سمعت الدقايق الثمان الأولى من هذي الحلقة وطفّيتها نظرًا لاختلافي المنهجي التام ويا الضيف. وتساءلوا بعض الأصدقاء عن قصدي بالاختلاف المنهجي، لا سيما وإنه بعض التفاصيل اللي يبدو إنها ذُكِرت في الحلقة لاحقًا كانت معقولة وضمن المعروف عن التاريخ الإسلامي في حقبه المبكرة. وفي نفس الوقت، بدا بالنسبة ليهم إنه الحكم على حلقة مدتها ساعتين وربع من أول ثمان دقايق عبط ماله داعي، وكان من المفترض إني أستمع أكثر قبلما أقرر إنه المنهجية مغلوطة وإنه الحلقة ما تسوى. وبالإضافة لذلك، وصلتني بعض الردود اللي تتساءل أساسًا عن صحة إشكالياتي وعما إذا كانت مجرد فصل مفاهيمي ماله داعي، غير الردود اللي تقول إنه الضيف ما طاح في الإشكالية اللي أتكلم عنها أصلًا.
وما فيه شك إنه كلامهم فيه جزء من الصحة، بس المصايب المنهجية الكامنة في هالدقايق أكثر من إني أقدر أبلعها. ولذلك قلت يمكن الموضوع يسوى إني أكتب بشكل أطول تلخيص للإشكاليات في ثلاثة أسئلة رئيسية:
ما هو التاريخ؟
لماذا نقرأ التاريخ؟
كيف نقرأ التاريخ؟
• ما هو التاريخ؟
يقول الضيف إنه إذا ما ربطنا التاريخ بواقع مباشر، فالتاريخ بيكون مجرد حكايا.
هالمقولة تتضمن إشكاليتين. الأولى متعلقة بربط التاريخ بالواقع (وبأتطرق ليها في السؤال الأخير)، والثانية متعلقة بمعنى التاريخ، أو معنى مفهوم التاريخ اللي يسبق إمكانية ربطه بالواقع. وصف أي تاريخ بإنه مجرد حكايا يعني بالضرورة إنه معنى التاريخ المشار له هني هو التاريخ المحكي أو التاريخ المروي. بعبارة أخرى، التاريخ بهذا المعنى = ما وصل لينا من وقائع الماضي مصاغًا في سردية قصصية. هل هذا هو التاريخ؟ أو بالأحرى، هل التاريخ هو هذا المعنى بس؟
الإجابة طبعًا هي لا. ولكن فهمها يتطلب إنه احنا نأخذ خطوة لوراء عشان نفحص الفكرة بشكل أوسع. وهذي الخطوة اللي لوراء هي خطوة الفصل المفاهيمي بين معنيين (على الأقل). الأول بأسميه "تاريخ"، والثاني بأسميه "تأريخ" (الألف عليها همزة).
التاريخ بشكل عام هو مجموع كل ما هو غير حاضر (زمنيًا). بعبارة أخرى، كل شيء ينتمي للماضي فهو جزء من التاريخ، بغض النظر عن كونه ماضي قريب أو بعيد، وبغض النظر عن وشو هو هالشيء نفسه، وبغض النظر عن أي أهمية ممكن نعطيها وياه.
أما التأريخ (بالهمزة) فالمقصود به أي تدوين أو تسجيل أو كتابة للتاريخ بالمعنى اللي فوق. واضح من البداية إنه الإشارة هني لفعل قصدي متمثل في عملية التدوين نفسها. وبالتالي يكون التأريخ اقتطاع جزء من كل وإعطائه شكل واتجاه ومعنى. وبالإضافة لذلك، هذا الاقتطاع بحد ذاته لازم يكون مبني على مصادر، يعني ما يقدر أي أحد إنه يؤرخ بدون وجود نوع من المصادر للشيء المراد تأريخه، سواء كانت مصادر شفوية أو ملموسة أو مكتوبة أو غيرها. وبطبيعة الحال، قيمة المصادر مرتبطة بعلاقتها بالموضوع المراد تأريخه وقربها منه زمنيًا.
ولو بغيت أعقّد الموضوع زيادة كان قلت إنه فيه مفهومين برضه للتأريخ (الفعل القصدي)، بحيث يكون المفهوم الأول مرتبط بممارسة قديمة قدم البشر، بينما المفهوم الثاني مرتبط بعلم التأريخ الأكاديمي، أو بالتأريخ بصفته مجال معرفي له منهجياته الخ. لكن حاليًا هذا التمييز ما يخدم الفكرة الرئيسية هني، فأخليه لبعدين.
