بدت فكرة العض على الأصابع منطقية بنظر ياسين وهو يحدق في شاشة هاتفه. سيضرب العض عصفورين بحجر واحد: عض أصابع ندمه -مجازيًا- بسبب استيقاظه المبكر من غفوة الظهيرة المعتادة، وهو الاستيقاظ الذي أوقعه في مأزق امتلاك وقت فراغ إضافي حتى نهاية اليوم؛ وعض أصابعه -حرفيًا- لعله يكسب حجة مقنعة تُفسِّر تأخر رده على رسالة سمية الوتسابية. قرأ الرسالة للمرة العاشرة بلا أمل في الخروج من المصيبة: "هناك أمسية شعرية الليلة، يقيمها نادي ابن الطبرجل، تحضرها معي؟"
ليتها تعلم كمية الجهد المبذول والساعات الضائعة التي تحاشى فيها أي دعوة محتملة كهذه! من ناحيته، يدرك مذ بدأ مواعدتها أن اللحظة آتية، وأن مصيره ارتياد التجمعات الثقافية التي تجد ابنة البحر -كما لقبها ناقد كبير إثر قصيدتها الأشهر- نفسها فيها، طائعةً كانت أم مضطرة. لكن ما ذنب الناقد السينمائي المتواضع كي يفني من عمره ساعتين بأمسية شعرية؟ وفي الويكند؟
أعادته رسالة استفهامية "؟" لما بين يديه. ما تزال سمية أونلاين، تحتري ما ستتمخض عنه عبقرية حبيبها التسويفية والتهربية. بل استبقت حججه الباهتة برسالة إضافية تضعه أمام الأمر الواقع: "تذكر أني ذهبت معك لعرض فيلم عبدالعزيز. دورك الحين".
خطت أصابعه ردًا سريعًا: "أمري لله، ولكنها آخر مرة. مستعد أسوي كل شيء ولا أحضر هالأمسيات". وقبل أن يضغط زر الإرسال، مسح الرسالة كاملة وأعاد صياغة ما يجول بخاطره: "كل شيء لأجل خاطرك، حتى حضور الأمسيات الشعرية". نعم، هكذا أفضل. رغم كل مساوئ الليلة المحتملة، يستطيع على الأقل جني بعض نقاط الكوكيز من ورائها. إشعار رسالتها أنبأه بنجاح تكتيكه: "ساعتان وحسب. إن لم يعجبك الوضع، نجلس شوية ثم نخرج ونتعشى".
ارتسمت حينها فكرة وحيدة بذهنه: إذن سنخرج ونتعشى باكرًا.
--------
"بليز أخبرني أنك لن تذهب بهذا الشكل؟"
لم يبشر هذا السؤال الاستنكاري بخير، خصوصًا حين يكون أول ما تفوهت به سمية وهي تركب سيارة ياسين.
رد عليها بذات الاستنكار: "وش فيه شكلي؟"
حاسر الرأس، مرتديًا ثوبًا شتويًا يقترب لونه من سماء الفجر، ويخلو قماشه من أي تطريزات أو بهرجات.
"كل مرة نخرج ترتدي ثوبًا أبيض، عاقت على هذه المرة؟"
"الجو بارد الليلة، وكل ثيابي البيضاء خفيفة"
"أف منك. ستجيب لنا كلامًا لا داعي له"
"لا أفهمك، أين المشكلة؟"
"أنت تعرف تمامًا أنهم سيحاكمونك من النظرة الأولى لمجرد ارتدائك ثوبًا غير أبيض. ولأنك معي، سيأتيني رذاذ الحش عليك!"
"ما صار ثوب أزرق! أشعر أنك تبالغين أكثر من اللازم. إن تفوهوا بشيء -ولن يحدث ذلك-، قولي لهم أني جئت مباشرة من مشوار آخر ولم يسعفني الوقت لتغيير ثيابي"
"أعانني الله. على هذه الحال قد تضطر للجلوس كامل الساعتين، تعويضًا عما قد يحدث. نشوف الوضع وأقرر"
أجال ياسين النظر إليها، حسب ما يمكنه وهي جالسة في مقعد السيارة على الأقل. كاد يسائلها عن اختيارها لفستان ذي ألوان زاهية موردة تحت بالطو رمادي، وحذاء أسود رفيع قليلًا يعكس أضواء لمبات الشارع. اختيار أوڤر بكل صراحة. ولكن رغم ذلك، عدل عن قول أي شيء. كل ما يفصلهما عن الوصول لمسرح الشرق عشر دقائق، والأفضل أن يقضياها بلا مشاكل.
