في إحدى صباحات الويكند قبل فترة، باشرت قراءة كتاب الپوپ-فلسفة لعبد السلام بنعبد العالي. بدا لي كتابًا قصيرًا وخفيفًا مناسبًا لاستفتاح يوم الجمعة على حد تعبير أبي حيان التوحيدي. تتكون صفحات الكتاب الـ154 من مجموعة مقالاتٍ قصيرةٍ متشعبةٍ في مواضيعها، وإن كانت جميعها جزءًا من ثيمة واحدة، ولذلك فهو مناسبٌ لسويعات النقاهة والاسترخاء التي عزمت عليها، وكأني في ذلك أطلس راند مستريحًا.
لكنني ما إن بدأتُ بمقدمة الكتاب التي كتبها عبد الفتاح كيليطو حتى شعرتُ برغبةٍ عارمةٍ بالتنفيس النيتشوي عما خالجني أثناء وبعد قراءتها، وهو الشعور الذي عنونتُ المقالة به: عقدة الاثورتي-فگر (authority figure/figure d'autorité/авторитетная фигура) في الطرح الفكري. رغم أن مقدمة الكتاب لا تتعدى الصفحات الثلاث، إلا أنها ملأى بتجلياتِ هذه العقدة وأمثلتها الواضحة وضوح الشمس. كنت أعتزم الكتابة عن عقدة الاثورتي-فگر في مقالة تتناول فلاسفة السوشال ميديا وما تنطوي عليه منشوراتهم من اجترار ما لاكه غيرهم وتنصلٍ من مسؤولية امتلاك عواقب فكرةٍ ما، ولذا تبدو الفرصة الآن مؤاتية لطرح جزء مما أردت.
الفگر فقرًا معرفيًا
أبدأ أولًا بمفهوم عقدة الاثورتي-فگر: ما الذي أعنيه بذلك تحديدًا؟ يمكن القول على غرار ابن تيمية بأنها النزعة لإقحام أسماء شخوص لها قامتها (متخيلة أو فعلية) في معرض تبرير أو تدعيم أمرٍ ما، بحيث يستقي الطرح وزنًا وقيمة إضافيين من خلال هذا الإقحام. بعبارةٍ أخرى، تنبني عقدة الاثورتي-فگر على محاولة الربطِ بين المضمون والقامة لإضفاء قيمةٍ أكبر على المضمون من خلال هذا الربط وحده بمعزلٍ عن أي عوامل أخرى. ففي سياق الطرح الفكري، وهو ما أتناوله في هذه المقالة، تشير عقدة الاثورتي-فگر إلى نزعة إقحام أسماء المفكرين على الطالعة والنازلة بغرض إضفاء عمق فكري لِما يُطرح، مهما كان الطرح تافهًا -كحفلة تفاهة كونديرا- أو مستغنيًا عن هذا الإقحام.
ليس كل استحضارٍ للقامات الفكرية إشارةً لهذه العقدة بطبيعة الحال، بل أنه في الوقت المناسب يُقوي الفكرة ويجعلها أكثر صلابةً ومنطقية، وهو الأمر الذي يؤكده تشارلز تايلور. ويمكن التمثيل على الاستحضار المفهوم بما يحدث حينما يُستشهد بمفكرٍ ما في معرض تبيان مواطن ضعف طرحه أو مناقشة أسسه أو البناء عليه، دون الارتكان لاستقباله طرحه معلبًا أو مجردًا. فلو أوردتُ ما يقوله المسيري عن رواية فرانكنشتاين لإثبات أنه لم يقرأ الرواية ولا يعرف أين حطه الله، فإن هذا الاستشهاد خارج نطاق ما أعنيه هنا بعقدة الاثورتي-فگر.
كما يمكن التمثيل على الأمر أيضًا بما يحصل حين يستقي الكاتب مفهومًا محددًا لمفكرٍ ما بحيث يمايزه عن مفاهيم مفكرين آخرين شبيهة. فلو أردت مناقشة فكرةٍ تنبني على مفهومٍ محدد للسياسة (وهو مفهومٌ أقبله على الأرجح)، فلا ضير في الاستشهاد بالمفكر الذي وجدت المفهوم عنده في سبيل البناء عليه هو تحديدًا دون غيره. ولذا لا يصح رمي كل استشهادٍ بأنه عقدة اثورتي-فگر، ولا تصح المساواة بين جميع الاستعمالات للأسماء، فليس كل استشهاد كافكويًا عدميًا في قبال مطرقة قاضي مدينة النخيل حيث كل شيء جميل.
