الحلم هو البرهان على أن التخيل وتصور ما ليس له وجود حاجة من الحاجات الأساسية للإنسان.
كائن لا تحتمل خفته - ميلان كونديرا
تطل الشمس بآخر خيوط أشعتها فيستحيل العشب الأخضر بساطًا ذهبيًا. تشارف الدقائق التسعين على الانتهاء، ومن الجلي أن التعادل سينكسر قريبًا. هكذا يفترض به؛ التعادل في مباريات الحواري منقصةٌ لكلا الفريقين. أتذكر ارتدائي قميصًا أحمر. ربما كان طقم الاتفاق موسم ٢٠١٢ حينما دك تيجالي شباك الخصوم كائنًا ما كانت. أو ربما لخبطت ذاكرتي ما بين الطقم والبلوزة الوردية التي توج بها فريقي حين حققنا البطولة الجامعية. وردية كجزء من حملة توعية ضد سرطان الثدي. تحلطمت حينها. لو كان الأمر بيدي لاخترت البلوزة السوداء كسواد قلبي. أنا باللون الوردي؟ أبدًا ما يجي.
لكن ذلك غير مهم الآن. تصلني الكرة ممررة في المكان المناسب تمامًا. أقف على الجناح الأيسر، وأستلم الكرة بيمناي، ثم آخذ خطوة صغيرة استعدادًا لتسديدتي المفضلة، التسديدة المعروف أنا بإتقانها. كل ما علي الآن هو التحرك بزخمٍ بسيط، بعدها أقبّل الكرة بباطن قدمي اليمنى، وأتتبع تقوسها نحو الزاوية البعيدة عن الحارس. ياما سددت مثلها أهدافًا لا تعد ولا تحصى، والفرصة مؤاتية الآن لتكرار الهدف ونشوته.
لكن ثمة خطبٌ ما. أحاول جاهدًا لمس الكرة فلا تستجيب لي قدمي. لحظة. ما هذه الكرشة المتدلية أمام ناظري؟ ولماذا يضحك الجميع من حولي؟ يلا يا حسين، ما هي إلا شوتة واحدة! هيهات. أقف عاجزًا، ثقيلًا، مكرشًا (من الكرشة، لستُ مكرّشًا على أحد). وقبل إعلان الحكم انتهاء المباراة، أجدني أستيقظ شيئًا فشيئًا على غليان جسمي وتموجات الألم في أرجائه، محدقًا في مكيف غرفة الرق الصغيرة وهو يحاول خجلًا تقليل أضرار فشلي للمرة المليون في تسجيل هدف أحلامي.
تكرر هذا الكابوس مرارًا في الأعوام التي تلت تخرجي من مرحلة البكالريوس. وفي كل مرة، أستيقظ بنفس الغليان والسخط. أنا حسين، الذي داعبت الكرة منذ نعومة أظافري، صرت خارج الخدمة جراء الإصابة التي لحقت بي منتصف عام ٢٠١٤، أي حين كنت في الثانية والعشرين فقط. والأمرّ من ذلك أني سمحت لمقعد الدوام والوايت موكا والبروستد برفع وزني أكثر من عشرين كيلوغرامًا خلال سنة ونصف دون أن أشعر. من رياضي وزنه ٦٥ كغم لا تفارق الرياضة جدوله اليومي، إلى بطاطا تجاوز وزنها التسعين كيلوغرامًا. بطاطا مدورة في جميع الاتجاهات، تضيق قمصانها وبناطيلها كل شهر مرتين. صرت عجوزًا في العشرين! والله غبنة عصية على الوصف.
لكن لسببٍ ما، حين استيقظت من الكابوس أعلاه، قطعت على نفسي عهدًا ألا يتكرر مرة أخرى بأي من تفاصيله. كفى يعني كفى، حان الوقت للعودة للملاعب وتسجيل الأهداف الواحد تلو الآخر. ولذا بدأت منذ عام ٢٠١٧ أعاود الرياضة بعد انقطاع ثلاث سنوات. بدأت بالمشي، ثم الجري، وشيئًا فشيئًا أدخلت تمارين المقاومة في روتيني. بشكل عشوائي في البداية بطبيعة الحال، إذ نسيت كل ما تعلمته خلال سني رياضتي، ولكن تأسيس العادة والمواظبة عليها يعني -بالنسبة لي- قطع أكثر من نصف المشوار.
