* [هذه الخربوشة إعادة نشر لمقالة كتبتها قبل أكثر من خمس سنوات. تغيّرت بعض قناعاتي تجاه العلاقة بين الأدب والفلسفة (أو التفلسف بمفهوم أوسع)، ولكن لبّ المقالة عزيزٌ على قلبي فقررت الإبقاء عليه]
"أزال أنثوني الورقة من الآلة الطابعة الخاصة به، وضمها لبقية الأوراق القابعة أمامه على الطاولة، ثم دبّسهم ببعضهم البعض وأخذ يقرأ ما كتبه. الفصل السادس من كتابه مبادئ علم الاجتماع يتناول الفردَ وتصوراته عن الشخصية. قضى يومه يشخبط بعض تأملاته الأولية بشكلٍ لا منهجي.
قرأ منها: "أنا أفكر، إذن أنا موجود. ولكن لِمَ لا تكون أنا أتغوط إذن أنا موجود؟ أو أتجشأ إذن أنا موجود؟"- Eyeless in Gaza، آلدوس هكسلي
من أوائل الأسئلة التي راودتني حين التحقت بالجامعة السؤال عن معنى مسمى المرحلة الثانية من البكالريوس، مرحلة السوفمور «Sophomore». ففي حين تبدو مسميات المراحل الثلاث الأخريات (فرشمان «Freshman»، جونيور «Junior»، سينيور «Senior») واضحةً نسبيًا حتى خارج الإطار الجامعي، تتفرد السوفمور من بين المراحل الأربع بغرابة مسماها.
والحقيقة أن بحثي عن أصلها اللغوي قد أفضى لغرابةٍ وطرافةٍ أكبر. هكذا يعرف القاموس الاشتقاقي الكلمة:
سوفمور (اسم):
1680s. "طالب السنة الثانية من الدراسة الجامعية". تعني حرفيًا "المجادل"، وهي مأخوذة من sophumer (1650s، من sphume، شكل فرعي قديم من السفسطة)، ولربما وردت بتأثرٍ من الاشتقاق اللغوي الشعبي من المفردتين اليونانيتين sophos بمعنى "حكيم"، وmoros بمعنى "حماقة، بلادة."
فجأة بدا كل شيء منطقيًا؛ إن ثقة الطلاب المفرطة بأنفسهم في تلك المرحلة العمرية ليست منفصلةً عن إطلاق هذا الاسم على السنة الجامعية الثانية. أعني تلك الثقة المفرطة التي تنتاب الفرد ما إن يصبح على أعتاب معارف جديدة "عالية"، فيعتقد أنه بات يمتلك مفاتيح الحقيقة ويدرك كنه الموجودات، مازجًا رعونة المراهقة بالمعرفة الممنهجة البدائية. ولا تقتصر الرعونة على سلوكية الفرد وحده، بل تتجاوزها باتجاه التبشير بالكيفية التي على الحياة أن تسير عليها وبالمعتقدات التي على الآخرين الإيمان بها.
وبطبيعة الحال، لا غرابة في ارتباط الظاهرة زمنيًا بتلك الفترة العمرية. فبالنسبة للعديد من الناس، تصادف الظاهرةُ السنينَ التي تتشكل فيها ذات على أعتاب دراساته العليا أو ما يشابهها، على الأقل ضمن المنظومة التي نعيشُ في كنفها. في هذه الفترة، يحدث أن يمر الفرد بمرحلةٍ انتقاليةٍ بين النضج والصبا، وتتصارع في دواخله قديم العوالم وجديدها، وينخرط في بيئة تعلمه معان مختلفة للاستقلالية والتفرد والجماعاتية في معرض مجابهة ظروف وحيثيات لم يسبق له مجابهة مثيلاتها.