إن عقدة الاثورتي-فگر التي أتناولها في هذه المقالة تعكس جوهريًا خواء فكريًا وتنصلًا من مسؤولية امتلاك الفكرة بعواقبها، كما أنها تشير إلى وجود خللٍ أفلاطوني حقيقي في ترسيم حدود الطرح من خلال موضعته على مستوى متسامٍ عن الواقع. بعبارة أخرى، خلافًا لمزاعم فلاسفة السوشال ميديا واعتقادهم أن اجترارهم المقولات (منسوخةً أم منقولة) يعني الانخراط في حوار فكري مع أصحابها، فإن ما يحدث فعلًا حين تحضر عقدة الاثورتي-فگر هو منح القداسة لأشخاصٍ عن طريق تجريد كل ما يرتهن بأفكارهم من سياقات والالتجاء لعالم متوهمٍ من الأفكار السابحة المتحاورة والمتبارية.
سأطرح هنا مثالًا اعتباطيًا سريعًا لتوضيح الفكرة أعلاه. فلنأخذ الاقتباس التالي: "ليست القراءة غاية في حد ذاتها، بل وسيلة لغاية". بحكم اعتقادي برأي مماثل لما يرد في الاقتباس، أستطيع الاستشهاد به لتدعيم طرحي من خلال الاستناد على وزن قائله، ربما كالتالي: إن القراءة، حسبما يعتقد مانگويل، وسيلة لتحقيق غاية ما، وبالتالي فإن تمجيد القراءة لذاتها لا يعدو كونه كرنجًا فاقدًا البوصلة. من شأن هذا الاستشهاد بمانگويل أن يجعل القارئ أكثر حذرًا من توجيه سهام نقده لي، إذ أنه قد يهاب خوض حربٍ صار كاتب تاريخ القراءة أو فن القراءة أو المكتبة في الليل جزءًا منها.
لكن الحقيقة أن مانگويل ليس من وجدت هذا الاقتباس عنده. أخذت الاقتباس مما قاله هتلر في كفاحه. ثمة خلل ما هنا صح؟ من ذا بكامل قواه العقلية يستشهد بهتلر في تدعيم أفكاره؟ هنا لا يسعني إلا قول سبحان الله. لما كان مانگويل قائل الاقتباس المفترض، بدا مضمونه محض فكرة سابحة. لكن حينما اتضح أن هتلر وراءها، بات من الضروري إنزالها من عالم الأفكار المتعالي وعرش القراءة المقدس وقراءتها بوصفها جزءًا من الشر المطلق الذي يمثله. بعبارة أخرى، حتى لو كانت الفكرة سليمةً ظاهريًا، إلا أنها يجب ألا تُعامل هنا بوصفها فكرةً وحسب، بل ينبغي ربطها بسلسلة السياقات التي شكلت آراء وأفعال هتلر الأخرى.
الشاهد من هذا المثال ليس تذكيركم بأن هتلر كان قارئًا وبأن الموسيقى لا تؤذي أحدًا، وإنما الإشارة إلى ما يكتنفه استحضار أسماء المفكرين من خواء فكري وتنصل من مسؤولية الطرح، فضلًا عن إضفاء هالة قدسية فكرية عليه. فلو كنت أتبنى فكرةً ما، لا أجد حاجةً لتبريرها أو تدعيمها باسم أي مفكر، ومن المفترض أن أمتلك مقاليد طرحها وتوضيحها بشكل سليم حتى يتضح خللها (أو بعض خللها) لدي فأراجع ما أعتقده، وهو ما يذهب إليه زيجمونت باومان في حداثته السائلة. لكن عقدة الاثورتي-فگر باتت متفشية لدرجة أننا صرنا نرى الأمر معكوسًا، وصرنا على إثر ذلك نقيّم جودة الطرح بكمّ المفكرين والمصادر الداعم له. يمكنني الاستمرار في التحلطم النظري الكيركغاردي إلى ما لا نهاية، ولذلك سأتوقف عن ذلك وسأطرح مقدمة كيليطو مثالًا جليًا على هذا النوع من العقد.
ثلاث صفحات وتسعة أسماء
كما ذكرتُ أعلاه، يبلغ طول مقدمة كيليطو لكتاب الپوپ-فلسفة ثلاث صفحات، والكتاب عبارةٌ عن مجموعة من المقالات القصيرة في شتى المواضيع التي تتراوح بين ظواهر يومية وفلسفات وتعليقات أو تحليلات فلسفية. السؤال الرئيسي الذي أطرحه هنا: ما الذي يستدعي ذكر تسعة مفكرين (أي بمعدل ثلاثة لكل صفحة) في هذه المقدمة القصيرة لتقديم مؤلفٍ لا يتطرق بالضرورة لأي منهم؟ أورِد الاقتباسات أدناه للتوضيح:
أتساءل أحيانًا لماذا لم يؤلهوا للبلاهة أيضًا، لا سيما حين أتذكر قولًا للشاعر الألماني فريدريش شيلر: "ضد البلاهة، حتى الآلهة تكافح بدون جدوى."