فهذي هي أهمية التفريق بين المفهومين، بين التاريخ والتأريخ: بما إنه كل تأريخ (بالهمزة) فعل قصدي، فهذا يعني أولًا إنه الجزء المُقتطع بيكون خاضع للأسئلة اللي تطرحها الذات العارفة، ويعني ثانيًا إنه المصادر اللي بتكون أساس التأريخ هي الأخرى مبنية على نوع الأسئلة. فعلى سبيل المثال، لو بغيت أكتب تأريخ سياسي للدولة العباسية، فلا شك إنه مصادري اللي بأختارها عشان أكتب هذا التأريخ بتكون مختلفة عن المصادر اللي بأختارها لو بغيت أكتب تأريخ للفكر الإسلامي في الدولة العباسية. في كلتا الحالتين بأستند غالبًا على نصوص تنتمي لنفس الحقبة الزمنية وبيكون بينها تقاطعات، ولكن بحكم اختلاف السؤال اللي أطرحه على تلك الحقبة فمصادر الأجوبة وحدودها والعلاقات بينها بتكون مختلفة من الأساس.
طيب خلني أغير النطاق شوي. لو بغيت أكتب تأريخ للبوفيات في القطيف من ١٩٥٠ لين ٢٠٢٢. وش ممكن المصادر اللي أستخدمها مثلًا؟ هل بتكون كتب "تأريخ"؟ هل بتكون نصوص بالضرورة؟ لا طبعًا. فكرة تأريخ البوفيات ربما ما كانت شيء مهم في الفترات التاريخية بحيث ما قال أحد إنه توثيقها ضروري، غير إنه البوفيات للحين موجودة فهي في الحقيقة تجربة معاشة. في هالحالة أقدر أسأل مثلًا كبار السن عن التغذية في حياتهم سابقًا ودور البوفيات فيها (مصادر شفوية)، وأقدر أبحث عن صور لأطعمة أو مطاعم أو صور لناس تأكل عشان أتعرف أكثر على نوع المأكولات اللي فيها ونمط اللي يرتادوها (شواهد مادية بصرية)، وأقدر أستخدم المنيو حق البوفيات في حال وجودها عشان أشوف أسعارها والأصناف اللي تقدم (مصادر نصية)، وغيرها.
ففعليًا، كل شيء حولنا ينتمي للتاريخ بالمعنى العام، وكل شيء حولنا مادة خام ممكن يُكتَب عنها تأريخ وقتما سُئِلَت الأسئلة المناسبة ووقتما ارتبطت بموضوع يُراد تأريخه. استعمال مفردات التأريخ والتاريخ كما لو إنه ليهم معنى واحد يعني تهميش كل هذي الأمور وتجاهل عملية صناعة التأريخ.
طيب، قلت قبل شوي إنه التأريخ يعطي شكل واتجاه ومعنى للجزء المقتطع من الكل. وش أعني بهالكلام؟ بآخذ نفس المثال اللي طرحته فوق: لما قلت إني ممكن مثلًا أكتب تأريخ سياسي للدولة العباسية، فأول شيء سويته هو إني اقتطعت من مجموع كل شيء صار في ذيك الفترة جزء معين ومن ثم حطيته ضمن قالب "سياسي". بعبارة أخرى، رسمت من البداية حيز سميته سياسي، ومن ثم ضمّيت أو استثنيت الوقائع بناء على ارتباطها بهذا الحيز. بأرجع لهالنقطة في السؤال الثالث، بس يكفي الإشارة هني إلى إني ممكن أعرّف الجانب "السياسي" بناء على واقعي أنا، أو ممكن إني أحاول من البداية أصيغه ضمن مفهوم السياسة في الدولة العباسية نفسها (إذا كان له وجود أصلًا). هذا كله متعلق بفكرة الشكل.
ولو فرضًا إني قدرت أعرّف ماهيّة السياسي وأثبته بشكل قابل للتقصي، فبأي اتجاه أنا قاعد أأرخ له؟ هل أتتبع تغيره عبر الزمن (يعني اتجاه زمني عمودي)؟ هل قاعد أتقصى حيثيات المجال السياسي وآثاره على حياة الناس وقتها (اتجاه تزامني أفقي)؟ أو هل أنا قاعد أساسًا أتناوله بشكل مقارن مع حيز سياسي آخر معاصر له؟ أو أبحث الصلات اللي بينهم؟ كل هذي أسئلة متعلقة بفكرة الاتجاه.