ونظرًا لما تنطوي عليه المرحلة من أعاصير تذاوتية، فلا غرابة أيضًا في كون الظاهرة ثيمةً رئيسية لأعداد لا حصر لها من المؤلفات. ويمكن للقارئ أن يطالع رواية يوهان غوته تتلمذ السيّد ويليام (1796)، أو رواية تشارلوت برونتي جين آير (1847)، أو رواية آلبرتو بلست گانا مارتن ريڤاس (1862)، أو رواية هيرمان هيسه تحت العجلة (1906)، أو روايةجيمس جويس صورة الفنان في شبابه (1916)، أو رواية ف. سكوت فيتزجيرالد هذا الجانب من الجنة (1920)، أو روايةج. د. سالينگر الحارس في حقل الشوفان (1951)، أو رواية سهيل إدريس الحي اللاتيني (1951)، أو رواية غازي القصيبي شقة الحرية (1994)، أو رواية إيمي تان نادي حظ السعادة (1989)، أو حتى رواية آرونداتي روي وزارة السعادة القصوى (2017)، 📚 وذلك لأجل أن يتبين جزءًا من الصراعات الداخلية والخارجية خلال فترة التحول الآنف ذكرها، بمختلف الظروف التي تواجهها الشخصيات وبتفاوت المشارب التي تنطلق منها أو تقرر التوجه إليها.
وفي حين تأمل الغالبية منا تخطي هذه المرحلة بمرور الأعوام وتكامل الخبرات، في حين تسعى لفهم العالم بما يتجاوز الثنائيات الحاكمة والأقطاب الجاهزة والقوالب المسبقة، يختار البعض أن يظل قابعًا في غياهب المراهقة السوفموريّة، أن يظل في طور التبشير والتنوير والاعتقاد بتعطش العالم لفيض حكمته الساذجة في كل ما يتعلق بالثنائيات التي يرى العالم من خلالها. وبذا تنقلب عملية التذاوت ومحاولات فهم مختلف العلائق إلى محض عبارات كليشيهية منحولة، وتستحيل القراءات الفكرية -زعمًا- إلى ارتضاعٍ تسبقه وتعقبه نوبات بكاء صاخبة.
أشدد هنا على عامل الاختيار. إن المراهق المعنيّ بالسطور أعلاه ليس بالضرورة حديث سنٍّ بات للتو على أعتاب النضج، بل هو أيضًا ذلك الذي بلغ من العمر عتيًّا ومن السير في درب الفكر بعيدًا. تهيأت لهذا الفرد مختلف الفرص ليتجاوز مرحلة المراهقة، ليدرك أنه ما يزال آخذًا في التشكل والتعجن على يد مختلف القوى الحياتية التي لا تتوقف لحظةً عن العمل، وليستوعب أيضًا أن الرحلة الفكرية لا نهاية ولا محطات توقف فيها.
ولكنه يختار في نهاية المطاف البقاء في تلك المرحلة المشؤومة. والنتيجة أن سنين العمر تمضي في حين يقبع المنظور الحياتي في مراهقةٍ ساذجة تختزلُ تعقيدَ الحياة في ثنائيات خارقةٍ بين شرقٍ وغربٍ وبين شمولية وديموقراطية وبين دين وعلمانية وبين ماديةٍ وروحانية وبين عقلانية وعواطفية وبين فكرٍ وأدب، وغيرها من البينيّات التي تُقسّم العالم دومًا -بعيني المراهق-فلسفيًا- إلى ثنائية نهائية مطلقة: مخيم الأخيار ومخيم الأشرار.
في سبيل ترسيم هذه المراهقة الفلسفية وما تنبني عليه من أسس، أختارُ من بين الثنائيات المزعومة إحداها: ثنائية الفكر والأدب، أو الفلسفة والرواية على وجه التحديد. اخترتُ الحديث عنها في هذه الخربوشة لأنها تُبرز الأبعاد البالية في المشهد الفكري المحلي -إن صح تسميته فكريًّا أساسًا-. ففي سياق استيراد الفلسفة الغربية واستهلاك الفئات التحليلية واجترار المعلبات الأكاديمية، تتسبب فكرة التناقض المزعوم بين الفلسفة والرواية في نخرِ أي محاولةٍ تهدف لتقديم فلسفةٍ أو روايةٍ محليتين حقيقيتين. بعبارةٍ أخرى، طالما تسيد المشهد تصور يقابل بين الفكر والأدب ويصيغ تضادًّا بين الفلسفة والرواية، فإن النتيجة هي القمع الإبستمولوجي والتغييب القسري لتجليات الفكر المحلي الملموس تحت طائلة التفلسف. وعطفًا على تسيد ديناصورات المراهقة الفلسفية المشهد المزعوم وتصدرها للمؤتمرات والندوات التي تكرس هذا التناقض وتوغل في تشويه فهم تعقيد الواقع، يصبح تفنيد التناقض والأسس التي يقوم عليها خطوةً ضرورية في سبيل تقويض رداءة المشهد وإعادة الاعتبار لإمكانية الطرح المحلي الأصيل.
