينطلقون راكضين ولا يحاولون أن يتبينوا اتجاههم، فمهمتي أن أتقدم وأمسك بهم. يكون هذا هو عملي طيلة اليوم. وبهذا أصبح الحارس في حقل الشوفان.
لندع جانبًا خطأ ترجمة rye إلى "شوفان". هنالك خطآن لا يغتفران في ترجمة هلسا. أولًا، يستطيع قارئ النص الإنجليزي أن يلاحظ بسهولة كيف غير هلسا المشهد بحيث امحى المعنى تمامًا. يتحدث هولدن عن خياله الذي يصوره "حارسًا" على جرف هاوية بحقل جاودار ضخم يلعب فيه آلاف الأطفال، بحيث تصبح مهمته إمساك أولئك الذين ينشغلون منهم بالركض واللعب فيسقطون من الجرف. في ترجمة هلسا، يدور المشهد لسبب ما عند حافة هضبة يحرسها هولدن من صعود الأطفال عليها. شايفين؟ في النص الأصلي هنالك سقوط من على الجرف، أو تهاو (إحم، تذكروا ثيمة التهاوي من البراءة)، وهولدن يمسك الأطفال بمجرد سقوطهم. لكن هنالك في الترجمة صعود، وهولدن حارسه. هذا قلب معنى ولا قلب معنى يا بتوع الأدب؟
الخطأ الثاني الذي لا يغتفر متمثل في قرار هلسا السيء بترجمة catcher إلى "حارس". لم يكن هلسا متسقًا في ترجمته هو نفسه. فقبل أن يترجم catcher إلى حارس، كان قد ترجم مفردة catch إلى الإمساك، سواء في الجملة التي قبلها مثلًا، أو في تصحيح فيبي (الذي اختار هلسا ترجمة اسمها خطأ إلى فيب) لذاكرة هولدن وهو يتذكر كلمات القصيدة التي ظنها أغنية. ولذا، لو فهم هلسا ما قرأه، لما اختار ترجمتها مرتين إلى الإمساك ومرة إلى الحراسة.
والأَوْلَى لو أبقى هلسا على ترجمة المفردة دومًا بالإمساك. ورودها بهذا المعنى لا ينفصل عن إشارة هولدن لقفاز البيسبول الخاص بشقيقه المتوفى آلي. فمثلما يُستخدَم القفاز في الإمساك بالكرة أو التقافها، فكذا هولدن يتخيل نفسه يمسك أو يلتقف الأطفال قبل تهاويهم حماية لبراءتهم ومنعًا لوقوعهم في عالم البالغين المزيف. لكن يصعب تصور المعنى حين يسيء المترجم فهم المشهد كاملًا.
يقول هلسا في مقدمة ترجمته أنه حاول الحفاظ على "روح اللغة"، لكن ما حدث فعلًا هو أنه اغتال نصًا وشيد مكانه نصًا آخر معطوبًا. ومجددًا، أدري لو بحبشت وراء هلسا لوجدت المزيد من المشاكل، لكن سأكتفي بهذه الانتقاءات في الوقت الحالي. جل ما أردته من ورائها تسليط الضوء على بعض أمثلة القرارات الفاشلة التي يتخذها المترجم فتفسد بلاغة أو أدبية أو إحالةً ما.
لو وصفت مشهد الترجمة الأدبي لدينا بالمنحط، لما جانبتُ الصواب قيد أنملة (متعوب عليها قيد أنملة بالمناسبة). إن المشهد منحط، وفاشل، ومليء والتبجيل والتشبيك الثقافي وأرفع لك واكبس لي بكل ما تعنيه الكلمات. وطالما سارت منظومة النشر بأصحاب دورها المحتالين ومترجميها اللعابين وقرائها المطبلين، فمحلك سر. وليس محلك سر حتى، بل هي انتكاسة على الأعقاب تغيّب إمكانية الخروج بقراءات أدبية وفكرية حقيقية للأدب، وتكرس وهمية عوالم لا تمت للنصوص بصلة. والأدهى من كل ذلك أن الانتكاسة تضع عقبةً معرفية عويصة؛ كيف يتواءم نقد أدبية الذات والآخر مع مثل الحارس في حقل الشوفان من ترجمات مشوهة؟
بعيدًا عن سوء ذائقة القارئ الزعول 😴🤣