قطع الصمت بسؤال أراد منه تلطيف الجو: "ما مناسبة الأمسية؟"
"تكريم شاعر"
"نشر ديوانًا جديدًا؟"
"لا. أقصد نعم هو نشر قبل فترة ديوانًا، ولكن التكريم بسبب فوز إحدى قصائده بجائزة عالمية"
"من هو؟"
"نور البنيوي"
"اممم، لا أعرفه"
"تعرفه. هل تذكر ذاك الذي سولف معي في مهرجان الأفلام؟ الذي قلتَ أنه يشبه ديفيتو؟ هو نفسه"
"أوه ذاك. ما شاء الله جائزة عالمية؟ لم يبدُ أنه معروف لهذا الحد. ما هي الجائزة التي حصل عليها؟"
"نسيت، جائزة من أمريكا إن لم يخب ظني"
"أبدًا مو باين عليه، بس كفو والله، جائزة من بلاد العم سام" رد بابتسامة غير متبادلة. يحمد ربه أن كان للتو قد أخذ المنعطف الأخير قبل الوصول. "هل نستطيع إيقاف السيارة هنا؟ أم هناك مواقف أقرب؟"
"تستطيع إيقاف سيارتك داخل المقر، لدي تصريح. ترى سوبرماركت الوديعة في الزاوية؟ هناك لفة صغيرة تؤدي للمدخل الخلفي للمقر"
وهذا ما حدث. وصلا خلال دقائق لبوابة حاجزة، صغيرة ربما. ولولا أن وقف أمامها حارس ضخم مرتديًا بلوزة وبنطالًا سوداوين، لما حزر ياسين كون البوابة تابعة للمقر أصلًا، ولربما كانت أقرب لمدخل تحميل بضاعة السوبرماركت. على كل، قاد ياسين سيارته ببطء، متمهلًا بإيماءات الحارس الذي استوقفهما واقترب. أخرجت سمية من حقيبتها شريطًا أزرق ارتدته امتدادًا من كتفها الأيسر نحو خصرها الأيمن. وبمجرد اقتراب الحارس ورؤيته الشريط، فتح البوابة منحنيًا بعض الشيء وسامحًا لهما بالدخول. مرت سيارة ياسين نحو فناء بدأ يضيق بالسيارات المصطفة فيه. ولم تتح لياسين فرصة السؤال عما حدث توًا، حيث بادرته سمية بغتة:
"أعرف ما يدور برأسك. هذه الأشرطة تُمنح لأعضاء جمعية الشعراء"
"لماذا؟ هل هناك هدف معين منها؟ ولا بس زينة؟"
"تقريبًا. أهم سبب أننا نستطيع التمييز بالنظر بين من ينتمي للجمعية ومن هو خارجها"
"فاهم، ولكن لا أعرف لماذا تحتاجون للتمييز أصلًا!"
"يومًا ما، ستعرف" ردت بابتسامة خبيثة، وأردفت: "المهم أنك تعرف الحين أن حمل الشريط سمة خاصة بالشعراء"
والحقيقة أنه تمالك نفسه من الضحك بصعوبة بالغة. ومع ذلك شق الابتسامة وهو يرد: "ما دمت أوقفت سيارتي بالقرب من المدخل، لا حق لي في التشكي. والأزرق حلو عليك أصلًا"
"تهنى به طالما أرتديه ستل. بعد فترة سأرتدي شريطًا أحمر"
"شالطاري؟ ما الفرق بين الألوان؟"
"كل لون طبقة مختلفة"
"وش طبقته؟"
تنهدت سمية، مخمنة كل ما يدور برأس حبيبها اليابس. "كل شاعر ينتمي لطبقةٍ معينة وفق إمكانياته الشعرية"
"أي نوع من الإمكانيات؟ حسب شعره، أم موضوع قصائده، أم ماذا؟"
"مزيجٌ من كل ذلك. أكيد أنك سمعت بطبقات الشعراء من قبل؟"
"لا أظن"
"مستحيل، أكيد سمعت. ربما لم تكن حاط بالك"
"لا والله، نحن السينمائيون مساواتيون"
"عمومًا، لكل شاعر طبقته. تبدأ مريدًا، فشاعرًا، ثم تصل لطبقة الفحولة. ولكل طبقة لون شريطها الخاص"
"وعلى أي أساس يصعد الشاعر طبقيًا؟ بامتلاك وسائل الإنتاج الشعري؟" رد بضحكة متسللة.