يمكن تلخيص ثنائية الفلسفة والرواية كالتالي: عالما الفلسفة والرواية منفصلان، والفلسفة أجلّ من الرواية من حيث أنها تُثري العقل الواقعي في قبال الرواية التي لا دور لها سوى سلوان النفس وتوسيعِ الخيال واستثارة المشعار. وقد يذهب المراهق-فلسفيًا أبعدَ من ذلك فيرسم بين الفلسفة والرواية حدًا مائزًا إضافيًا على مستوى التعبير: تنحو الفلسفة للإيجاز والحكمة، وتنحو الرواية للإطناب والتيه.
لا أشك إطلاقًا في كون المراهق-فلسفيًا أضعف إدراكًا وأقل حصافةً من أن يستطيع تقصي معنيي الفلسفة والرواية خارج إطار التصورات الشائعة السطحية لهما، أي خارج إطار المعنيين المتداولين دونما أي تمحيصٍ أو معاينة أو نقد. ولذا لا أعتقد بامتلاكه القدرة على إدراك الإشكالات المتضمنة في الثنائية ولا على تجاوزها. ففي حين يستطيع المراهق-فلسفيًا الإشارة إلى نص ووصفه بالفلسفي وإلى نصّ آخر ووصفه بالروائي، إلا إنه يعجز عن تحديد ماهية الفلسفي أو الروائي في أي من النصين المشار لهما، وجلّ ما سيقوله هو أن النص الأول فلسفي لأنه مصنّف تحت قسم "الفلسفة" وأن النص الثاني روائي لأنه مصنفٌ تحت قسم "الرواية" (ثمة صياغة أخرى لهذه الفكرة من حيث كون كاتب النص الأول "فيلسوفًا" والثاني "روائيًا"). وقد يجد المراهق-فلسفيًا ملاذًا أخيرًا في تحديد ماهية الفلسفي والروائي من خلال التطرق للشكل الذي كُتب به النص؛ وقتما كان النص برهانيًّا ويُفصح عن نفسه بصفته فلسفة، وصف مراهقنا هذا النصّ بالفلسفي، ووقتما كان مليئًا بالثرثرة والسرد ومفصحًا عن روائيته، سماه مراهقنا نصًّا روائيًّا.
وما إن يقع المراهق-فلسفيًا على نص يزاوج صراحة بين الفلسفة والرواية -كما يتصورهما-، فإنه يقف عاجزًا عن استيعاب آلية تصنيفه. ولا ينقذه من هذا العجز سوى نعت النص بالرواية الفلسفية، إذ يبدو له هذا القالب حلًا أوسطًا يرفع النص عن درجةِ الرواية قليلًا دون تدنيس الفلسفة. وليس هذا الانسحاب التصنيفي التكتيكي غريبًا على مراهقنا، حيث اعتاد توظيف توصيفات أخرى من قبيل الفلسفة السياسية والفلسفة الدينية في تمييز أجناس محددة عن مفهوم الفلسفة المحضة، أي الفلسفة بلا نعوت أو توصيفات تخل بتربعها على قمة هرمية تصوراته.
