مقدمة لا بد منها
يحب المثقفون أن يشعروا بالذكاء. ليس أي ذكاء طبعًا. نظريًا، كلنا نستانس بهذا الشعور، حين نحس بأن عقولنا توصلت بنفسها لأمر جهلته سابقًا، أو ميّزت شيئًا مختلفًا يكسر روتينية المدركات. لكن ذكاء المثقفين مختلف. بشكلٍ عام، ينبني هذا الذكاء على إحساس المثقفين بأن النصوص تخاطبهم، وأنهم يجدون أنفسهم في السطور بشكلٍ أو بآخر. ولأن مثقفنا القدير يعتنق تصورات محددة عن مفاهيم من قبيل الحداثة والأصالة (أو التقاليد)، وتصورات محددة غبية عن عالم الثقافة والإنتاج الثقافي، وتصورات محددة أغبى منها عن هرمية الفكر والإنتاج المعرفي (ولا يدرك طبعًا دور تراتبيات السلطة فيما يتعلق بالإنتاج المعرفي، ولا يفقه أسس المنهجيات التي تنتج الفكر الذي يعتنقه ويؤمن به، ولا يعرف أبجديات تحليل وقراءة ما يستقبله)، فإن القصص التي يحبها ويعترف بها هي التي تستوفي غالبًا شروط حماقته وتكرس بنيتها. وهذا بطبيعة الحال ما جعل الكتّاب بدورهم يتبنون هذه الأطر ويرسمون مثالهم على خطوطها.
لكن هذا موضوع يطول. أريد هنا التركيز على النصوص السردية لأنها تعنيني أكثر. بعد قراءات متعددة للنصوص التي يتداولها المثقفون هنا ويروجون لها بصفتها فتحًا مبينًا أو ما أشبه، خرجتُ ببضعة خطوات أدركت أنها قابلة لدغدغة ذائقة المثقف الأدبية وإيصاله للنشوة الثقافية دون عناء يذكر. وهذه الخطوات مثل البهارات المشكلة التي يمكن إضافتها لجميع أنواع الودمات؛ بضع رشات منها قادرة على جعل السمك والدجاج واللحم ذوي طعم متميز ومتشابه في الوقت نفسه. بعبارةٍ أخرى، مهما كانت فكرة السرد أو غاياته، يمكن رش البهارات عليه لإضفاء الطعم الثقافي. ولأني مثقف تنويري رسالي تبشيري، لا بد طبعًا أن أشارككم البهارات الثقافية كي تتنوروا أنتم أيضًا وتكتبوا نصوصًا يتداولها مثقفونا:
· فلفل الحداثة/التقليد: هذا البهار يجعل كل نص يكتسب طعم ثنائية الحداثة المعقدة الشريرة والماضي البسيط السعيد.
· كركم التشبيهات: هذا البهار يضفي جمالية على النص من خلال ملئه بالتشبيهات الشعرية والشاعرية على الطالعة والنازلة.
· كمون الخشونة البدوية: هذا البهار يتكامل مع فلفل الحداثة والتقليد من خلال ربط الماضي بالخشونة والحاضر بالنعومة، ويتجلى طعمه في الإصرار على أن الأصل في الحياة هي أسماء بدوية خشنة تكثر من استخدام حروف (ث، خ، ف، ص، ض).
· ملح الحضارة الأوروبية: هذا البهار أساسي في النص لتذكير مثقفنا بحالة الاغتراب التي يعيشها عن مجتمعه، والتي يشعر فيها أنه أقرب لمتخيل طبقة الإنتلجنسيا الأوروبية في ذهنه من قربه لمجتمعه. وينبغي عدم الإكثار من استخدامه، فالقليل منه كافٍ لموقعة النص في كنف الحضارة الأوروبية المتطورة والمتقدمة.
· سماق المعلومات: هذا البهار يزود النص بالكمّ المناسب من المعلومات التي تصبّر القارئ على قراءته للنص الأدبي. حيث معروف أن الرواية تافهة إلا إذا ما احتوت على فائدة معلوماتية أو لغوية.
