لا أحب عادة بدء الخربوشة بتبرير العنوان الذي اخترته لها. الدافع الأوضح هو احتمال أن يكون العنوان جاذبًا أو مستفزًا بما فيه الكفاية لأن يستوقف الفرد في تايملاينه أيًّا كان، وهذا أمرٌ يعرف وعورته جيدًا كل من يشارك تدويناته على وسائل التواصل. الدافع الأقل وضوحًا -على الأقل لمن لا يتابع حسابي التويتري- هو رغبتي في مشاركة بعض التأملات حول كتاب صعود نظام الجدارة: ١٨٧٠-٢٠٣٣ (١٩٥٨) لعالم الاجتماع البريطاني مايكل يونغ. سبق ونشرت تغريدة ذكرت فيها أني أقرأ الكتاب قبل بضع ويكندات، ومن البديهي لثرثار زيي استغلال كل شاردة وواردة كي يدلي بدلوه.
الدافع غير الواضح إطلاقًا هو المنحى الذي سأتخذه في السطور أدناه. بمجرد إنهاء الكتاب، راودتني بعض الأفكار التي أذكر أني وقعت عليها سابقًا، ولم أرغب بتقليبها كما لو أني جئت بها بنفسي. ولذا حفرتُ في قراءاتي السابقة حتى عثرتُ عليها في الرأسمالية التاريخية (١٩٨٣) لعالم الاجتماع والمؤرخ الأمريكي إيمانويل فالريشتاين، ما دفعني لمعاودة قراءة الكتاب أملًا في صياغة الشوربة التي في ذهني بشكل أفضل. إذن، ستكون الخربوشة سلسلة من التأملات العشوائية حول هذه الثنائية ما بين الطرحين، أي بين نظام الجدارة (meritocracy) نظريًا وتجلياته التاريخية.
ولا تكتمل خربوشاتي طبعًا دون التعريج على جزء من تاريخي (تاريخي أنا، لست أعني رواية زكية). نسيت متى سمعت مصطلح "نظام الجدارة" أول مرة. ما أذكره هو علوقه بذهني -إيجابيًا- بسبب قدرته على حل مشكلة عويصة ترددت في كل مكان خلال نشأتي، ألا وهي مشكلة نظام الواسطة. جاء نظام الجدارة حلًا عادلًا مساواتيًا يعطي كل ذي حق حقه وفقًا لإمكانات الفرد نفسه، دون إفساح المجال لمعايير اعتباطية أو مجحفة. بدت المعادلة بسيطة: مؤهلاتك سر تعيينك؛ لكل مجتهد نصيب، ومن جد وجد ومن زرع حصد ومن سار على الدرب وصل. نشكر الطالب حسينزم على حكمة اليوم، أما الآن نختم إذاعتنا المدرسية مع فقرة سؤال وجواب بتقديم الطالب حمود الفشقة.
عمومًا، الأرجح أني سمعت المصطلح أيام البكالوريوس، قبل عقد ونصف من الزمن، كجزء من تجربة الطالب السعودي المبتعث الذي يجد نفسه فجأة قبال رؤى حياتية مغايرة لكل ما نشأ عليه. خلكم من سالفة الاختلاف في المعتقدات الدينية والسياسية وتباين بعض القيم الاجتماعية الكبرى، هذه الأمور متوقعة. ما أتحدث عنه هنا هي صدمة الرؤى المغايرة لما هو أبسط من ذلك: الوجبات الجماعية، و "عمق" روابط الصداقة والتجاور العابرة، واختيار التخصص الجامعي وعلاقته بهوية الفرد نفسه، وأمور مشابهة أخرى. وما تزال نقاشات العادات الاجتماعية بين طلاب انترناشونال حول شبّة النار في مدينة ميسون التكسساوية محفورة بذهني.
