في معرض تذكره للمحطات المحورية في حياته، يذكر نجيب محفوظ أن بدايته المتأخرة في دراسة الأدب أجبرته على ألا يعاود قراءة أي عملٍ أكثر من مرة، إذ أن عدد الأعمال التي يعتزم قراءتها لا حصر له، ولا يمتلك الوقت الكافي لأن يقرأ كل ما يريد. ليس منا من لم يقع في جاذبية هذه الفكرة؛ نظرًا لضيق الوقت وكثرة الكتب، لا بدّ من استغلاله في تحصيل أكبر عددٍ منها قبل أن نُسلب القدرة على القراءة والإضافة لحصيلتنا. والحقيقة أن الفكرة جذابة فعلًا. هنالك لذة لما تمر عليك عناوين مؤلفاتٍ تكتشف أنك سبق وقرأتها، لذة وشعور بالذكاء إن صح تسميته كذلك.
ولكن، كعادة أغلب الأشياء التي أقرر التحلطم عليها، هنالك بُعدٌ لا أبلعه. ثمة أمر يستفزني دائمًا في صدور مقولات مراهقةٍ فكرية ممن يُفترض -في كثير من الأحيان- أنهم تجاوزوها. أعني بها تلك المقولات السطحية الساذجة الصادرة عمن ابتدأ للتو ممارسته أو اهتمامه بأمرٍ ما فسارع للتبشير بما حفظه معتقدًا أنه امتلك مفاتيح الفهم دون غيره من العالمين. التاريخ يعيد نفسه. انظر مقالة كانت "ما هو التنوير؟". [ضع هنا أي آيديولوجيا] هو/هي الحل. لو في الشبك جول.
القاسم السذاجي المشترك بين كل هذه المقولات رغم اختلاف مجالاتها وتفرعاتها هو رسمها علاقةً تقريرية (وحصرية) بين عاملين في معرض تفسير ظاهرةٍ أو واقعٍ ما، بغض النظر عن أي تشابكات أو تعقيدات في تكوينهما. فالذي يشهد حدثًا تاريخيًا ويقول أن التاريخ يعيد نفسه مثلًا يستعيض عن تفسير وفهم الحدث عن طريق إخضاعه لنواميس كونية ثابتة. شيء مشابه ينطبق على من يدعوكم لقراءة "ما هو التنوير؟" إذا ما انحشر في شرح استخدامه وتبشيره المستمر بالمصطلح (أي كما لو أن هنالك تنويرًا وكل ما علينا هو معرفته لكي نفهم عبقرية هذا المحشور)، أو على من يقدم وصفة جاهزة لحل أزمات المجتمع الحديث وفق آيديولوجية شيوعية أو رأسمالية أو إسلامية أو غيرها. وكذا من يعلق على شوتة قوية اصطادت حمام الملعب. نعلم أنها جولٌ لو كانت في الشبك، ولكن لماذا لم تكن فيها؟
كان بودي أن أضيف صفة تكريس الماهويّة أيضًا على يد هذه المقولات، من باب أن الماهوية تكتسب طبيعةً تكوينية لما يحيط بالعلاقة من إطار. ففي حال الإفصاح بإحدى المقولات الساذجة المذكورة، تنتفي كل العوامل الأخرى أو تُرجأ لمرتبة ثانوية، ويتم تخيل العلاقة برمتها وفق اشتراطات محدودة وعلاقات محددة. ولكن سأؤجل طرح هذه النقطة لتدوينة أخرى.