"على حسب تقييم لجنة الارتقاء والجزالة"
"ارتقاء مرة وحدة؟ دعيني أخمن، أول قوانين اللجنة هي البقاء للأشعر"
"اسمع، لست فاضية لسخريتك الآن. وفرها لوقت لاحق بليز"
"هذا وأنت لسه شاعرة، الله يستر من تطوراتك"
ترجلا من السيارة سوية، وسارا باتجاه فناء خارجي مفتوح احتشد فيه عشرات من الناس. لحسن حظ ياسين أنه قرر ارتداء ثوب ثقيل، فنسمات الشتاء كانت لتزعجه أكثر مما يحب. ولكن ربما الوضع أقل سوءًا مما يتصور؛ بعض التسليك والسوالف قبل الولوج للفناء الداخلي.
وبرغم مسير سمية بجواره، أجال ياسين بصره على الحشود المتناثرة. استطاع من الوهلة الأولى تمييز أربع مجموعات: عدد كبير من مرتدي الأشرطة الخضراء، وعدد أقل من مرتدي الأشرطة الزرقاء، وذوو أشرطة حمراء معدودون على الأصابع. غير أولئك اللاشريطين من أمثاله طبعًا.
مجيئه مع سمية جعل الأعناق تلتفت ناحيتهما: تُوجه لها ابتسامة مشرقة، وله نظرة شزر تخزه من رأسه لأصابع قدميه. كانت سمية محقة؛ غالبية الموجودين -من الرجال- يلبسون الثياب البيضاء. ومع ذلك، سار ياسين بجوار سمية ملؤه الزهو، يبادلهم نظراتهم الحادة دون تردد. وظل على ذلك حتى اقترب منهما رجل توشح بالشريط الأزرق، فاتحًا ذراعيه يستقبلها ترحابًا: "حبًا وسلامًا يا رفيقة، يا ابنة البحر!"
"حبًا وسلامًا يا رفيق، أهلًا عاطف"
"ما شاء الله وردة تلبس وردًا، هاها. ظننت أنكِ لن تتمكني من الحضور الليلة"
"لحسن حظي تأجل أحد الالتزامات، ولذا استطعت"
"لحسن حظنا نحن بحق الإله، وإلا لم نكن لنسعد برؤيتك. أخبريني بصراحة، من أين لك هذا؟"
"من أين لي ماذا؟"
"شوفها تدعي التواضع" رد وهو ينظر لياسين، قبل العودة ببصره لها مردفًا: "أتكلم عن قصيدتك الأخيرة على فيسبوك، فراشة ترسم الغيوم"
ردت سمية بابتسامة خجلى: "أوه، مجرد شخابيط لا معنى لها "
"تقول شخابيط!" قال ينظر لياسين مجددًا، ثم عاد لها: "لو حجت البقر على قرونها لما استطعت الإتيان بما أتيتِ به. رفرفتُ فوق البحر أتلو سورة الإخلاص حتى ثار نقع عواصفي. يا الله! عظمة على عظمة! صورة طاغورية بامتياز! ألا تتفق معي يا... معليش، لم أتشرف بمعرفتك؟"
في الوقت الذي ذكر ياسين فيه اسمه، ياسين بن عبدالله، كان عاطف قد حدجه بنظرةٍ فاحصة سريعة من رأسه لأخمص قدميه.
"حياك الله أستاذ ياسين، ما الذي جاء بك الليلة؟ ضيف عزيز؟"
"تقريبًا، أنـ...."
"أم أنك صحفي؟ لأن هناك بطاقة تعريفية يستوجب على الصحفيين ارتداؤها الليلة. تعرف الحدث كبير ولا بد من تنظيم الحضور. يمكنك استلامها من المدخل، انظر هناك خذ المـ..."
"لا لا، لست صحفـ..."
