عندما قررت مشاهدة فيلم جرائم المستقبل (Crimes of the Future) قبل بضعة أسابيع، بنيت قراري على ثلاثة أمور: اندراجه تحت صنف الخيال العلمي المرعب أولًا، وملخصه المثير للاهتمام ثانيًا، ووجود ممثلين أحبهم -أو أحب النظر إليهم- ثالثًا.
جهلت اسم مخرج الفيلم دايڤد كروننبرگ حتى لحظة كتابة الخربوشة، وكان من الطبيعي تمامًا بالنسبة لي عدم تمييزه أو تمييز أفلامه، وذلك بحكم كوني بعيدًا كل البعد عن الحنكة السينمائية التي تتطلب حفظ أسماء المخرجين قبل معرفة أفلامهم. وجهلت أيضًا انطباعات الجمهور المتذبذبة على موقع الطماطم العفنة وIMDB، وهي الانطباعات التي ربما جعلتني أؤجل مشاهدة الفيلم لو انقدت وراءها.
كل هذه الهذرة لأؤكد على أني لم أمتلك أي صورة مسبقة عن الفيلم. منذ خرج نتفلكس للحياة وأنا واقع تحت تأثيره المتمثل في دفعي لتجربة أشياء جديدة لا لشيء سوى كونها متاحة ضمن مبلغ اشتراك شهري على منصة ما، وأكيد أني سأحلل الفلوس التي أدفعها. وتلك الليلة غير مستثناة. فتحت OSN دون أدنى فكرة عما سينتهي بي المطاف لمشاهدته. طالعت قائمة أفلام التشويق والأكشن فما وجدت ضالتي. فيلم كوميدي؟ لا مو جوي حينها. توجهتُ بعدها لفئة أفلام الرعب، وقلّبت ما بين أفلام الزومبي والقتلة المتسلسلين والرعب السايكولوجي بحثًا عن شيء غير القفزات التخويفية وحبس الأنفاس، وكان لي ما أردت حين وقعتُ على بوستر شد انتباهي.
قرأت النبذة عن الفيلم واستُثير اهتمامي أكثر: "غوص معمق في مستقبل ليس بالبعيد تمامًا، حيث تتعلم البشرية التأقلم مع محيطها الاصطناعي. يدفع هذا التطورُ البشرَ لتجاوز حالتهم الفطرية باتجاه التحول الذي يعدّل تكوينهم البايولوجي". يعني فوق تصنيفه كفيلم رعب يكون فيلم خيال علمي عن التغير الجيني البشري أيضًا؟ وت'س نت تو لوڤ؟
لكن ما إن ضغطت زر التشغيل ومرت الدقائق الأولى، أدركت وجود الكثير مما لا يُلڤّ. في المشاهد الافتتاحية، نرى أمًا تراقب ابنها المتسكع على الشاطئ، محذرة إياه من تناول الأشياء التي يعثر عليها. قد يعتقد المشاهد أن الابن -كبقية الأطفال- يضع أشياء عشوائية في فمه، ومن حق أمه الخوف عليه من الأغراض الضارة أو السامة التي قد تكون ملقاة على الشاطئ. سرعان ما يتبدد الاعتقاد في المشهد اللاحق، حين نرى الابن جاثمًا في دورة المياه يتناول دلوًا بلاستيكيًا. تراقبه أمه خلسة، ثم ينتهي بها المطاف تقتله خنقًا أثناء نومه جراء ما رأته.
تستمر غرابة الفيلم وسط عمليات جراحة مسرحية، وأعضاء جسدية موشومة ومعفنة، ومؤامرات لا تُفهم دوافعها وأهدافها، ومتسكعين في الأزقة شهوة وجرمًا، وأناس يأكلون ما يشبه لوح البروتين فيعيش بعضهم ويموت آخر، وكرسي مقزز يجلس عليه البطل كلما حاول تناول طعامه، وغيرها من اللقطات والأحداث التي تزيد المُشَاهِد حيرة. لا أعرف إن كنت أرغب بتقديم ملخص لحبكة الفيلم عطفًا على غرابتها التي تتطلب شرحًا مفصلًا لأعراف العالم الذي تدور فيه، ولكن في الوقت نفسه أظن أن من الصعب التطرق لفكرة الخربوشة الرئيسية دون استعراض وجيز لخط الأحداث ذي الصلة بالفكرة.
يدور الفيلم في زمن مستقبلي غير محدد، متقصيًا بشكل رئيسي الأداءات المسرحية لبطلي الفيلم سول وعشيقته كابريس (لا دخل لها بأي كابريس تسعاوي) وهما يستعرضان آخر صرعات التفاعل ما بين التكنولوجيا والجسد البشري. في هذا الاستعراض، يؤديان معًا عرضًا عموميًا تداعب فيه كابريس ريموتًا يتحكم بأذرع آلة تتغلغل في جسد سول لتستأصل عضوًا من أعضائه بعد وشمه بطريقة فنية. وهذا الشيء ممكن لأن أجساد البشر في زمن الأحداث لم تعد تشعر بالألم.