وأخيرًا، هل أنا قاعد أروي التأريخ هذا من منظور سلبي ولا إيجابي؟ هل قاعد أبحث كونه معقد أو أحاول أبين كونه بسيط ومختزل؟ ووش نوعية المفردات اللي أستخدمها في هذا التأريخ سواء بشكل واعي أو غير واعي (على سبيل المثال، هل أستخدم مفردة قتيل أو شهيد؟ هل أقول حاكم أو طاغوت؟ هل أشير لازدهار أو أفول؟ الخ)؟ كل هذي أسئلة متعلقة بفكرة المعنى.
وبطبيعة الحال، كل هذي الأمور مرتبطة بفعل التأريخ القصدي وجوهرية في الفعل نفسه، ومو مجرد إضافات لاحقة له. فالشاهد من كل هذا الكلام إنه إغفال التمييز بين التاريخ والتأريخ يعني تهميش الحس النقدي التاريخي. وهذا الحس النقدي هو اللي المفروض يكون حاضر من البداية في أذهاننا لما نجي نحاول نقدم قراءة تاريخية لأي ظاهرة؛ لازم نسائل المصدر اللي عندنا (تاريخي أو تأريخي) بحيث ما نطيح في فخ قبول كل شيء يمر علينا بحجة إنه "هذا هو التاريخ".
• لماذا نقرأ التاريخ؟
يقول الضيف إنه لا بد من استخلاص فائدة وعظة مباشرة من التاريخ. شخصيًا أشوف إنه المعنى الوحيد لهالعبارة هو إنه للتاريخ دور وظيفي، بمعنى إنه احنا لازم نوظف التاريخ لغرض ما في الحاضر. طبعًا هذا التصور الوظيفي ما هو حكر على التاريخ، بل إنه تبلور أساسًا في سياق "عقلنة" مؤسسات الدولة ومن ثم نشوء طبقة الأكاديميين اللي يحاولون من خلال أبحاثهم إنهم يساهمون في صياغة سياسات الدولة أو إدارة المجتمع بالمعنى العام. ولكن خل نقول إنه هالفكرة مالها شغل هني.
لكن فعليًا أشوف إنه هالدور الوظيفي له تبعات خطيرة جدًا على قراءة التاريخ نفسه، وما يتعدى كونه قراءة مؤدلجة صراحةً للماضي بحيث يمكن فهمه بطريقة محددة تقصي كل الأفهام الممكنة الثانية. بس في كل الأحوال، لا يعني ذلك إنه ما يمكن نتعظ من التاريخ (بغض النظر عن وش الموعظة اللي يقدمها لينا أو اللي نبحث عنها). ولكني أشوف إنه حكر التاريخ على هالدور اختزال مجحف. نقدر نتعظ أكيد، بس وش درانا احنا قاعدين نتعظ من التاريخ ولا من اللي نتصور إنه هو التاريخ؟ هل التاريخ هو اللي يقدم لينا العظة؟ ولا احنا اللي ندوّر عنها غصب؟
وما يهمني هني إني أقول فيه سبب أحسن من البقية لقراءة التاريخ أو إنه يتفوق عليهم الخ، ولكل واحد أهدافه الخاصة من الاطلاع على الماضي. بس ودي أشير لسببين آخرين ممكن إنهم يورّون لأي درجة حكر التاريخ على فكرة العظة مجرد عبط. الأول هو الاطلاع على التاريخ بغرض إزاحة مسلماتنا الحاليّة. هذا موضوع الخربشة اللي طافت، وتقدرون تقرونها بكل تفاصيلها. لكن على سبيل المثال المختصر، وايد منا اليوم متعود على إنه أسبوعه ينقسم لخمسة أيام عمل ويومين ويكند، وإنه يومه يتقسّم على أمور معينة مثل وقت الدوام وأوقات الوجبات وسواقة السيارة الخ. وكل هذي الأمور ضمن معمعة إنه احنا نعيش ضمن منظومات اقتصادية معينة تتيح لينا القيام ببعض الأمور وتسلب عنا أمور ثانية، وضمن منظومات سياسية تسمح بأمور وتمنع أمور، وضمن مجتمعات يمتلك أفرادها روابط مختلفة بين بعضهم قياسًا على عوامل عديدة. ولكن بطبيعة الحال، أسلوب الحياة والمنظومات هذي ما كانت دائمًا قائمة وموجودة، والناس في الماضي عاشوا ضمن ظروف مختلفة وبأساليب حياة مختلفة ومفاهيم مختلفة الخ، وكل هذي الأمور من الأساس أثرت على تعاطيهم ويا حياتهم. فكيف نقدر نعرف لأي درجة هذي الأمور اللي نعتبرها مفروغ منها ما هي إلا كيانات تاريخية؟ إيه، التاريخ ينفع في هالشيء.