"ياسين ناقد سينمائي مخضرم" قاطعتهما سمية، مردفة: "يكتب في منصة اسمها رؤى، لا أعرف إن كانت مرت عليك"
"ما شاء الله، والنعم. لأي مدرسة نقدية تنتمي؟ النولانية؟ أم الكوبريكية؟ لا أظنك كيارستميًا، فشكلك لا يوحي بذلك"
"الحقيقة أنه لا يصنف نفسه تحت أي مدرسة. كتاباته متمردة على تيارات النقد التقليدية"
"غير منتم؟ قصدك أناركي! ألم تسمع يا أستاذ ياسين قول جان جينيه في المثقفين الأناركيين؟ لو كنت مكانك لاتبعت مدرسة النقد السينمائي الجديد. أكيد أنك سمعت بها. رائدها الفيلسوف الأمريكي المعروف ماثيو كاربنتر. لكن ما دمت مع سمية فلا نستطيع قول شيء، هاها"
"سأرسل لك لاحقًا بعض كتاباته، فهو من أبرز الكتاب الواعدين، ولا شك أنه سيستفيد من قراءتكم"
"طبعًا طبعًا، أحب تشجيع المواهب الشابة. على طاري ذلك يا سمية، هل قرأت ديوان نعيم الجديد؟ يتوقعون له الظفر بجوائز عديدة"
"سمعت عنه، وأنوي قراءته قريبًا"
"حبًا وسلامًا يا رفاق!" قاطعهم صوت رجل أزرق الشريط يمر محث الخطى، وانحنى بعض الشيء حين حاذى عاطف، واضعًا يده على قلبه قائلًا: "حنانيك أبا تسنيم"
"علينا الحنان ومن شياطين الشعر الإجابة. حبًا وسلامًا لك أبا إلياس، وأنا أقول ليش المكان منور الليلة، هاها!"
"تسألني عن النور وأمامك وردة ترتدي وردًا؟" رد أبو إلياس وهو آخذ في الاختفاء آلريدي وسط الحشود.
"إيييه أبا إلياس، لا يتغير. دائمًا يخبرني بإيصال سلامه لك. عمومًا ماذا كنا نقول؟ أيوه ديوان نعيم، لا يفوتك يا سمية. لأكون صريحًا معك، لم أقرأه بعد، ولكن أبو الصنديد نشر عنه مراجعة قراءة نقدية فجرت الدنيا احتفاء. أبو الصنديد بشحمه ولحمه يكتب عن الديوان! لا شك أنه ديوان عظيم"
"من هو أبو الصنديد؟" تساءل ياسين. ولسوء حظه، لم تكن سمية وحدها من سمعته.
"عفوًا عفوًا، نسيت أن أصدقاءه وحدهم يسمونه كذلك، هاها. أقصد الناقد الكبير عباس من الملوح، حنانيه" رد عاطف وهو يضع يده على صدره.
"للأسف لا أظنني سمعت باسمه من قبل"
"يقول أنه لا يعرف عباس" قال عاطف وهو ينظر لسمية، تتخلل إيماءاته ضحكات هازئة. لم تجد سمية بدًا من مسايرة هذا العاطف بشكل عصي على فهم ياسين. والأمرّ حين بررت جهله بقول أنه في واد والشعر بواد، إذ يمنعه انهماكه في عوالم السينما من متابعة تحديثات الساحة الشعرية. مع ذلك استمر عاطف: "ولكن أبو الصنديد كتب في النقد السينمائي أيضًا. عنده مقالة مهمة عن تداعيات السينماتوغرافيا الحداثية في الفيلم الفرنسي الكلاسيكي لا فغيغ دو لا سوغ. مقالة مهمة معروفة، تحدث عنها كبار النقاد. أكيد أنك قرأتها؟"
ارتسمت على محيا ياسين ابتسامة متنرفزة، وقرر الانخراط في اللعبة: "تعرفنا معشر السينمائيين، نفضل قراءة الشاشة وتقنيات الحواس"
"أكيد أكيد، مع ذلك يستحيل أن تصبح مثقفًا دون أن تعرف أهم اسم في ساحة النقد العربية. كلمة منه ترفعك فوق وكلمة تنزلك تحت. تعرف أنه درس النقد عند هارولد بلوم؟ أين نحن وأين أبو الصنديد"
"لم يحصل لي الشرف، سأحرص على قراءة كتاباته لأجل خاطرك" رد ياسين.
"لا عليك أستاذ عاطف. لن يخرج ياسين الليلة إلا متتلمذّا على يد الشعراء الكبار أمثالكم"
كان ياسين قاب قوسين أو أدنى من التعقيب على ذلك، ولكنه اختار مجددًا راحة باله. "سمية، سأنتظرك في الداخل. أشعر بصداع نقص الكافيين، وآخر ما أوده حرمانك من درر الشاعر الكبير. سعدت بلقائك أستاذ عارف"
ومضى ياسين دون انتظار تصحيح عاطف لاسمه. يدرك تمامًا أن لا شيء يستفز هذا النوع أكثر من ادعاء عدم معرفة اسمه أو نسيان شخصه، يستفزه أكثر حتى من رؤيته كمنافس يتشدق ويتحذلق بنفس مصطلحاتهم وترهاتهم. وقد عزم ياسين قبل مجيئه الليلة ألا ينجرف لمثل هذه الخدع، ولكن الحق يقال أن التواجد دون شريط في معقل أمثال عاطف يضطر المرء لارتكاب ذلك.