ولكن ما هو مفهوم الفلسفة هذا الذي يتربع على قمة الهرم؟ باختصار، هو المفهوم الذي يقتطع من "المعارف" حيزًا ويسبغ عليه أولوية وأفضلية فوق كل المعارف الأخرى. هو المفهوم الذي يسمي مجالًا ما "فلسفة" بحدوده وموضوعاته وأدواته (والتي تتمحور حول العقلانية)، ومن ثم يقول أن العلوم متفرعةٌ منه، أو أن كل العلوم تستند على هذه الفلسفة بينما تستغني هي عما سواها.
تتمثل هذه الفكرة في مفهوم الفلسفة الذي يربطها بالتساؤلات الكبرى ويحدد موضوعاتها وفق ذلك. نجد ذلك في صياغة جامعة نيويورك الواضحة لهذا المفهوم في رسالتها لزوار صفحة المقبلين على دراسة بكالريوس الفلسفة فيها:
تطرح الفلسفة أسئلة عامة عن الواقع والمعرفة والمنطق واللغة والمسلك. الفروع الأربعة الرئيسة للفلسفة هي الميتافيزيقا (ما هي الطبيعة المطلقة للواقع؟ ما الموجود فعلًا وما الذي ليس إلا مظهرًا؟) والإبستمولوجيا (ما الذي يمكن لنا معرفته وكيف لنا أن نعرفه إذا كان هذا ممكنًا أصلًا؟) والمنطق (ما هي مبادئ التعليل الصحيح؟) والأخلاق (ما هي القيمة الأخلاقية؟ وما هي القيم التي ينبغي علينا تبنيها؟).
ليس من المستغرب على ضوء هذا التصور أن يصبح كل شيء خاضعًا للفلسفة في ذهن مراهقنا، إذ يعتقد أن على الفيلسوف وضعَ المفاهيم ورسمَ الحدود وتقريرَ ما هو جدير أن يُعمل به، وما على البقية إلا السير وراءه إذا ما أرادوا أن يتنوروا ويسلكوا طريق الصواب.
لستُ هنا بصدد تحليل الأسباب التي أدت لتسيد هذا التصور دون غيره، ولن أحاول تقصي العلاقة بين المؤسسات الأكاديمية ووظيفية الفلسفة وتشكل العلوم الاجتماعية ضمن المنطق الاستعماري وازدهار الإنسانيات إبان الحرب الباردة، اللهم إلا ضمن نطاق ترسيم أعراض المراهق-فلسفيًا. ولذا، سأوجزُ هذه النقطة كما يلي: لما أخذ المنهج العلمي والعلموية يحتكران المعرفة وماهيّتها، ولما بدأ التقسيم المعرفي الحاد بين المجالات يتبلور، وجدت العلوم الإنسانية نفسها في مأزق. من جانبٍ أول، رسختْ النتائج المادية المباشرة للعلوم الطبيعية في الأذهان فكرةَ إمكانية تبني الإطار العلمي-الطبيعي وبالتالي توظيف العلوم الإنسانية في سبيلِ تحقيقِ نتائج ملموسة على أرض الواقع وركوب موجة التطور والتقدم. ومن جانبٍ آخر، من باب مواكبة الفصل الموضوعاتي بين مختلف العلوم الطبيعية، نحت العلوم الإنسانية هي الأخرى باتجاه هذا الفصل، فآلت على نفسها تقرير ذات وموضوع مجردين ومستقلين بما يسمح بإنتاج معرفة إنسانية من موقعٍ طبيعي محايد ومتسام، أي من عقلٍ متعالٍ على كل ما هو مادي وسياسي وملموس.
يبدو الأمر حتى الآن مبررًا ومفهومًا. فعلى مستوى المقاربة المنهجية، يمكن تناول أي موضوعٍ من زوايا متعددة، حيث لكل من هاته الزوايا "مجال" محدد له ماهيته وخصائصه وأدواته وأهدافه. ولكن بطبيعة الحال، فرض هذا التصور المعرفي نفسه على الواقع فأعاد قولبة العلائق والموجودات على ضوء منطقه. سأتناول هذه الفكرة بشكلٍ رئيسي بواسطة نتيجتين إشكاليتين: أولًا، تحولت المقاربات في الأذهان من مجرد زوايا مختلفة للواقع نفسه إلى عوالم منغلقة على ذاتها. بعبارةٍ أخرى، بدا وأن العلاقة بين الواقع والمقاربة علاقةٌ لازمةٌ تلغي (أو تهمش) ما سواها من المقاربات (ويتضاعف سوء الأمر حين يؤخذ بعين الاعتبار ما ينطوي عليه هذا المنطق من إلغاء للإبستمولوجيات الأخرى). ثانيًا، ضمن هذه العوالم المنغلقة على ذاتها، تبلورت عدة مواضيع "حصرية" لكل مقاربةٍ لا يحق للعوالم الأخرى المشاركة في صياغتها أو تناولها.