أما السبب الثاني فهو ربما ما يشمل كل أنواع التاريخ. بس شخصيًا أحب أطلع على التاريخ عشانه، واللي هو: كيف كانوا الناس يفهمون واقعهم سابقًا؟ هذا الشيء مو مرتبط بالضرورة بكوني أحاول أقدم وصفة جاهزة لمشكلة في الحاضر، ولا إني أربط التاريخ بالواقع (مو بواقعنا على الأقل). ولكنه مرتبط باهتماماتي في آليات التفكير أو التفلسف بحد ذاتها. بما إنه كل فلسفة مبنية على الواقع اللي تبلورت فيه، فما أقدر أفهمها إلا من خلال محاولة فهمي لهالواقع، مما يعني ضرورة توغلي في إطار أفكاريّ (مو أفكاري أنا شخصيًا، أفكار + ي، خاصية الإطار نفسه) مغاير للي أعيشه. وما فيه أي مفر من مطالعة التاريخ في سبيل تحقيق هالشيء. كل محاولة لفهم الأفكار خارج سياقاتها ينتج لينا نوع التاريخ الغبي اللي يكتبوه ٩٠٪ من اللي يؤرخون الفلسفة.
ولذلك دور العظة أو افتراض إنه هناك معنى يجب استخراجه من التاريخ بحيث يرتبط بواقعنا ما يتعدى كونه في أغلب الأحيان افتراض مسبق بإنه الأمور جرت على نحوٍ ما وإنه يُمكن تحميلها المعاني المعاصرة.
• كيف نقرأ التاريخ؟
تساءلت قبل شوي "بس وش درانا احنا قاعدين نتعظ من التاريخ ولا من اللي نتصور إنه هو التاريخ؟" واضح إنه هالتساؤل قائم على قدرتنا على النقد التاريخي في المقام الأول والأخير. وممكن إعادة صياغة التساؤل كالتالي: هل قاعدين نقرأ التاريخ ضمن أطر حقبته، أو قاعدين نسقط مفاهيمنا المعاصرة على الموضوع بكبره؟ بعبارة أخرى، هل نقرأ التاريخ من حيث ارتباطه بواقع سابق، أو من حيث ارتباطه بواقعنا احنا؟
يقول الضيف في المقتطع القصير بداية الحلقة إنه الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية كانوا يحاولون يمنعون بروز قوة إسلامية في الجزيرة العربية. بمجرد سمعت العبارة تصاغ بهالطريقة، حسيت بنسبة ٦٧٪ إنه الضيف قاعد يسقط مفاهيم معاصرة عن الدول والصراعات وموازين القوى والجغرافيات والمجالات بحد ذاتها. لو عندي إلمام أكبر بتفاصيل التاريخ اللي هو يتطرق له، كان قدرت أتطرق لنقاط وتفاصيل محددة. بس بمجرد أسمع مثل هالعبارة، تتبادر لذهني أسئلة مثل: من قال إنه كل سكان الجزيرة من العرب كانوا يشوفون نفسهم هوية متجانسة؟ ومن قال أساسًا إنه الموضوع مجرد صراع "هوياتي"؟ وعلى أي اساس وصف الموضوع بكونه بروز قوة "إسلامية" وحدة؟ ولأي درجة كان المحيط الجغرافي اللي يعيشون فيه (الجزيرة نفسها) مهمة في تصور الناس للي حولهم وعلاقتهم بالمجتمعات الثانية؟
ومو سالفة إني قاعد أحاول أستقعد، بس فعليًا فيه العديد من الأبحاث اللي تتناول مثلًا المعتقدات الدينية المختلفة قبل ظهور الإسلام (مع إنه الضيف يقول ما كان فيه بوصلة دينية آنذاك)، وفيه أبحاث عديدة تتناول تشكّل فكرة "الأمة الإسلامية" في القرون الأخيرة بالتصور الهوياتي اللي احنا نفهمه اليوم (لفترة طويلة تعددت الإشارات لـ "المسلمين"، سواء من حيث كونهم سراسنة أو موريين أو محمديين، الخ)، غير المؤلفات المتزامنة أساسًا ويا بداية ظهور الرسالة من شعوب أخرى (زي اللي ذكره هيرودوتس في تاريخه، أو أميانوس الأنطاكي، أو غيرهم) واللي تسلط الضوء على الصلات القائمة آنذاك وطبيعتها بين شعوب المنطقة والتمييزات بينها.