أخذ يندب حظه الذي أتى به لهذا المكان وهو يعد قهوة النسكافيه، ٣ في ١، النوع الوحيد المتوفر إلى جوار جهاز نيسبرسو دون كبسولات تجاوره. سنوات وياسين يتحاشى ارتياد كل ما له صلة بالأدب من قريب أو بعيد. يعود آخر عهده بهم إلى سني الجامعة وحماس الأندية الطلابية، حين أخذ ياسين وصديقين اثنين على عاتقهم حضور أحد المنتديات الثقافية الأسبوعية والمشاركة في فعالياته. تمسكوا حينها بهالة انبهار قبال أولئك القامات التي يملأ حضورها القاعات تصفيقًا والأسماع طربًا. تستحضر ذاكرته الآن كيف ملأ جعبته بمحاضرات عن أهمية النقد، وعن السينما المحلية بين الواقع والآمال، وعن الجدال بين قصيدة النثر والتفعيلة، والمحاضرات الأهم -بطبيعة الحال- عن الحداثة في مجتمع تقليدي، سواء كانت حداثة فلسفية أم فنية أم حتى قناعاتية. يومًا بعد يوم تكررت الموضوعات والضيوف والمفردات، وتكررت التوصيات والحلطمات والمداخلات. وما إن شعر ياسين باستحالة الأمر محض تأدية واجب، انسحب تدريجيًا، وتقوقع في عوالم أخرى لا يوجد فيها أمثال هؤلاء. وبرغم مغادرته الوسط طائعًا منذ فترة طويلة، كثيرًا ما يسمع سوالف أصدقائه السينمائيين عن هذه الجماعة ومحافلهم. ويتعجب من انطباق نفس الأوصاف: يتصورون أنهم رواد الفكر، وقادة التغيير، ومؤسسو المشاريع الثقافية التي لا يفهمها غيرهم، في حين أن ما عندهم إلا ما عند جدة أي واحد منهم.
وها هو يرى الأمور مباشرة بعينه. كل شيء كما هو، لم يتغير، محلك سر. تبدلت بعض الأسماء صحيح، وربما خفتت صرعات ثقافية لتحل مكانها أخرى، ولكن الأمور بالمجمل ظلت على نفس حالها قبل عشرات السنين. يكاد ياسين يجزم على أن الجمود لعنة عالقة بالمكان نفسه.
"حبًا وسلامًا يا رفيق"
التفت ياسين ناحية الصوت. شاب في مثل عمره أو أكبر بقليل. ثوب أبيض، شريط أخضر، وابتسامة مشقوقة.
"آ... أهلًا"
جفل الشاب من الرد غير المناسب، وتفحص ياسين من رأسه لأخمص قدميه. "أول مرة تأتينا؟"
"نعم، أول مرة"
"واضح" رد الشاب بجلافة حاول مداراتها بابتسامته. "يشرفنا وجودك، معك حسين الوديع"
"ياسين بن عبدالله، تشرفنا"
"الشرف لي. أحسدك أن أول زيارة لك صادفت تكريم شخصية عظيمة كالبنيوي"
"دائمًا أحسدني على حظي الرائع" رد ياسين نصف متهكم.
"ما رأيك بمشروعه الشعري حتى الآن؟"
تردد ياسين قليلًا. كان بإمكانه مواصلة اللعب والحديث عن إيمانه التام بجدوى مشروع البنيوي الذي لا يختلف اثنان إزاء مساءلته أسس علاقة الإنسان بالحداثة السائلة، وتحطيمه لقيود التقليد في النظم والنثر معًا في سبيل تحدي كل ثابت ومتغير. ولا ينسى التنويه على ضرورة مثل هذه المشاريع التي تضع الشعراء المحليين على خارطة العالمية، حتى وإن بدت في بعض الأحيان صعبة قوية. كان بإمكانه قول كل ذلك. ولكن لحسن حظ حسين الوديع، قرر ياسين الإقرار بأنه لا يفهم في الشعر كثيرًا.
"لا تفهم في الشعر؟ لماذا أنت هنا إذن؟"
"يعني فوق كونكم طبقيين، تصبحون إقصائيين أيضًا؟"
"هل أنت صحفي؟" رد حسين متجاهلًا ما سمعه للتو. "لأن هناك بطاقة تعريفية يستوجب على الصحفيين ارتداؤها الليلة. تعرف الحدث كبـ...."