كيف يتجلى ذلك فيما يتعلق بالفلسفة؟ على ضوء الإشكالين المذكورين أعلاه، نجد أولًا أن المنهجية الفلسفية باتت مستقلة نظريًا عن بقية المجالات. بعبارة أخرى، صارت المقاربة الفلسفية لأي موضوع مقاربةً فلسفيةً بحتة، أي أنها تصاغ ضمن نطاق ما هو فلسفي (وهذا يعتمد على مفهوم الفلسفة طبعًا). ونجد ثانيًا أن موضوع التفلسف صار في المقام الأول والأخير خاصٌّ بالفلسفة، وأن للمجالات الأخرى حق استخدامه وفق الضوابط الشرعية الفلسفية وحسب.
نتيجةُ هذين الإشكالين واضحةٌ في رسالة جامعة نيويورك أعلاه حول مفهوم الفلسفة، وهي الرسالة التي نجد مثيلاتها في برامج الفلسفة بكبرى الجامعات عالميًا. يقودنا ذلك لإدراك أن برامج المؤسسات التعليمية ومن سار على نهجها تُبشّر فلسفيًّا بمواضيع محددة ومقاربات محددة، وهو التبشير الذي يُفضي بدوره لإنتاج تصورٍ محدد عن ماهية الفلسفة وموقعها من الإعراب مجاليًّا إلى جوار مواضيع ومقاربات ومجالات غيرها.
مجددًا، لستُ هنا بصدد تحليل عواقب مأسسة الفلسفة، ويمكن للمهتمين الاطلاع على ما تزخر به الإنترنت من أطروحات في ذلك، من بينها هذه المقالة القصيرة التي تنقد حرفة الفلسفة 📝 وتستعرض بشكلٍ وجيز التحولات في مواضيعها مؤسساتيًا منذ سبعينات القرن الماضي. ما يهمني في هذه الخربوشة ليس تصور الفلسفة الأكاديمي وإشكالياته بقدر اهتمامي بالمراهق-فلسفيًا واجتراره للمفاهيم، أي بالفرد الذي يفتح عينيه على الحياة فيتبنى مفهوم الفلسفة المؤسساتي هذا عقيدةً يدافع عنها بوجه العدى. ويهمني تحديدًا توصيف أعراض مراهقته الفلسفية في سياق ثنائية الفلسفة-الرواية الآنف ذكرها.
يؤمن مراهقنا أنه ثمة فلسفةً محضة بأسئلتها وموضوعاتها ومنهجيتها التي تُمايزها -بوصفها مجالًا أو تخصصًا- عن غيرها، كما يؤمن أن الفلسفة أساس كل شيء ذي قيمة. يصاحب هذا الاعتقاد امتيازٌ يمنح المراهق-فلسفيًا حق الخوض في كل المباحث من فكرٍ ودينٍ وعلمٍ وفن وأدب ومجتمعٍ ونفسٍ وسياسة وغيرها. ولكنه، في الوقت نفسه، لا يُعطي حق التفلسف لمن يتخصص في أحد تلك المجالات ويدنس الفلسفة عن طريق تطويعها لمجاله. بعبارةٍ أخرى، في تصور مراهقنا، يستطيع الفيلسوف إنتاج فلسفةٍ سياسية أو فلسفةٍ تطرح الأسئلة الكبرى حول السياسة، ولكن لا يستطيع السياسي طرح فلسفة بالمعنى نفسه، حيث أنه منغمسٌ في عالم الأدلجة والمصالح بما يحرمه لذة التجرد والتسامي. ينطبق الأمر نفسه على الأدب والروائي: يستطيع الفيلسوف المدرك والملم لجواهر الحقائق أن يطرح فلسفته عن الرواية ودورها كيفما يشاء، ولكن حاشى أن يتفلسف الروائيون حول صنعتهم أو حول "مواضيع" الفلسفة الحقة!