عليّ التوضيح هنا بأن زمن الفيلم مستقبلي للدرجة التي بدأت أجساد البشر فيها تتغير فطريًا وتنتج أعضاء جديدة جراء طفرات جينية ما. وبالتالي حين تجري كابريس الجراحة على جسد سول، فهي تستأصل عضوًا زائدًا كما لو أن الاستئصال أداء مسرحي فني يستحق الاحتفاء والمشاهدة. وتزداد مسرحية العرض بواسطة الوشم الذي ترسمه كابريس على العضو قبل استئصاله. ثمة حضور دائم لجنسانية ثيمة تشويه الجسد ظاهرًا وباطنًا.
ولأن جسد سول ينتج أعضاء جديدة بوتيرة مستمرة، يصبح محل اهتمام السلطات وجهات أخرى كلٌّ بمصالحها الخاصة تجاه هذه الطفرات. ومنها ندرك أن سول عميل سري لدى الاستخبارات التي تحاول السيطرة على العرق البشري وإبقاء آخر التطورات تحت السيطرة خوفًا مما قد يصبح عليه. نسيت صراحة كيف ولماذا صار عميلًا لديهم.
لأغراض هذه الخربوشة، سأتجاهل معظم الأحداث لأركز على خط حبكة وحيد. تذكرون الطفل آكل البلاستيك مطلع الفيلم؟ اسمه بريكن. نكتشف لاحقًا أن بريكن أول مولود من طفرة جينية تطورية تمكن البشر من هضم البلاستيك. بعبارة أخرى، بات الجهاز الهضمي البشري قادرًا على التعامل مع البلاستيك كما لو أنه غذاء "حقيقي"، مما يعني إمكانية اعتماده ضمن حمية البشر اليومية. وتدريجيًا نتأتى على معلومة أن لوح البروتين الذي تأكله بعض الشخصيات ليس إلا تلوثًا معاد تصنيعه ليصبح غذاء يتناوله جيل جديد من البشر. هناك مجموعة أخذت على عاتقها تصنيع الألواح بغية إعادة أقلمة الجسد ليتناسب مع الزمن الذي يعيشون فيه. ربما يمكنكم التخمين بأن الفيلم يتضمن رسالة ضد التلوث البيئي وعواقبها طويلة الأمد علينا وعلى الأجيال القادمة. العنوان حرفيًا هو جرائم المستقبل، أي الجرائم التي نرتكبها اليوم وتحصد عواقبها أجيال المستقبل.
على كل حال، يناشد والد بريكن بطلَنا سول بتشريح ولده في عرض مسرحي عمومي على غرار العروض التي يؤديها سول مع كابريس، زاعمًا بأن في جسد بريكن ما سيكشف للناس مستقبل البشرية جمعاء. يستشير سول مرؤوسه في الاستخبارات، ويتلقى الضوء الأخضر لإجراء العملية على بريكن. نشاهد لاحقًا كابريس وهي تخطب في الناس حول أهمية هذه العملية، وتباشر تشريح جسد الطفل. لكن بدل رؤية الجهاز الهضمي المتطور القادر على هضم البلاستيك، نرى أحشاء موشومة ومتعفنة. بعدها نكتشف دور الاستخبارات في التلاعب بجسد بريكن واستبدال أحشائه الحقيقية خشية اندلاع ثورة من نوعٍ ما، وتتوالى الأحداث متسارعة حتى النهاية التي يستنتج سول فيها أن علاج مصاعب الأكل لديه (والتي يضطر بسببها للجلوس على ذاك الكرسي المقزز) كامنة في المضي خلف معتقدات أكلة البلاستيك.
تحكني يدي للحديث عن تصوير الفيلم للعلاقة ما بين الفن والواقع، أو ما بين ممارسة الفن والفلسفة الحياتية اليومية بالأحرى. وأجدني راغبًا لحد ما في الحديث عن البنى الاجتماعية في ترسيم حدود (وجوهر) المفاهيم الجندرية والجنسية. لكن سأمسك نفسي وسأفكر بصوتٍ عال فقط عما حداني لمشاهدة الفيلم في المقام الأول: التحولات الاجتماعية الناجمة عن فرط سبحة التطور التقني.
تطمنوا، لن تكون خربوشة تستنتج بأن التقنية سيئة وأن الحياة "التقليدية" جيدة أو غيرها من الخرابيط. ولا يهمني البعد التنبؤي في حبكة الفيلم بقدر ما يثير اهتمامي معالجته لعواقب التطور التقني على مستوى الأفراد والعلاقات بينهم.
ربما شاهدتم أفلامًا من قبيل إيليزيوم الذي يقارب الفوارق الطبقية بين الأثرياء والفقراء (أو الملاك واللا-ملاك) فيما يتعلق بجودة البيئة والمنظومة الصحية. وربما شاهدتم أفلامًا أخرى مثل In Time أو Parasite، والتي تسلط الضوء هي الأخرى على ثيمات شبيهة في الكيفية التي يحظى بها الأثرياء بحياة أكمل وأفضل، في حين يعاني المسحوقون حتى في توفير احتياجاتهم اليومية (وهي المعاناة المرتبطة رأسًا برفاه الأثرياء).