أستحضر هذه الأمثلة لأنها أجبرتني على التأمل مليًا في ممارسات اعتبرتها حتى ذلك الحين طبيعية أو بديهية بشكل من الأشكال، أو لنقل أني اعتبرتها خارج حيز همومي المباشرة. كانت خطتي الحياتي معدة مسبقًا: ابتعاث أرامكو ← بكالوريوس ← وظيفة. ورغم إدراكي المسبق بما ستنطوي عليه رحلة الابتعاث عمومًا من إثراءٍ ذاتيٍّ، بدا محض نافلةٍ لما هو ثابت وأهم وأساسي. بعبارة أخرى، صحيح أن مشوار البكالوريوس سيغذيني بما يصقل ذاتي وغيرها من الخرابيط، ولكن كل ذلك في سبيل أن أكون جيولوجيًا أفضل وأكثر استدارة (عاد شوفوا ما هي أنسب ترجمة لـ well-rounded مع الأخذ بعين الاعتبار تمدد كرشتي).
وأنا إذ أنظر لمحطات هذه الرحلة وانقشاع المنظورين الواسطاتي والجداراتي من تفسيري للعديد من الأمور اليوم، لا أنكر بتاتًا ما شغلته ثنائية الواسطة/الجدارة في ذهني سابقًا. آمنت فعلًا بأن الواسطة عقبة في طريق الحق، وأن الخلاص ممكن عبر الاستمساك بأسس منظومة الجدارة بلا أي تهاون أمام الواسطات. وبإمكاني جعل المقالة سطحية وقول أن انخراطي في عالم الشركات جعلني أدرك أن الواسطة موجودة مهما اختلفت مسمياتها، أو أن أذكر الاتهامات المتعددة التي طالتني حول كوني منتفعًا من نظام الواسطة لأشير نحو بطلان هذا النوع من التبريرات، لكن سأوفر سطحيتي لمقالات أخرى. ما سأقوله هنا هو أن إيماني السابق بأولوية الجدارة المطلقة قد أفسح الطريق لأسئلة أعقد حول سياقات توظيف المفهوم نفسه. وذلك طبعًا من باب أن للمفهوم تاريخًا يؤدي تجاهله لقراءات مضللة.
بادئًا ذي بدء، من الجدير التنويه على أن تأليه الجدارة وتطبيقها على كل مشارب الحياة مطابقان لما ينادي به السارد في كتاب صعود نظام الجدارة. الكتاب نصف تخييلي ونصف واقعي، مسرود كمقالة بحثية تاريخية على لسان باحث يعيش في المملكة المتحدة عام ٢٠٣٣، محاولةً منه لتقصي جذور حراك شعبوي مناهض لمنظومة الجدارة المهيمنة في تلك الحقبة المستقبلية. تقوم هذه المنظومة على معادلة مباشرة: الجدارة = معدل الذكاء (IQ) + الجهد. وقد بلغ تغلغل أسسها أنْ طُوّرت اختبارات تحديد معدل الذكاء منذ سن مبكرة بحيث يضمن الفرد حصوله على أفضل الفرص التعليمية والوظيفية دون الحاجة لإضاعة وقته وجهده فيما لم يولد لأجله. بعبارة أخرى، في سبيل تحقيق أقصى فعالية للنهوض بالدولة، بات لزامًا تحديد إمكانات الأفراد في بداية حياتهم من أجل توظيف هذه الإمكانيات على الوجه المطلوب. وهذا واضح من استشهادات السارد المتكررة بما بلغته الأمم المتقدمة الأخرى، كالولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي.