لا شك أن غوستاف فلوبير كان يقتسم الرأي ذاته، وهو الذي أولى البلاهة أهمية قصوى [...]
يحيل بنعبد العالي في هذا الصدد إلى رولان بارط الذي نبه إلى ارتباط البداهة والمسلّم به بالعنف، والذي شدد على "أن العنف الحق هو أن نقول: طبيعي أن نعتقد هذا الاعتقاد، هذا أمر بدهي."
لا تدرك الحقيقة، حسب تعبير بليغ لغاستون باشلار، "إلا في جو من الندم الفكري."
بناء على ذلك، "يتغير مفهوم الفكر ذاته، فيغدو الإنسان موجودًا، لا من حيث هو مفكر، كما ذهب أبو الفلسفة الحديثة، وإنما من حيث لا يفكر كما أوضح لاكان." (ديكارت ولاكان هنا يَرِدان في معرض الاقتباس، فلعل من الظلم قليلًا نسبة الأمر برمته لكيليطو في ذكرها)
وللتذكير، فالجاحظ لا يمكن أن يتطرق لظاهرة ما إلا بوضعها بجوار ظاهرة معاكسة، فيقول الشيء وضده.
اقتباسات بنعبد العالي تصب في هذا المنحى، كقول نيتشه: "كم كان الإغريق سطحيين... من شدة عمقهم."
ما يحير في بعض النصوص الأدبية أن البلاهة قد تتحول إلى نقيضها. أبله دستويفسكي ليس أبلهًا، بل يمكن الجزم أنه قمة في الذكاء.
لا أجد هذا الاستعراض إلا تجليًا لعقدة الاثورتي-فگر، إذ ليس ثمة أسبابٌ حقيقية تستدعي استحضار هذه القامات في مقدمة الكتاب في طرح أفكار اعتيادية إن صح التعبير. وأدعي استغناء المقدمة عن هذه الأسماء –باستثناء بارت ربما- لأن ثيمة الكتاب الرئيسية كما يشرحها بنعبد العالي بنفسه في المقالة الأولى تُحارب نزعة الاثورتي-فگر إلى حد ما. يقول بنعبد العالي:
الفلسفة الپوپ إذًا سعي للخروج بالفلسفة من أسوار الجامعة، حيث تغدو المعرفة عائقًا ضد الفكر، بهدف إنقاذها من مرض التأويلات والشروح والتعليقات، وجرها بعيدًا عن التقاليد الفلسفية التي رسخها تاريخ الفلسفة بما يعطيه من قدسية للنصوص، وتأليه للمعاني، مع ما يستدعيه كل ذلك من مرور عبر "الدواخل": دواخل الوعي و "دواخل" المفهوم، ودواخل النصوص.
عقدة الاثورتي-فگر كما أراها جزء لا يتجزأ من التقاليد الفلسفية وقدسنة النصوص والمعاني التي ذكرها بنعبد العالي، وبالتالي يصبح استحضار كل تلك الأسماء في المقدمة أمرًا غير ضروري ومنافيًا في الحقيقة لفحوى الكتاب (لا يهم ما إذا التزم الكتاب فعلًا بمضامين هذا الاقتباس، إذ هذا موضوعٌ آخر).
لا أهدف أن تكون هذه المقالة "طويلة"، على حد قول دستويفسكي، لكن من الضروري قبل إنهائها أن أتطرق بشكلٍ وجيز إلى بعض الحجج التي ينادي بها فلاسفة السوشال ميديا ومن سار على دربهم في معرض تبرير استعراضهم المفرط لأسماء الفلاسفة.
الحجة الأولى: يجب نسبة الأفكار لأصحابها
تستبطن هذه الحجة في الحقيقة ثلاث نقاط. أولًا، إنها تشير لكون الأفكار المطروحة مستوردة دون أي جهدٍ لإعمال الفكر فيها. وأظن هذا اللغط متولد جزئيًا عن مراجعة الأدبيات الذي يستوجب على الباحث الإلمام بما يُطرح في مجال بحثه من أجل تبيان مواطن قصوره وتوضيح تميز إسهامه الخاص. وهذا معقولٌ طبعًا. لكن حينما يرد في الصفحة الواحدة اسم عشرين مفكرًا، كل ما يتبادر لذهني هو أن الطرح برمته محض شوربة أسماء وأفكار لا متن حقيقي وراءها.