الضيف من وجهة نظري تناول هذي الأمور بمفاهيم معاصرة بحتة، وتكلم عن الإمبراطوريات والقوى عطفًا على تصور معاصر للدول والعلاقات الدبلوماسية والحروب بينها (وهني تبرز أهمية التاريخ في زعزعة مسلماتنا ومفاهيمنا المعاصرة). وهالشيء يتجلى مثلًا لما يتكلم عن الإمبراطورية الرومانية كما لو إنها كانت كتلة وحدة متجانسة بغض النظر عن الانقسامات بين كنيسة الغرب وكنيسة الشرق وتفاوت العلاقات "الطبقية" وألف مليون حاجة ثانية، فضلًا عن تناولها بشكل كياني مطابق تمامًا للمتخيلات الحديثة عن الإمبراطوريات والدول.
ولكن يمكن أحد يسأل، وش البديل طيب؟ في النهاية احنا دائمًا بنقرأ التاريخ من حاضرنا، وبالتالي ما فيه مفر من إسقاط تصورات حاضرة ومعاصرة على الماضي. وهالاعتراض مشروع طبعًا، وناوي بعد فترة أكتب مقالة منفصلة حوله هو تحديدًا فيما يتعلق بقراءة الفلاسفة. ولكن هني بأقول إنه الموضوع مو لازم يكون بهالاستسلام. لازم القارئ نفسه ياخذ على عاتقه إنه يبطّل يسقط مفاهيمه بدون نقد ووعي لهالإشكاليات. ومجددًا، الاطلاع على التاريخ ضروري في هالعملية.
ولكن بطبيعة الحال، يستحيل دائمًا إنه احنا نقدر نسوي هالشيء، سواء لعوائق لغوية (هل مثلًا عندنا إلمام باللغة اللي انكتبت بها المصادر؟)، أو عوائق متعلقة بإنه احنا لحد الحين أساسًا ما قدرنا نرسم خريطة ذهنية للفكرة اللي ببالنا عشان نعرف ما إذا كان اطلاعنا مشروع أو لا. ولكن في نفس الوقت، ما المفروض يعني ذلك إنه احنا نتملص من مسؤوليتنا في نقد التأريخ اللي قاعدين نقرأه. نقدر نشوف مثلًا وشو هي المصادر اللي يستخدمها، نقدر نشوف وش الافتراضات اللي ينطلق منها، نقدر نشوف تواريخ أخرى تتطرق للموضوع نفسه أو مواضيع مشابهة له عشان نستوعب لأي درجة ممكن إنه الكاتب أغفل جوانب معينة ما ذكرها. ونقدر أيضًا إنه احنا نسائل مواقعيّة المؤرخ نفسه. هل المؤرخ قاعد يكتب تأريخ موضوع يشكل جزء من تجربته؟ أم هو يحاول يكتب شيء لا ينتمي أساسًا ليها؟ من أي زاوية قاعد المؤرخ يقارب فكرته؟ وش الانفصال الزمني بين الظاهرة وتأريخها؟
وواضح طبعًا إنه هذي الأسئلة ومثيلاتها مبنية على افتراض إنه ما فيه شيء اسمه "حقيقة" تاريخية وحدة، ولا فيه شيء اسمه تأريخ كافي حول موضوع معين. في النهاية الناس في الماضي عاشوا حياة معقدة، وما نقدر نختزل تعقيدها في المؤلفات اللي تُكتب عنها، خصوصًا لما تجي عن طريق حكّائين كل همهم يجمعون "معلومات" يسولفون بها عشان يشرعنون آرائهم المعاصرة.
ومن هالمنطلق أقول إنه الثمان دقايق كافية أبطّل أسمع الباقي.
جميل! ننتظر إرشادات لـ"كيف نصدق التاريخ" وكيف "نحكم عليه" إن لم نسقطه بالإسقاطات المبتذلة.
خربوشة مرتبة كالعادة.
اليوم انا مبسوط، مستني الخربوشة بفارغ الصبر