· ريحان العمومية: هذا البهار مهم لإزالة أي طعم يحدد المكان أو الزمان أو غيرهما مما يتعلق ببناء العالم السردي بشكل حقيقي ومخصوص.
بطبيعة الحال، ثمة بهارات أكثر على الرف، ولكن هذه العينة البسيطة تكفي مدخلًا لكتابة نص يتذوقه المثقفون ويجدون أنفسهم فيه. والمثال أدناه مبني على توليفة ممكنة لهذه البهارات لإثبات إمكانية تأليف نصوص كاملة بمجرد رش بعضها.
قصة المثقفين القصيرة وعنوانها: أن تتناول العشاء مع سارتر محدقًا في هاوية السماء
استيقظ فزعًا معتقدًا أنه تأخر عن عمله كمهندسٍ في إحدى الشركات العالمية التي يعرفها الناس حول العالم، لكنه سرعان ما تذكر أنها عطلة نهاية الأسبوع الطويل الذي لم يحصل فيه على ترقيته المنتظرة. حدق في ساعة هاتفه فوجدها تشير للثامنة صباحًا. كان صباح يوم السبت الذي لا يشبه يوم السبت ولا الأحد ولا الاثنين ولا الثلاثاء، بل بدا كأنه الساعات الأخيرة ليومٍ رأسمالي.
تمدد على سريره القطني متلحفًا ببطانية شتائية كدودةٍ تتمدد في شرنقتها. كاد يواصل النوم لولا أنه تذكر وعده لمازن ليلة البارحة بأن يتناولا الإفطار معًا في بوفية أبي صليبيخ الواقعة في الحي القديم من القرية التي لم تطلها أنياب الرأسمالية.
تململ وهو يتذكر حينما جلسا معًا على طاولة خشبية مستديرة مصنوعة من خشب السنديان المستورد من سريلانكا. كانت الطاولة الملأى بنقوش ذكريات الجالسين عليها عبر السنين وبحروف العشاق والعاشقات وبأرقام الجوال المغازلجية قابعة في الجدار الشمالي من النادي، وقد جلس مع مازن يحتسيان كؤوس البيرة الألمانية الواحد تلو الآخر، كعصفورين واقفين على حافة بركةٍ من أمطار شهر نيسان التي تهطل على جدران القرية الطينية فتغسل ما تجمع عليها من أدران وتطهر ذنوب قاطنيها، كتائبٍ يقف على باب المعترفِ الخشبي الذي تفوح منه رائحة العنبر الذي يستخرج من بطن الحيتان ويستخدمه البشر منذ آلاف القرون. والحقيقة أنه يجد في الإيمان ملجأ لروحه حتى لو لم يكن متدينًا هو شخصيًا. ذلك أن الإيمان جزءٌ من الحياة، صرخة من لا صرخة له، أفيون الشعوب، انفراجةٌ نورانية في وجه العتمة التي تحدق بقلوب أفسدتها الأيام في المنظومة الرأسمالية.
قبل أن ينهي كأسه الأخير في النادي رأى ليلى تقهقه مع صديقاتها في الناصية المقابلة لهما. لم يبد أنها رأته وهي تفرفش شعرها الأسود الفحمي المنسدل على كتفيها كليلٍ كموج البحر أرخى سدوله عليه بأنواع الهموم ليبتلي، أو كأبيات أخرى لامرئ القيس، ذلك الشاعر الذي عاش في الجاهلية لكنه لم يكن جاهلًا. تذكر حين مارسا الجنس، حين التحم جسداهما في الحب، لحظةً أبديةً تعجز عن تصوير أحاسيسها حتى لوحات فان جوخ وأفلام المخرج الأمريكي كوينتن تارانتينو، لحظة أبدية تشابه في عظمتها نزول بروميثيوس بنار المعرفة للبشر الفانين. سوى أنه لا شك وأنه ندم على المعرفة التي أنزلها بروميثيوس، والتي صنعت أنظمة سياسية فاشية وديكتاتورية ونظمًا اقتصادية تجعلنا نعيش في كنف الاستهلاكية، كمنظومة الرأسمالية.