ثانيًا، في حين أوجه أصابع اللوم في المقام الأول للأكاديميا وتشديدها المبالغ فيه على الاستشهادات وتجريد الأفراد في كثيرٍ من الأحيان من أي بوادر إبداعية خارج النسق التقليدي، إلا أن هذا لا يعني بأي حالٍ من الأحوال قبول النزعة الاستشهادية لكل شاردة وواردة. الاستحضار المبالغ فيه يكشف احتضار الطرح، لا رصانته.
ثالثًا، لا أؤمن شخصيًا بمسألة امتلاك الفكرة الذي يستوجب الاستشهاد بأصحابها لهذا الحد. نعم، هناك أفكار أصيلة، لكن بالمقابل هناك العديد من الأفكار المتشابهة التي عُبر عنها بطرق مختلفة عبر التاريخ ودون أن يكون المفكرون بالضرورة على علمٍ بما قيل قبلهم أو بعدهم (أنوّه أني هنا أتناول قصور الأساس ضمن ما يقول به فلاسفة السوشال ميديا بوجود أفكار كونية مجردة، وإلا لدخلت في معمعة أسئلةٍ أخرى). فبأي حق نُملّك الفكرة فردًا دون آخر؟ مجددًا، أشعر أن هذا الإشكال متولد جزئيًا من قضية الحقوق والسرقات الأدبية، وهي مسألة شائكة لا أريد الخوض فيها هنا.
الاقتباس الأول لكيليطو قريبٌ لما أريد قوله، فهو لا يتعدى تدعيم فكرة كيليطو عن البلاهة باقتباس غير ضروري من شيلر. بعبارةٍ أخرى، يبدو كما لو أن الفكرة عن البلاهة ليست صلبة بما فيه الكفاية (وأنا لا أقول أنها كذلك فعلًا، أقول يبدو) بحيث احتاج كيليطو لتأييدها بشيلر.
الحجة الثانية: نستحضر الفلاسفة لمناقشة أفكارهم
ربما عشرة بالمئة فقط ممن يستحضر الأفكار يعتزم نقاشها ونقدها والبناء عليها، أما التسعون بالمئة الباقية ليسوا كذلك حسبما يقول ميشيل فوكو. الظاهرة أوضح من أن أحتاج لتوضيحها. اقتباس كيليطو الثالث يبدو كما لو أنه أتى في صدد مناقشة البداهة، لكن الحقيقة أنه تناول ارتباطها بالعنف، دون بحث ما إذا كان هذا الارتباط ذا معنى أم لا ودون بحث أوجهه.
الحجة الثالثة: التفلسف يقتضي الحوار ولو بشكل جزئي مع الفلاسفة
غير صحيح. هذا التصور نتيجة التخصص الفلسفي الأكاديمي، وهو جزء من الإرث الذي يحصر الفلسفة على النصوص أو يستقيها منها. تطرقتُ سابقًا بشكل مفصل لاعتقادي الشخصي بتولد الفلسفة من وجود الذات في الحياة اليومية وارتباطها بالمعاني المشتملة فيها، ولذا لن أعيد الفكرة هنا. الشاهد من الأمر أن التجربة المعاشة مكون رئيسي من عملية التفلسف، وليس من المنطقي استحضار من لم يساهم في تفكيكها بقصدٍ أو بدون. وقد يحدث بطبيعة الحال أن نستقي بعض تأملاتنا مما وجدناه عند الآخرين، ولكن يجب ألا نفترض أن أساس التأمل هو هذا الوجود المستقل عن تساؤلاتنا.
الحجة الرابعة: يمكن إسقاط فكرة فلان على واقعنا وفهمه بواسطتها
لول 😂😂😂.
ما بدأ بمحاولةٍ للتنفيس حول عقدة الاثورتي-فگر انتهى بمقالةٍ أطول مما أردت، ولذا سأختم "هنا" على حد تعبير الجاحظ. جل ما أردته من وراء السطور السابقة هو تسليط الضوء على الالتجاء بأسماء المفكرين والقامات في معرض الطرح، وهو الأمر الذي يؤدي لإضفاء عمق زائف وللتملص من عواقب الأفكار عن طريق رميها على أشخاص لهم وزنهم. وسؤالي في ختام المقالة سؤال ديكارتي: إِلَمَّتى؟