يتضمن فيلم جرائم المستقبل ثيمات مشابهة لحد ما، إلا أنه يختلف في الكيفية التي يبني بها النسيج الاجتماعي لمجتمع الفيلم. على سبيل المثال، تركز الأفلام الآنف ذكرها على الصراع بين الطبقتين، وغالبًا يتخذ الفيلم منظور أحد المسحوقين الذين يتعرضون لمصيبةٍ ما فيسعى جهدًا للانتقام أو التغلب على العوائق الطبقية التي ولدت مصيبته. في المقابل، لا يمتلك مشاهد جرائم المستقبل أدنى فكرة عن دور الثروة أو نوعها، ولا يدري ما إذا كان تكديس الثروات ممكنًا أصلًا في زمن الأحداث. ما يدركه بوضوح هو وجود التمايز الناشئ ما بين الأفراد جراء التحولات الجينية وتشويه الجسد.
يمكننا منذ بداية الفيلم فهم أهمية الأفراد مثل سول -أي أولئك القادرين على إنتاج أعضاء جديدة- لدى العديد من الجهات. هناك عشيقته كابريس التي تجد في الأمر موضوعًا فنيًا صالحًا للاستعراض أمام الأعين، وهناك الاستخبارات التي تستقطب سول لأجل متابعة المستجدات في عالم التحولات الجينية، وهناك هيئة تسجيل الأعضاء الجديدة التي تحاول استخدامه للمشاركة فيما يقال لنا أنه مسابقة جمال (مع أن كيفية تناوله تشي بأن ثمة شيء إضافي لم أفهمه). وأخيرًا، هناك والد بريكن الذي يحاول إقناع سول بأن مستقبل البشرية متوقف على تطويع التحولات الجينية ضد التلوث والدمار البشريين.
على رغم أهميتهم، يظل الأفراد -مثل سول- وَحَدات مستقلة، نقطة في بحر من الناس الذين يعيشون حياة طبيعية. بعبارة أخرى، لا يشكل تمايزهم تهديدًا حقيقيًا على الوضع الراهن ولا على السلطات. مهما كانت قناعاتهم حول التحولات الجينية وعواقبها، فإنها لا تتعدى أرنبة أنفهم وأهدافهم الشخصية.
على الجانب الآخر، نجد أكلة البلاستيك خطرًا محدقًا على السلطات لدرجة أنها قررت إقصاءهم وقتلهم حيثما أمكن. قد يعود ذلك جزئيًا لمزاعم مرؤوس سول بأن أكلة البلاستيك يحاولون تغيير النوع البشري فطريًا وبالتالي فهم يشكلون تهديدًا على البشرية جمعاء. وكلامه يستقيم منطقيًا لحد كبير؛ حين تتطور أجهزتنا الهضمية لتمكننا من تناول وهضم مواد لم تكن جزءًا "طبيعيًا" من حميتنا الغذائية، فمن يعرف ما سيؤدي إليه ذلك على المدى الطويل؟
لكن في الوقت نفسه، ثمة وجهة نظر معتبرة لدى والد بريكن. اعتدنا على تعريف ما هو طبيعي بصفته امتدادًا لما وجدنا عليه أجسادنا في فترة من الفترات أو عهدنا عليه طبائعنا الاجتماعية. فهل يمكننا اليوم الحفاظ على نفس مفهوم الطبيعية ونحن نشاهد الدمار والتلوث -غير الطبيعيين- اللذين أنتجتهما أنشطتنا على هذا الكوكب؟ أوليس التأقلم مع البيئة جسدي بقدر ما هو ثقافي واجتماعي؟
هنا تكمن خطورة أكلة البلاستيك بصفتهم مجموعة ذات مصالح مغايرة لما تحاول السلطات الحفاظ عليه. التنافر بينهما جليٌّ على مستوى الغاية: تسعى السلطات لمواصلة إحكام سيطرتها دون اعتبار للحال المدقعة التي يعيشها البشر، في حين يسعى أكلة البلاستيك لصنع ظروف جديدة يتاح للمسحوقين من خلالها موارد جديدة. وبغض النظر عن العواقب طويلة الأمد لتطور أجسادنا بهذا الاتجاه، فإن السؤال الجذري الذي تلامسه همومهم مشروع ومنطقي: ما هو الطبيعي في عالم غير طبيعي؟ ومن يمتلك مصلحة في دفعه باتجاه دون الآخر؟
بدأت مشاهدة الفيلم متسائلًا وت'س نت تو لوڤ، وأنهيته مستنكرًا ما هذا الفك؟ وما زلت بعد أسابيع من مشاهدته متمسكًا بالاستنكار نفسه. أحتاج بطبيعة الحال مشاهدته مجددًا لمراجعة الغرائب التي جهلت معناها في المشاهدة الأولى، والتي قد تمتلك مفاتيح تفسير أبعاد اجتماعية إضافية تجعلني أراجع حسابات قراءتي الأولى. وبس والله. أدرك إنها قراءة مبتسرة نوعًا ما، ولكن قلت أخربش بتساؤلاتي حزتها قبل أن تتلاشى من ذهني.