يتقصى السارد جذور الجداراتية في بريطانيا أواخر القرن التاسع عشر، مستشهدًا بجهود إصلاحية (واقعية، لا متخيلة) من قبيل قانون تطوير التعليم عام ١٨٧٠. بمرور الزمن، أدى هذا القانون إلى تعزيز فكرة قابلية الفرد للتغلب على ظروفه والصعود على السلم الاجتماعي من خلال منظومة التعليم، الأمر الذي ساهم في بروز مختلف المجالات التي تحاول استثمار هذه القدرات الفردية واكتشافها. من أهم هذه المجالات علوم النفس والاجتماع والإحصائيات وتحسين النسل (ضربة من تحت الحزام للعلوم التي تبرر الوضع السياسي الراهن)، التي استثمرت قدراتها في تطوير مؤسسات قادرة على اصطفاء النوابغ ووضعهم في مسارات تضمن العوائد الأقصى ضمن اشتغالاتهم.
ولأن معدل الذكاء خاصية فردية، فمن المنطقي أن تتضاءل أهمية الامتيازات الموروثة كالثروة والمناصب وقتما اتضح أنها لا تصب فعلًا في سبيل إحراز فعالية النظام، إذ لا يمكن شراء الذكاء ولا تعويض القصور الفردي من خلال الارتكان لمكانة الأبوين. وفي الوقت نفسه، نظرًا لانبناء نظام الجدارة على سلسلة من الإصلاحات والتشريعات الواقعية في بريطانيا، يُعرّفنا السارد على الدور المحوري الذي لعبته حراكات العمال والاشتراكيون -إلى جوار التعليم- في تقويض أسس الأنظمة القديمة (كالإقطاعية) وفي نشر فكر المساواة في المجتمع. وهذا ما جعل هيمنة الجداراتية متزايدة منذ منتصف القرن العشرين، حيث صرنا نشهد انقسام أفراد المجتمع ككل على طول معدلات الذكاء المختلفة عوض انقسامهم على عرقيًا أو طبقيًا-اقتصاديًا.
لكن كيف سيُدار المجتمع وفقًا للأسس الجداراتية إذا ما أخذنا بعين الاعتبار كون قادته أكبر المنتفعين من النظام؟ كيف ستتشكل طبقات المجتمع وعلى أي أسس تتمايز؟ وما حال المحكومين في ظل نظام يعيد إنتاج الطبقات الاجتماعية بمجرد اشتغاله؟ هذا تمامًا ما يتخلل سطور كتاب نظام الجدارة. هنا نقطة تستلزم التنويه. استخدمت من البداية مصطلح "نظام الجدارة" (لا الجدارة وحدها) لأن بريطانيا في زمن الكتاب ليست ديموقراطية (democracy) ولا أوليغاركية (oligarchy) ولا ملكية (monarchy)، بل جداراتية (meritocracy)؛ دولة يحكمها الجديرون. وبالتالي فإن الحراك الشعبوي الذي يستهجنه السارد مطلع الكتاب حراك يناهض النظام الذي ينسب لنفسه الفعالية الطبيعية المطلقة.
لا أود حرق المزيد من تفاصيل الكتاب، والمهم عندي أن الأطروحة واضحة بما فيه الكفاية للانتقال للنقطة التالية. ذكرت أني سمعت المصطلح على الأغلب في سنواتي الجامعية الأولى، في عز السباق الانتخابي بين باراك أوباما ومِت رومني. وجودي في ولاية جمهورية يعني احتدامًا مستمرًا للجدالات إزاء سياسات التمييز الإيجابي (affirmative action)، والتي تهدف بشكل عام لإعطاء أفضلية التعيين لأفراد ينتمون لمجموعات لطالما كانت مهمشة في التاريخ الأمريكي. استصدر الرئيس جون كينيدي القوانين بشكلها الحالي في عام ١٩٦١، هادفًا من ورائها لوضع أسس المساواة العرقية. وهنا بالطبع دار رحى الجدال حولما إذا كان إعطاء أفضلية التعيين للمجموعات المهمشة وسيلةً لإصلاح الأضرار التاريخية التي لحقت بالمجموعة أو محض تمييز معكوس يحرم الجديرين فعليًا من الحظي بفرصة. فحتى لو كان الفرد المصنف على أنه أبيض مثلًا يؤمن بوجوب تعويض السود عما لحق بهم تاريخيًا، يختلف الأمر حين يشعر بأنه كفرد مهدد بألا يحصل على وظيفة أو مقعد بسبب نظام المحاصصة أو ما أشبه.