سأستطرد هنا بإيجاز قبل استكمال النقطة. قد يحتجّ أحد النبهاء بأن المفردات من قبيل "فلسفة سياسية" ليست سوى مفردات توصيفية مشروعة، وبأنها لا تُطبّع أي علاقةٍ هرمية تراتبية بين المجالات. ونجد نفس الشيء كذلك في فلسفة العلم، إذ يمكن اعتبار مفردة العلم هنا محض موضوعٍ للطرح الفلسفي دون أن يشير لدونيته لا من قريبٍ أو بعيد.
هذه الفكرة سليمة نظريًا، ولا إشكال فيها طالما أقرّت بعدم وجود "مجال" منفصل اسمه الفلسفة إلا على مستوى المقاربة. بعبارةٍ أخرى، ليس ثمة فلسفة في قبال فلسفة سياسية أو موضوعات تختص بها الفلسفة في قبال موضوعات تختص بها الفلسفة الدينية، بل ثمة مقاربة يمكن تسميتها بالمقاربة الفلسفية أو النظرية والتي تستطيع اتخاذ السياسة أو الفن أو الأدب أو الوجود مواضيع لها. وهذه المقاربة متعلقة في المقام الأول والأخير بالتساؤل عن المعنى، بالتساؤل عما يعنيه أي مبحث أو موضوع أو ظاهرة في علائقه بالذات واللاذات والمعرفة والعالم وغيرها من الأطراف.
وبالتالي يصبح العمل الفلسفي تعبيرًا نظريًّا تذاوتيًا، أي تساؤلًا عما يعنيه "الموضوع" في تفاعله المتبادل مع "الذات" (أضع الموضوع والذات بين علامات تنصيص إشارةً لطبيعتهما المشروطة -إن صح القول-، أي إلى كونهما فئات تحليلية لا مصداق لهما خارج الإطار التفلسفي نفسه). قد يتخذ هذا التعبير النظري شكلًا برهانيًا (لآرثر ميلزر بحث ممتاز بعنوان الفلسفة ما بين السطور 📖 يتقصى فيه أسباب تسيد هذا التعبير البرهاني وعلاقته بكلٍّ من الظروف الاجتماعية-الاقتصادية في بعض الدول الغربية وبالدور الوظيفي للفلسفة ضمن مؤسسات التعليم العالي)، لكن يمكن أن يتخذ أشكالًا تعبيرية أخرى من قبيل الأدبٍ والمسرح والحوارات والملاحم والفنون وغيرها، وهي من بين الأشكال التي حملت تاريخيًا -وما تزال تحمل في عصرنا- تساؤلات تبصيرية عن مختلف معاني الحياة.
نستنتج من كل هذا أن الفلسفة ليست أساسًا لبقية المجالات بالمعنى الحرفي للكلمة، بل أنها أساسٌ من حيث أن أيَّ مجالٍ وأي ممارسةٍ ينطلقان من تصورات محددة عن ماهيات الأمور ومنتهاها. ومثلما تتشكلُ المجالات وتتغير بالتفاعل مع الأسس الفلسفية التي تنطلق منها، فإن الأسس الفلسفية هي الأخرى تتشكل وتتغير بالتفاعل مع ما تجنيه من التجربة والممارسة.