زين. عودًا لنجيب محفوظ وضيق الوقت وكثرة الكتب. تستبطن فكرة نجيب تصورًا استهلاكيًّا للأدب مفاده أن ازدياد الاستهلاك يعني بالضرورة المضي قدمًا؛ كلما ازدادت قراءاتي تحسنت مخرجاتي. ثمة بعدين استهلاكيين تنطوي عليهما الفكرة برأيي. أولًا، هناك علاقة طردية بين الكم والكيف (نعم أعرف أنها كليشيه، ولكن كلام نجيب كليشيه أكثر. أبوي أحسن من أبوك). ثانيًا، وهو الأخطر، هناك تسليعٌ للأدب والفكر من حيث اكتسباهما قيمة استعمالية مستقلةً عن كل ذاتوية سواء من جهة القارئ أو المؤلَّف. بهذا المعنى، يصبح المؤلَّف "شيئًا" ترتبط قيمته بالأغراض التي يمكن استعماله لأجلها دون أدنى اعتبارٍ أو اهتمام للعملية التي يتشكّل بواسطتها. هو استعمال المستهلك الذي لا يهتم إلا بالاستعمال وحسب.
أريد التطرق لهذه النقطة الأخيرة سريعًا. وردت فكرة نجيب في كتابٍ نُشر قبل أكثر من ثلاثين عامًا، قبلَ أن تصبح الشبكة العنكبوتية وتقنياتها أعمدة للحياةِ اليومية في العديد من بقاع العالم. ما إن صارت الإنترنت جزءًا من حياتنا حتى تسارعت وتيرة إنتاج المعلومات وتخزينها وتبادلها على المستوى الشخصي اليومي. وحين يُضاف هذا العامل إلى النزعة الاستهلاكية المطردة منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى، نجد أنفسنا أمام مزيجٍ خطر يُعيد تعريف الفكر -عمومًا- على ضوء طرفيه، فيصبح إثر ذلك كما السلعةِ التي لا قيمة لها إلا باستهلاكها.
أن يكون الفكر سلعةً يعني أن تُعاد صياغة مفهومه بما يتناسب مع منظومةٍ قائمة على أسس استهلاكية. يتعلق الاستهلاك هنا تحديدًا بتعليبِ الفكر في منتجٍ نهائي تتحدد قيمته في استعماله. ذلك أننا نتصفح الإنترنت، مثلًا، على شاشات هواتفنا ونحن نحتسي الشاي أو القهوة من أكوابٍ خزفيةٍ دون أن نلم بالضرورةِ بالعملياتِ التي أوصلت أيًّا منها لنا ودون أن نسهم فيها. نحن محض مستهلكين لها. حين يتخذ الفكر مكانه في هذه المنظومة، ينطبق عليه الشيء نفسه، فتنتفي الحاجة للإلمام بعملية تشكّل الفكر نفسه أو سياقات تشكّله مستعاضًا عنها باستهلاك منتجٍ نهائي سريعًا على سبيل الاستعمال والتختيم.
ليس الأمر مقتصرًا في أيامنا على أن يرزح الفرد تحت وطأة الاستهلاك الكمّي فيتفادى إعادة قراءة الكتاب أو مشاهدة الفيلم مرتين، بل يتجاوزه للسعي وراء الطرق المختصرة للتحصيل المعرفي والفكري لأجل شطب بندٍ من القائمة والانتقال لما يليه بأسرعٍ وقت ممكن. ويتجاوزه أيضًا للتعاطي مع الأفكار كهويات جاهزة قابلة للارتداء والخلع والتبادل والتبني، حالها حال أي سلعة سوقية أخرى. والنتيجة أننا نسير في الفضاءات عامة أو افتراضيةً مُعرفين أنفسنا وقيمنا وفقًا لما نستهلكه؛ نقيس موقعنا من الإعراب في هذا العالم -تقدمًا وتخلفًا- على ضوء آخر الموضات، ونجابه الواقع من خلال العدسات التي تتيحها لنا السلع المادية والفكرية التي نتماهي معها.
لا مفر إذنمن التباطؤ أو التوقف قليلًاعلى الهايواي المتخيل هذا في سبيل مقاومة المد الاستهلاكي. إيه، قلت مقاومة. في هذا العالم القائم على التنميط والتعميم وإدارات الجموع، تصبح حتى أتفه المواقف الفردية تعبيرات عن الرفض ووقفات لترسيخ التفرد. أصلًا عادي، لندع قطار الموضات يفوتنا، من قال أننا جميعنا نركب القطار رغبةً في وجهة وحيدة؟