من جدك يا حسينزم تبغى بس تهايط بما درسته في كلاسات التاريخ والعلوم السياسية؟ لا والله، هناك سبب وجيه وراء هذا الاستطراد الطويل. ذكرت نشر كتاب نظام الجدارة عام ١٩٥٨، واستصدار جون كينيدي قوانين التمييز الإيجابي عام ١٩٦١. طيب، فلنلق نظرة سريعة على استخدام مصطلح "نظام الجدارة" في اللغة الإنجليزية منذ مطلع القرن التاسع عشر حتى اليوم:
انترستنغ، ولكن ليس بما فيه الكفاية. نعرف آلريدي من المعلومات حول كتاب مايكل يونغ أن رواج المصطلح منسوب له، وبالتالي من البديهي أن يتزايد استخدام المصطلح منذ أواخر الخمسينيات. هذا صحيح، لكن وقتما قارناها برواج التمييز الإيجابي، سنجد ما هو انترستنغ أكثر:
شهد المصطلحان رواجًا ملحوظًا في نفس الفترة، أي منذ ستينيات القرن الماضي. ولو أجرينا بحثًا غوغليًا بسيطًا عن التمييز الإيجابي والجداراتية لوجدنا عشرات آلاف الكتابات التي تتناول نجاح أو فشل السياسات في تجذير وتعزيز الجدارة. بعبارة أخرى، اعتُبرت الجدارة معيارًا موضوعيًا تقاس بواسطته أحقية الفرد في الحصول على منصب أو وظيفة أو مقعد من عدمها. إذن، نحن قبال مفهومين تبلورا في فترة واحدة تاريخيًا، واستُخدما في تفسير بعضهما البعض سلبًا وإيجابًا. ما غاب عن الكثير من هذه الكتابات والجدالات -ونجح مايكل يونغ في تسليط الضوء عليه بشكل جيد وساخر- هو ماهية الجدارة نفسها.
ففي حين يُنظر للجدارة على أنها معيار عادل ومحايد وموضوعي، نجدها في الحقيقة قناعًا لآليات تتجاوز إمكانيات الفرد نفسه. كل تعريفٍ للجدارة يستبطن خواص فردية يُفترض أنها معزولة عن العوامل التي تقرر أصلًا الموارد المتاحة للأفراد، كالعرق والجنس والطبقة الاقتصادية وحتى الامتيازات الموروثة. وبالتالي فإن الجدارة تستبطن أرضية متكافئة تُحوّل الإشكالات المؤسساتية إلى قصور وعيوب فردية.
فلنأخذ مثلًا مقالة منشورة على النيويورك تايمز عام ١٩٩٠، بعنوان: رأي سلبي حول التمييز الإيجابي. يستفتح الكاتب مقالته قائلًا: "لا شك وأن الجميع يتفق على أن التوظيف والترقية والقبول الجامعي ينبغي أن تعتمد على الجدارة [merit] فقط". وفيما يليها من سطور، يتطرق الكاتب لبعض آراء توماس سويل (الغبية كما هو متوقع) حول الجدارة والسياسات التفضيلية في أمريكا والعالم، محاولًا بأدب طرح وجهة نظره الخاصة حول صعوبة التأكد أحيانًا من الحد المائز بين الجدارة والافتقار لها (ويستشهد في نهاية المقالة بمايكل يونغ حتى).
ما يغيب عن المقالة هو نفس ما يغيب عن العديد من الأطروحات حول المصطلحين، وهو ما يعيده إيمانويل فالرشتاين لقلب تنظيره حول الرأسمالية التاريخية: التحليل المؤسساتي. أبسط تعريف للتحليل المؤسساتي هو أنه دراسة الكيفية التي تشتغل بها المؤسسات بما يوجه/يُشكّل السلوك الحياتي اجتماعيًا وسياسيًا وفكريًا واقتصاديًا. بعبارة أخرى، هو التحليل الذي ينطلق من أولوية دور المؤسسة في تشكيل حياة مجموعة من الأفراد، أي الحياة الاجتماعية.