"لا!" قاطعه ياسين بحزم، وأردف: "لستُ صحفيًا. جئت هنا مع صديقة شاعرة"
"أوه أنت الذي جئت مع الأستاذة سمية؟"
انعقد لسان ياسين من الصدمة. عمره في المكان أقل من ساعة، ومع ذلك فهو آلريدي موضوع أحاديث جانبية.
"الكل يتوقع لسمية مستقبلًا مبهرًا. هل قرأت قصيدتها لؤلؤة بين براثن الأسد؟ يقولون أنها أفضل ما قيل عن علاقة جسد المرأة الساحلية بالمجتمع المغلق. تجسيد متقن لفلسفة بتلر في الأدائية"
"قرأتُها نعم. أو بالأحرى، هي قرأتها علي وشرحتها لي. لكن لم أقرأ لبتلر"
"يا بختك. أنا قرأت القصيدة ولكن لم أفهمها كما يجب. ربما حين أصل إلى طبقة الفحول سأستطيع فهمها كما فهمها كبار النقاد"
"كبار النقاد؟"
"نعم، صعب على شريطيٍّ أخضر فهم كل أبعاد القصيدة وحده، ولا بديل عن عناية وحنّية كبارنا"
"والله؟ لا أذكر بصراحة أن القصيدة معقدة لهذه الدرجة"
"وأكثر! تذكر حين ذكرت سمية تبلد السماء الزرقاء بغيوم سوداء وسماعها هديل الحمام؟ يقول الناقد الرمحاني أن ذلك كناية عن أنثوية مفرطة تتخلل طيات النص، مؤدية لصعود الصوت الأنثوي في وجه كل العوائق والقيود"
"لا أعرف الرمحاني، ولكن شرح سمية كان مختلفًا تمامًا"
"مختلفًا! من أي ناحية؟"
"اعذرني والله، لا أذكر التفاصيل بالضبط. لكن لم تقل سمية أي شيء عن الأنثوية والقيود"
"ما زلتُ مريدًا لا علم لي بنقاشات العظماء. ولكن ربما الرمحاني يطبق هنا نظرية موت الشاعر وانفلات المعنى. على كل حال، سعدت بلقائك أستاذ ياسين، مضطر للذهاب لمقعدي قبل أن تمتلئ الصفوف"
ولحسن حظ ياسين، كانت سمية قد دخلت المسرح في نفس اللحظة التي لاحقت عيناه فيها الوديعَ متوجهًا للمقاعد الخضراء. بمجرد أن بدأ مسيره نحوها، تنبه لدخول عاطف وراءها مسرعًا، خائفًا من إفلاتها من جزالته، ومستمرًا كما يبدو في سالفة انقطعت قليلًا وأخذ على عاتقه إكمالها. نظراتها الباحثة داخل القاعة بفزع كفيلة بكسر تردد ياسين حيال ما ينبغي فعله، ولذا حث خطاه ليبلغ سمية قبل وصول غريمه.
"المعذرة يا أستاذ عارف، ينبغي علينا أنا وسمية الجلوس قبل أن تمتلئ الصفوف. تفضل معنا؟"
نظرات عاطف المليئة بالشرر أرضت خاطر ياسين.
"لا لا، من أنا لأجلس بجوار سمية، هاها! مكاني محجوز في الصفوف الأمامية لأني سألقي كلمة ختامية. يا سبحان الله، حتى في حديثي العادي أسجع، شاعر بالفطرة، هاها!"
ما إن ابتعد عنهما خطوات قليلة حتى استدارت سمية نحو ياسين بنظرة حقد.