حين عاد بأفكاره إلى الحاضر، رأى رجلًا مفتول العضلات جالسًا إلى جوار ليلى، وسرعان ما بانت على شفتيه تكشيرة كهلالٍ في أواخر رمضان يتحين الناس انقشاعه كي يعود عليهم عيد الفطر بكل السعادات الطفولية التي نسوها مذ أصبحوا جزءًا من عجلة الإنتاج، تلك العجلة التي وصفها ماركس بأنها تجعل الإنسان يغترب عن ذاته، تلك الذات التي تظل حتى اليوم عصية على فهم الفلاسفة والمفكرين منذ أرسطو حتى يومنا الذي تحققت من خلاله نبوءات الفيلسوف الألماني الملتحي، برغم محاولات تايلور وجيدنز تفكيك الذات الحديثة. مات ماركس قبل أكثر من مئة عام لكنه ما يزال حيًا بطريقةٍ ما. وضع كأسه على الطاولة حتى كاد أن ينكسر كبيضةٍ بيد طباخ هيباتشي ماهر، وقال لمازن أنه يدعوه صباح الغد لتناول إفطارٍ أصيلٍ لم تلوثه الحداثة ولا النساء ولا الرأسمالية.
ولذا نهض من سريره أخيرًا، غسل وجهه وبدل ملابسه. ارتدى ثوبًا أبيض ورثه عن جده فغيبيص، ولملم حاجياته قاصدًا بوفية أبي صليبيخ. ما إن حطت قدماه على الشارع الضيق المتكسر حتى تراءت له أشعة الشمس الحارقة وأبواق السيارات الفارهة العابرة بين العمائر الإسمنتية التي عفى عليها الزمن رغم محاولات الناس بهرجتها في مشهد كافكوي بامتياز. سار إلى جنب الشارع الذي تكسوه في كلتا الضفتين واجهات المحلات الحديثة والأجهزة الحديثة واللوحات الحديثة التي قضت على الأصالة والتقاليد. بسبب الرأسمالية.
لكي يصل إلى البوفية، كان عليه المشي نصف كيلو جنوبًا، وأن ينعطف يمينًا عند مطبة مطعم السلام، ثم يهبط وادي فلعة المتشعب حتى يصل الشارع الذي يسميه أهالي القرية شارع بو خبيص. يجهل سبب التسمية، ولكنه يتذكر سماعه لإشاعات تتحدث عن عجوزٍ يتربع على قارعة الطريق وينتظر تجمع الناس حوله فيحكي لهم من حكايا القرية ما توارى عن المخيلات. ولكن حكاياته لم تكن دومًا دقيقة، ولطالما خبص الحابل بالنابل. وكان من البديهي حينما فارق الحياة عن عمرٍ ناهز التسعين أن يتذكر الناس الشارع باسمه، بو خبيص. بل من بين الإشاعات أيضًا أن بو خبيص لما شارف على الموت أدرك دنو أجله، فاستعد للأمر عن طريق توصية أهله وأحبائه ألا يقعوا في فخاخ ما يُشيّب الرأس، لا سيما ما يتعلق بالأمور المالية. ولما أقبل إليه ملك الموت وأدرك أن روحه ستقبض في حينها، حاول معاودة التوصية مجددًا، ولكن خوفًا من أن يداهمه الوقت قبل أن يكمل الوصية قرر اختصارها في كلمة وحيدة: رأسمالية.
لما وصل إلى البوفية وجد مازن ينتظره هناك في جينزه الأزرق المبيض كسماء تلبدها الغيوم قبل مطر أيلول. جلس على الكرسي قباله وهو يعتذر عن تأخره. تناولا سويًا كبدة وبيضًا مقليًا بالجبن المدهون، وشربا قدحين من الشاي المطعّم بالحليب تمامًا كما اعتادا في أيام الشباب الخوالي على ضفاف السين أو أحد مقاهي الشانزلزيه، قبل أن تتمكن من حياتهما مخالب الرأسمالية.
تمت
حسين إسماعيل
القطيف، السعودية ٢٠٢٣
ههههههههه تبا للرأسمالية
قبل ساعة بس كنت أفكر ليه طولت هالمرة ما نزلت مقالة 😅 أهلًا بك