في المقالة المذكورة وفي الكثير غيرها، تتمحور الأطروحة حول سؤال: هل تسهم سياسات التمييز في تعزيز الجدارة أو تقويضها؟ المفارقة هي أن الجدارة خاصية فردية، أي على مستوى الفرد، في حين أن السياسة التفضيلية تشتغل على مستوى المؤسسات، حالها حال التمييز العرقي. صياغة السؤال بما يجعلهما على نفس المستوى سيؤدي بالضرورة لقراءات تسيء فهم الأمرين على حد سواء، إذ أنه سينسب للأفراد ما يقع فعليًا في نطاق أكبر منهم (دون أن يكون مستقلًا عنهم طبعًا).
وعلاوة على ذلك، يؤدي نسب الجدارة للفرد -بما هو فرد- لإغفال كل العوامل الأخرى المؤثرة على تجلياتها. بغض النظر عن ماهية الجدارة المزعومة، مجرد اعتبارها كامنة في الفرد يعني بالضرورة التعاطي معها بمعزل عن أي ارتباطات اجتماعية. في عالم مايكل يونغ، صارت الجدارة آيديولوجيا مؤسسات بريطانيا على أساس أنها معيار علمي موضوعي يضمن لكل فرد حصوله على ما يستحق. وكما أسلفت ذكرًا، هذه الجدارة عبارة عن مجموع معدل الذكاء (IQ) والجهد، وكلاهما مرتبطان بالفرد وإمكانياته الخاصة.
وهذه هي تحديدًا نقطة انطلاق فالرشتاين الذي يرى في نظام الجدارة (وفكرة الجدارة نفسها) أداة آيديولوجية تخفي آلية عمل المؤسسات من خلال تركيزها على المستوى الفردي. سأقتبس جزئية مطولة نوعًا ما من كتابه:
وكانت [الثقافة العلمية] علاوة على ذلك، آلية مرنة لإعادة إنتاج هذه الكوادر؛ إذ هيأت الطريق لمفهوم (الجدارة) كما نعرفه اليوم [...] إذ خلقت الثقافة العلمية إطارًا سمح بالحراك الفردي من دون أن يتهدد التوزيع التراتبي لقوة العمل؛ والجدارة في المقابل، هي ما عزز هذه التراتبية. وقد خلقتا معًا -وأعني الجدارة بوصفها ملية، والثقافة العلمية بوصفها آيديولوجيا- حجابًا حال دون إدراك العمليات الكامنة في الرأسمالية التاريخية.
مفاد هذه الجزئية هو ما يكرره فالرشتاين في خاتمة الكتاب بأن الجدارة قادرة فعلًا على تفسير صعود بعض الأفراد على السلم الاجتماعي، سوى أنها في نهاية المطاف لا تغير شيئًا في آلية عمل المنظومة نفسها (الرأسمالية في حديثه). سأستخدم هذه الإشارة لأعود للنقطة أعلاه حول ضرورة إقحام التحليل المؤسساتي في قراءة ثنائية الجدارة وسياسات الأفضلية لئلا نغفل الدور المحوري للعوامل الأخرى. حين نضع هذا التحليل في قلب قراءاتنا، سنجد أن كثيرًا مما ننسبه للأفراد ولسلوكياتهم لا يعدو كونه استجابة وتمازجًا مع ما هو خارج نطاق سيطرتهم ابتداء. وهذا صداق ما ذكره تشارلز ميلز في مثاله عن البطالة: ربما يلام الفرد على بطالته في حال توفر الفرص بشكل من الأشكال، لكن كيف يلام عليها إذا ما وجد نفسه في منظومة ترتفع نسب البطالة فيها إلى ١٠٪ أو أكثر؟
تتفاقم وعورة الطريق حين نضع بعين الاعتبار السياق التاريخي لرواج نظام الجدارة (والتمييز الإيجابي)، ألا وهو منتصف القرن العشرين وما شهده من حركات ثورية مناهضة للاستعمار وحركات حقوق مدنية طالبت بإدماج الفئات المهمشة في مؤسسات كانت محرومة منها. هل يحتاج أن نتذكر أولى محاولات تقويض قوانين جون كرو وإلحاق الطلاب السود بالمدارس المخصصة للبيض؟ أو نسب التحاق النساء بالتعليم العالي؟ نعم، أعلم أن الاستشهادين بأمريكا فقط، لكن لا يمكن إغفال هيمنتها المتنامية بعد الحرب العالمية الثانية وارتباط كتابي يونغ وفالرشتاين بها.