هنا جانبٌ مهم آخر حول قصور المفهوم الضيق للفلسفة. بما أن الفلسفة مرهونةٌ ضمن هذا التصور بالأسئلة الكبرى، فثمة اعتقادٌ ضمني بوجود أجوبة كبرى محددة ينبغي التوصل إليها قبل الشروع في العمل. بعبارةٍ أخرى، لا بد في البداية من ضبط المعنى مجردًا (قبل) الخوض في تمثلاته وتطبيقاته واقعيًا. وفق هذا التصور، لا عجب أن يسعى المراهق-فلسفيًا لإيجاد أحدث الأجوبة وحفظها كي يتأكد من أنه حمّل التحديث الفلسفي الأخير. فما الذي يدفعه مثلًا للتبحر في تصور توماس پين للعلمانية طالما ألغاه تحديث تشارلز تايلور لها؟
تشوه النزعة النتائجية وتلغي أساس الفلسفة، أي عملية التساؤل بحد ذاتها. إن إلغاء تساؤل يعني بالضرورة إلغاء التفكير، وإلغاء التفكير يعني بالضرورة إلغاء الفلسفة. الثنائيات المذكورة في بداية الخربوشة منبثقة من هذه النزعة نفسها، حيث تنطلق من كون طرفي الثنائية جوابين عن تساؤلاتٍ سابقةٍ تم الإجابة عنها، مما يعني انتفاء الحاجة للتفلسف فيها ووجوب الانتقال لغيرها.
بعد كل هذا الإيغال في الفلسفة ضمن تصورات مراهقنا، أعود لتبشيره بالتناقض المزعوم بين الفلسفة والرواية. بما أنه قرر من البداية الإيمانَ بمفهومٍ مؤسساتي ضيّقٍ للفلسفة، فمن الطبيعي أن تبدو له الرواية خارج نطاق هذا المفهوم سواء على مستوى الموضوع أو الشكل أو التعبير. وكما ذكرت أعلاه، إن أقصى ما يمكن للمراهق أن يقرّ هو نعت روايةٍ ما بالفلسفية وقتما تطرقت لأسئلته الكبرى أو تناولت أحد مواضيعه "الفلسفية" المفضلة. تسميتها بالرواية الفلسفية لا يعني اعترافه بأيٍّ من أبعادها سوى البعد الفلسفي المزعوم، كما أنه لا يعني إقراره بالشكل الذي اتخذته الفلسفة في الرواية إلا من حيث إمكانية قولبتها في منظومةٍ برهانيةٍ فلسفية مستقلةٍ عن الرواية. ولذا من الطبيعي أن تجد مراهقنا يتحدث بحماسٍ عن روايات من قبيل الغثيان أو عالم صوفي أو الجريمة والعقاب، 📚 فالأولى روايةٌ "تشرح" الوجودية لمن لم يخض غمار الفلسفة الوجودية الحقة، والثانية تاريخٌ فلسفيٌ مكتوبٌ بطريقة شيقة ووجيزة لأولئك الذين يحتاجون مدخلًا للفلسفة، في حين يمكن اعتبار رواية دستويفسكي سبرًا فلسفيًا لأغوار النفس البشرية طالما اقتصرت أهمية الرواية على فلسفة الأخلاق والعدالة.
لكن مفهوما الفلسفة والرواية أوسع مما يدور بعقل المراهق-فلسفيًا، والأهمية المنسوبة للرواية طالما نحت للفلسفةِ ليس إلا انتصارًا للمفهوم الضيق (يشمل هذا الانتصار محاولات الدفاع عن الرواية ضد التناقض من خلال تبجيل الرواية الفلسفية). بل لو نظرنا لعبارة: الأهمية الحقيقية للرواية هي في كونها..........، فالحقيقة هي أن بالإمكان ملء الفراغ بأي دافعٍ لقراءة الرواية وستكون الإجابة صحيحةً نسبيًا ومغلوطة في السياق الأكبر للأمور. لكل منا دافعه الخاص لقراءة الرواية أو أي نصوص أخرى. قد يكون هذا الدافع الاستمتاع أو تزجية الوقت أو الاستزادة اللغوية أو استكشاف عوالم أخرى أو تقصي السياقات الثقافية أو حتى قراءتها بوصفها عملًا جماليًا وحسب. كل هذه الدوافع مشروعة، وأي محاولة لإلغاء أحدها أو تهميشه ليست إلا محاولةً لبناء هرمية في عالم الروايات. لا يعني هذا طبعًا أن الأعمال سواسية ولا أنها جميعًا في سلة واحدة، بل يعني أنه لا يوجد "أهمية" مطلقة وحيدة للرواية ولا أنه ثمة بعدٌ أولى من بقية الأبعاد. والأخطر من الاعتقاد بوجود أهميةٍ أو فائدة مطلقين للرواية هو تبني هرمية مستلهمةٍ من التصور الضيق للفلسفة والفكر، سواء من ناحية قبول الفصل بين الفلسفة والرواية أو من حيث إيلاء الأفكار اعتبارًا أكبر، فتصبح الرواية بالتالي مجرد وسيطٍ للتفلسف الموجه للعوام والبسطاء ومن لا يمتلكون الأدوات المطلوبة لاقتحام عوالم الفلسفة العميقة والعسرة.