وفي نفس الوقت الذي بدأت فيه إنقاص الرقم على الميزان، التزمت بجلسات علاج طبيعي علها تصلح بعض العطب الذي لحق بجسمي إثر انقطاع وتر عضلة فخذي الخارجية، وهي الإصابة المزمنة التي ألحقت العديد من الأضرار بعضلات حوضي وأسفل ظهري. أخبرني الطبيب بأن انقطاع وتري جعل جسدي يُكلّس عظمًا في منطقة يفترض ألا يوجد بها سوى العضلات، وهذا السبب الرئيسي الذي جعل حركة سيقاني محدودة. ولأن نسبة نجاح العملية ليس عاليًا بما فيه الكفاية، أشار علي بمزاولة العلاج الطبيعي لتحسين الحال (لم أذكر له طبعًا دور المقالي والغازيات في إيصالي لهذه المرحلة). اقتنعت بكلامه، وباشرت كل ذلك في الآن نفسه لئلا أتخاذل أو أتقاعس نهائيًا.
ألحت هذه الذكريات على قلبي وأنا أقرأ تأملات كونديرا حول أحلام تيريزا في روايته كائن لا تحتمل خفته. وجدتني أشارك تيريزا مشاعر العجز والخيبة كلما راودتها أحلام الحب والفراق. بكل حلم أقرؤه، أتذكر التمازج الغريب الذي عايشته ما بين الحلم والحقيقة، ما بين الخيال الذي لم يحدث والواقع الممكن حدوثه كما في الأحلام. بل لا أجد بدًا من التأمل في كيفية توليد الكابوس واقعًا مغايرًا أفضل. صحيحٌ أني حلمت مرة كيف أهزم وحشًا في لعبة سونيك أيام السيغا، وقد كان هو الآخر حلمًا أثمر عن واقع أفضل، لكن هذه المرة مختلفة، إذ أن التغير الناجم عن الحلم قد امتد ليصبح جزءًا من حياة جديدة -نسبيًا- عوض كونه لحظة عارضة.
يمكنني مواصلة الفكرة والزعم بأن الأحلام باتت جزءًا رئيسيًا من أفكاري وقراراتي اليومية، لكن هذا المنحى سيبتذل المقالة أكثر، وسيظهرني كحالمٍ يفر من الواقع فراري من المعصوب. الأجدر بالتأمل هو التكامل غير المتوقع ما بين نومي ويقظتي للحد الذي صرت أحتفظ فيه بمفكرة خاصة لتدوين ما يراودني أثناء النوم، محاولة بسيطة لجعل الممكنات واقعًا في يوم ما. أستثني بالطبع الأحلام التي أحضر فيها بصفتي سوبرمان ينقذ العالم من الروايات البائخة.
من حسن حظي أن ثمار العهد الذي قطعته في ٢٠١٧ قد ظهرت سريعًا بما يكفي لاستمراري على الروتين حتى اليوم. راقبت الرقم على الميزان يتضاءل من التسعينات إلى الثمانينات وصولًا لمنتصف السبعينات (زدته كتلة عضلية لاحقًا لأجعله يستقر على مطلع الثمانينات). كما أن تمارين المقاومة أعادت جزءًا من التفاصيل التي توارت خلف طيات الشحوم، رغم أن البيتزا ترفض حتى اليوم ظهور النتوءات الستة ببطني. عدت ألعب الكرة وأتابعها بنفس الحماس والشغف السابقين، حتى وإن ظلت مرونة تحركاتي أقل مما كنت عليه. والأجمل من كل ذلك؟ توقف الكابوس كليًا عن زيارتي منذ خمس سنوات.
دائمًا ما أحب خربوشاتك حسين بسيطة،تحمل معنى،متواضعة. واليوم زاد المعنى بقصة تحمل طابع نفسي ذو آثر إيجابي عليك. عافاك الله من كل أذى وغفر الله ذنب البطاط. الله يقويك يارب