زين، ولماذا نضع العوامل الأخرى بعين الاعتبار يا حسينزم؟ لماذا لا تعترف بمسؤولية الفرد في مكانته الاجتماعية كما يقول أرباب النيوليبرالية ومن والاهم؟ لأن الاعتراف بذلك يعني ضرورة إيماني بالعديد من الخرافات، وأنا أحاول التقليل منها بقدر الإمكان. منها مثلًا خرافة نقطة الصفر الوهمية في التصور الفردي للجدارة، كتلك التي يبدأ منها المليارديرات عندنا. منها أيضًا خرافة الفرد المقطوع من الشجرة، والتي تجعل الفرد مبتدأ ومنتهى كل الظواهر كما لو أن الظروف الاقتصادية-الاجتماعية بلا معنى. ومنها بطبيعة الحال خرافات أخرى كرستها العلوم الاجتماعية والإنسانية في تعليب المقولات والمفاهيم التي نتعاطى بها مع الواقع حولنا، والتي تفرض أنماطًا ذهنية تعنّف تعقيد الظواهر على طول أولويات محددة.
فالحقيقة هي أن التذرع بالجدارة ليست إلا إمعانًا في مواراة آليات اشتغال عمليات أكبر. وفي ظل منظومة عالمية قائمة على مراكمة الثروات وإخضاع كل العلاقات لمنطق الربح، يستحيل تخيل الجدارة إلا بصفتها جزءًا من تقسيم هذه الثروات وإعادة توزيعها بما لا يهدد أسس المنظومة ككل. وإن زعمت الجدارة توسيع نطاق المستفيدين ظاهريًا، ولكنها -كالواسطة- تمتلك أسّها في سلسلة من المصالح التي تتجاوز بالضرورة كل محاولة فردية لخلق بيئة مساواتية. وبالتالي فإن نقد الواسطة (وهو نقد مشروع طبعًا) ينبغي ألا يعمينا لقبول نقيضها الظاهري وحليفها الباطني الجدارة، أو على الأقل الجدارة كما طرحتها هنا. إن سؤال عنوان الخربوشة مضلل، وستبدو الإجابة بـ "نعم" بديهية حد الحماقة وقتما وضعنا الواسطة والجدارة قبال بعضهما البعض. لكن بمجرد تساؤلنا عن أسس الجدارة، بمجرد تسليطنا الضوء على الحيل المحتملة في خلق جدارة وهمية، سنجد أنفسنا أمام أسئلة مغايرة.
وبس والله. آسف لتخييب ظن من اعتقد أني سأطرح حلولًا منهجية أو ما أشبه لهذه المشاكل. تعرفون إنه شغلي الشاغل هو التحلطم السلبي، وما أردت سوى مشاركتكم بعض التأملات حول عواقب إغفال السياق التاريخي لصعود فكرة الجدارة ومنظوماتها ودورها في تقنيع إشكالات مؤسساتية (أو بنيوية) عويصة.