"تذهب وتتركني وحدي معه؟ أنا ليش جبتك معي؟"
رد ياسين بابتسامة خبث: "المرة القادمة لا تقولي أنا في واد والشعر في واد، ولن أسحب عليك"
"أنت لا تفهم. بغض النظر عن سخافاته، عاطف شخص واصل، ومن صالحي أن أصبغه"
"اصبغيه كما تشائين، ولكن لا تصوريني كأني غبي أمامه"
"احمد ربك قلت عنك ناقد سينمائي عظيم. تعرف أنه يخاف من أي شخص يشتغل في مجال لا يلم هو به؟ لو تركتك له لأكلك بعظامك"
"بالعكس، كنت مستعدًا للخوض في لعبته"
"لو فعلت لخسرت. صدقني. سيبتدئ حديثه عن السينما ثم يحوله للشعر وما يلم به هو. وقتها سيخلو له الميدان ليصفِّقَك"
"أيًا يكن" رد يغير الموضوع. "أين سنجلس؟ لا تقولي أنك ترغبين في الجلوس بالأمام؟"
"لا. أصلًا أغلب الصفوف الأمامية محجوزة اليوم. وآخر ما ترغبه هو بكاء أحدهم في عدم حصوله على مقعد بالصف الأمامي. ترى الصفوف الزرقاء هناك؟ فلنقصدها"
"لحظة، حتى المقاعد بحسب الطبقة؟ اعتقدت أنها ملونة من باب الجمالية وحسب"
"جمالية هذي تبقى خالتك. لذلك يجب أن تقدّر كون حبيبتك قريبة من الصفوف الحمراء. طموحي أن أكسر رأسهم وأخرج، ولن أحتاج وقتها دعوتك لهذه الأمسيات"
"أدعو الله أن تحصلين عليه اليوم قبل بكرة. عمومًا، فلنجلس، واضح أنهم على وشك البدء"
اتخذا مقعدين جانبيين، وانهمك كل واحد منهما على هاتفه ريثما يفرغ المقدم من إعداد أوراقه. سيستغرق الأمر دقيقة أو اثنتين لانتهاء مراسيم التسليك الأخيرة قبل التكريم. مر بجوارهما رجل محث الخطى، وكاد يتعداهما بذات السرعة لولا أن انتبه لسمية فتوقف برهة، متخذًا بضع خطوات للخلف نحوها ومبادرًا: "حبًا وسلامًا يا رفيقة، ورد يلبس وردًا"، ثم أكمل مسيره على صوت رجل خمسيني واقف على خشبة المسرح بشريطه الأزرق.
رحب الرجل بالحضور، أعضاء نادي ابن الطبرجل، ورحب بالزوار الكرام من قارضي الشعر والمهتمين به. شكرهم على تلبية الدعوة وتعنّيهم لتكريم قامة ثقافية غنية عن التعريف، مثقف حقيقي، صولاته وجولاته يشهد بها القصي والدني، يتردد اسمه في مشارق العالم العربي ومغاربه، يجلس في الصفوف الأمامية بكل محفل، عراب الحداثة، وقاهر التخلف، صاحب نظرية موت السوشال ميديا -الذي أتى بها بعد تملك إيلون ماسك لتويتر- والتي صارت تُدرّس بالجامعات. وذكّر الحضور بأنهم يجتمعون في هذه الليلة المباركة لتكريم الشاعر الفذ الفحل الناقد القارئ الدكتور نور البنيوي. والبنيوي يستحق التكريم كل يوم، هذه حقيقة لا مراء فيها، ولكن صادف أن تجتمع هذه الليلة استحقاقيته وحصوله على جائزة عالمية!
تقوم على هذه الجائزة مؤسسة القلم العربي التي تتخذ ولاية مينيسوتا الأمريكية مقرًا لها، وهي تُمنح حكرًا لقصائد البحر التي يكتبها شعراء السواحل الذين يبدأ اسمهم بحرف النون. هذا يجعلها من أكثر الجوائز ندرة وأهمية. ولو كان ليسرد كل أفضال قامة عظيمة كالبنيوي، ومدى استحقاقه لمثل هذه الجوائز دومًا، لأشرق الفجر قبل بلوغ نصفها. ولذا، دون مقدمات إضافية، دعا نور البنيوي للصعود على خشبة المسرح وقبول الدرع التكريمي قبل تطييب أسماعهم بإلقاء القصيدة الفائزة والاستماع لقراءات نقدية مختلفة لها من بعض فحول الشعراء.
نهض البنيوي من مقعده على تصفيق القاعة وهتافاتها، وسار ببطء لا يبدو طبيعيًا، على الأقل من مكان جلوس ياسين. لاحظ إتيان الجالسين بنفس الحركة الغريبة السابقة؛ كلما مر الشاعر الفذ أمام أحدهم، يتمتم أحدهم بكلمات غير مفهومة واضعًا يده على صدره.
"ما الذي يفعلونه؟" تساءل ياسين.
"من؟"
"أولئك، الجالسون في الأمام"
"أوه، إنهم يتحننون"
"ها؟"
"سأقول لك لاحقًا لأنك ستتهكم"
"والله لن أتهكم"
"كذاب. اسكت فلنسمع لنور"
تنحنح الشاعر خلف المايكروفون.
"أيها الجالسون بالخلف، هل تسمعوني بوضوح؟"
جاءت أصوات التوكيد بنعم، وبحنانيك.