من شأن التساؤل حول مفهوم الفلسفة الضيق أن يرمي بالتناقض بينها وبين الرواية إلى ذات القمامةِ التي تُوضع بها آراء المراهق-فلسفيًا. بما أن الفلسفة تعبير نظري عن علاقة الذات بموضوعٍ ما، فإن الشكل الذي يتخذه هذا التعبير ليسَ ضرورةً للتفلسف، أي أن العلاقة بينهما ليست تلازمية. بل أن تقصي دوافع اختيار الشكل جزءٌ من الفلسفة بحد ذاته، إذ يمكن التساؤل عما يحيط بهذا الشكل من علاقات ذاتية ترتبط باستخدام مفردات محددة وآلية توظيفها وعلائقها بالمؤلفات والأفكار الرائجة الأخرى وغيرها. لكن قد لا يصحّ ذكر مثل هذه الأفكار أمام مراهقنا فهي أكبر من عمره العقلي.
وفيما لا أعوّل على المقدرة النقدية للمراهقين-فلسفيًا في تخطي التصور الفلسفي هذا، أتفاءل بمن يأخذ على عاتقه مقاومة النزعات التي ترسخها منظومة المراهقين صغارًا كانوا أم ديناصورات. من الضروري إدراك أن تسيّدهم للساحة يعني على المدى الطويل تجميد كل من الفلسفة والرواية بذات اللوثة التي جمدت أذهانهم في مراهقتها. إحدى علامات تجاوز المراهقة الفلسفيّة هي قدرةُ الفرد على إيجاد الفلسفةِ أينما كانت دون أن يحتاجَ لأن يُمسك أحدٌ بيده وأن يدله على مكامنها. بقاؤه فيها يعني أنه سيظل عاجزًا حتى عن إدراك النصوص "الفلسفية" البرهانية الواضحة الموجزة. وقانا الله وإياكم شر المراهقة الفلسفية على كبر.
ملاحظة أخيرة: أعي تمامًا استناد طرحي على مفهوم الفلسفة بوصفها أمرًا مرتبطًا بالنصوص رغم زعمي أنها لا تقتصر عليها. لكن ثمة سببان لذلك. أولًا، إن التصور المغلوط الذي يضع الفلسفة قبال الرواية يستبطن فكرة أن الفلسفة فعلًا مقتصرة على النص، وبالتالي كان لزامًا عليّ تفنيد هذه الفكرة ضمن تصوراتها. وثانيًا، يؤمن مراهقنا الفلسفي بأن مجال الفلسفة منحدر من إرثٍ يبدأ من الإغريق ويمر بالرومان وغيرها من محطات تاريخ الفلسفة الغربي التقليدي (مع أنه لا يدرك "غربيّة" هذا التصور ولا حداثته). وبالتالي فإن التطرق لكيفية مقاربة الفكر تاريخيًا -أو كيفية قراءة الفلسفة في عصور سابقة لا نمتلك بالضرورة وصولًا لبعض أشكال تعبيراتها- يعني تضاعف حجم هذه الخربوشة. ولذا سأكتفي بالإشارة لمقالةٍ أخرى كتبتها حول إمكانية تأريخ الفلسفة والإشكاليات المتعلقة بذلك. 📝