"في الحقيقة، قبل أن أبدأ، إحم" تنحنح مجددًا، "يسعدني أن أشارككم خبرًا جديدًا تلقيته قبل قليل. يبدو لي أني فزت بجائزة ابن المقرب الممنوحة من مدينة جمعية بيونغيانغ الخيرية، وهي أول مرة تمنح لشاعر محلي منذ تأسسها قبل سنتين"
امتلأت القاعة مجددًا بتصفيق حاد، وظل نور على المسرح يبتسم ويهز رأسه متقبلًا هذه الحفاوة وهذا التقدير. وكاد يستكمل حديثه لولا أن لمح دخول قامة عظيمة أخرى للقاعة.
"أستسمحكم في التوقف قليلًا والترحيب بسماحة الشاعر الفحل والأستاذ القدير، صاحب الأفضال علينا جميعًا، الدكتور سلام السلام. ارفعوا أصواتكم بالحنانيك"
سار سلام بمنتصف القاعة، متوجهًا دون ريب لمقعد مخصص له في الصف الأمامي. والناس على جانبيه يتحننون ومن ثم يضعون أيديهم على صدورهم، وهو بدوره يتمتم أن التحنن منهم والإجابة من شياطين الشعر.
"أتوسل إليك سمية، أخبريني وش سالفة التحنن"
"لا"
"والله لن أتهكم"
حدجته بنظرة حادة، وتلفتت يمنة ويسرة.
"يقولون حنانيك لشاعر يعتقدون أنه أعظم منهم كي ينالوا حنيته الشعرية"
"ولماذا يضعون أيديهم على صدورهم؟"
"كأنما يودعون الحنان صدورهم"
اعتدل ياسين في جلسته آيسًا، مستمعًا بصمت. لا يدري كم من الوقت مر في مدح البنيوي لنفسه -وإن بشكل غير مباشر-، وفي شكره لنادي ابن الطبرجل الذي يؤكد يومًا بعد يوم منافحته عن الشعر كما ينبغي له أن يكون. لكن الحديث دار في نهاية المطاف عن قصيدته الفائزة:
"والحقيقة أني قضيت سنة كاملة في كتابة هذه القصيدة. وعمرًا كاملًا في عيش التجربة التي استحضرتها. ولم يكن الأمر سهلًا، حيث يتلبسني شيطان الشعر يومًا ويفارقني شهرًا. وفي حين جاءتني الحالة الشعرية أول مرة على ضفاف نهر التايمز، لم يكتب لها الاكتمال إلا هنا، على ساحلنا الخليجي. ومثلما يقولون في الغرب، ذير از نو بليس لايك هوم"
ضحك قارضو الشعر.
"جاءني إلهام عنوان القصيدة قبل كتابتها. أسميتها: قد وقف أمام البحر صبي. إحم"
تنحنح مرة ثالثة، تنحنحًا متبوعًا بسعال خفيف، وبدأ قصيدته:
وقفت، للصدف جامعًا
"الجو لطيف هذه الأيام ومناسب لجمع الأصداف، ولا ما قولكم؟"
ضحك قارضو الشعر.
وقفت، للصدف جامعًا
أمام البحر
صبيًا
تتلاطم الأمواج
تتبلل الأسبال
وأرتجف بردًا تحت لهيب شمس حزيران
"كأني سمعت هذه القصيدة من قبل" قال ياسين هامسًا.
"يتهيأ لك"
"والله، مألوفة جدًا"
"وش فهمك بالشعر؟ حتى لو كانت القصيدة مكررة، معالجته لها مختلفة، وهذا كاف"
"ترقيعة حلوة. المهم، ما رأيك أن نغادر الآن؟ يمدينا اللحاق على طاولة قبل زحمة المطعم"
"اص! خلنا نسمع، وسأخبرك متى يحين الوقت المناسب للخروج"
ظل ياسين يراقب عقارب الساعة، حرفيًا، على ساعة قديمة أصيلة تحاذي الجدار بجانبه. خمس دقائق، عشر، عشرون. ولربما راقبها فترة أطول. كل ما يتذكره تربيت سمية على كتفه وإيمائها له بالنهوض، وهو ما يزال يغالب سكرات النوم وعصافير الجوع. وغادرا المسرح سوية تاركين خلفهما المزيد من التصفيق والتحنن.
رهيبة🌟
نتطلع للمزيد
يعجبني هذا التوازن في عرض الشخصيات، والطريقة الي كتبت بها شخصية المرأة في القصة. ما في طرف في علاقتهم يظهر وكأنه متفوق على الآخر من وجهة نظر الكاتب، هذا غير أنها مضحكة، ابتسمت طول ما أنا أقرأها وابتسمت لما تركتها بالنص على أساس بذاكر ثم أرجع لها كجائزة، بس ما قدرت يعني