بمجرد وقوعي على تصريح الصهيوني غالانت بداية العدوان على غزة، والذي يقول فيه أن الفلسطينيين "حيوانات بشرية" وأن الصراع في جوهره صراع بين الحضارة والبربرية، سرعان ما استحضر ذهني إرثًا فكريًا استعماريًا يمتد في الماضي خمسة قرون ونيفًا. ليست الفكرة جديدة، ولطالما حضرت بشكل أو بآخر في سرديات تفوق الغرب المزعومة أو ما يشابهها من سرديات تُرادِفُ ما بين التقدم والغرب، أي تلك السرديات التي تؤصل كل ما هو "أفضل" -سياسيًا وأخلاقيًا وفكريًا وتقنيًا وثقافيًا- على أنه نشأ في الغرب ثم تفشى لبقية العالم.
لا يهمني هنا تناول الإرث تمحيصًا ونقدًا، ويكفيني الإشارة لأنه في الحقيقة جزء لا يتجزأ من تبلور منظومة الحداثة وما صاحبها من نظم استعمارية أعادت تعريف شعوب العالم وتصنيفها ضمن ثنائية الحضارة والتخلف. أعني تلك العملية التي أعيد بواسطتها تعريف جغرافية العالم على ضوء مراحل كرونولوجية، بحيث بات من الممكن الربط بين ظواهر الشعوب الثقافية وسماتهم البيولوجية ومن ثم وضعها على طول خط تطوري زمني، وهو نفس الربط الذي يستند عليه الصهيوني غالانت في توصيف فعل المقاومة على أنه ذو جوهر بربري كامن في أجساد العرب عمومًا.
فلو أردت التمثيل على هذا التصور العرقي الذي يربط ما بين الثقافة والجوهر الكامن، يمكنني الإشارة إلى الجدل الشهير في القرن السادس عشر حول إنسانية السكان الأصليين في الأمريكيتين. نادى أحد طرفي الجدل (متجليًا مثلًا في طرح الإسباني بارلتولوميو دي لاس كاساس وكتابه Brevísima relación de la destruición de las Indias المنشور عام ١٥٥٢) بأن السكان الأصليين بشرٌ يمتلكون حقوقًا يحرم انتهاكها، في حين تمثل الطرف الآخر في من يقول بأن السكان الأصليين ليسوا بشرًا، وبالتالي لا يمتلكون أي حقوق يتوجب احترامها (لا سيما حق الملكية الخاصة). وقد دار هذا الجدل في سياق "اكتشاف" شعبٍ لم يندرج تحت التصنيف الإنجيلي لشعوب العالم القديم، شعب لا يمكن وسمه بالسامية أو الحامية أو اليافثية. لكن الخطاب على أية حال شكل جزءًا من المنظومة التي بررت قيام نظام الإنكومييندا المبني على التمايز الجوهري بين الأوروبيين والسكان الأصليين، وذلك من حيث عدم امتلاك الأصليين "روحًا" وكونهم أدنى من البشر. وقد رافق الخطاب أيضًا منظومة هرمية عرقية تضع الأوروبيين في قمة سلم التطور والتحضر وترمي من سواهم بالتخلف والرجعية والوحشية، الأمر الذي برر كل ما جرى من عمليات عنف واضطهاد واستعباد وإبادة.
وعلى سبيل المثال أيضًا، في عام ١٧٩٨، نشر الألماني إيمانويل كانط كتاباته الأنثروبولوجية التي تناولت مفهوم الإنسانية فيما يتعلق بغير الأوروبيين. انطلق كانط في منظوره من رؤية كونية مسيحية-غربية ومن مفاهيم الإنسان المتحدرة من عصر النهضة، مقسمًا البشرية إلى أعراق مختلفة ومتفاوتة، ومؤمنًا بوجود هرمية عرقية يقبع الرجل الأوروبي الأبيض في قمتها. أما بقية الأعراق (لا سيما العرق الأفريقي "الدوني" حسب تعبيره) فهي تفتقر لملكة العقل والحضارة الموجودة لدى الأوروبيين. وليس من الصعب تقصي أثر نظرته الإقصائية، والقائلة بأن هناك شعوبًا -مثل السلافيين- خارج التاريخ أساسًا وليسوا جزءًا من إدراك كمال العقل والحرية، على تبرير ما يجري على بعض الشعوب بصفته جزءًا من حركة التاريخ الحتمية نحو الحرية.
وفي قضية دريد سكوت ضد ساندفورد عام ١٨٥٧، حكم قاضي المحكمة العليا الأمريكية روجر تاني ببطلان فكرة مواطنة الأفارقة الأمريكيين، مضيفًا أنهم غير مخولين أصلًا للحياز على المواطنة، وأنهم لا يمتلكون حقوقًا يجب على الرجل الأبيض احترامها، وأن استعبادهم أساسًا عادلٌ وقانونيٌ وأنه قائمٌ لمصلحتهم هم (أي لمصلحة السود)، وذلك من حيث كونهم أدنى خلقيًا من البيض ومن السكان الأصليين حتى. ولم يجد روجر حرجًا من التوكيد على أن مقولة "وأن جميع البشر خلقوا متساوين" الواردة في إعلان الاستقلال الأمريكي لا تشمل العرق الأسود الذي ليس إلا سلعةً يرتبط وجودها بالسوق والأرباح والاستعباد على حد زعمه.
وقبيل غزو العراق عام ٢٠٠٣، دارت حملة ممنهجة لنزع إنسانية العراقيين والعرب عمومًا عن طريق الربط بين ثقافة المنطقة الصحراوية والنزعة "الطبيعية" للشر والبربرية ومقاومة الحضارة والحداثة وغيرها من المفاهيم المرتبطة "جوهريًا" بثقافة الإنسان الغربي العليا. وقد ملأت مصطلحات مثل "زنوج الرمال" وغيرها ماكينة الإعلام الغربي في توصيف سكان الجزيرة العربية والشرق الأوسط وثقافتهم وتوصيف موقعهم من الإعراب على خارطة الحضارة آنذاك. وهل ثمة نتيجة أوضح لكل ذلك من شرعنة المجازر والكيماويات والتعذيب التي ارتُكبت ومورست منهجيًا بمباركة كل منارات الحضارة الديموقراطية؟
إن تصريح الصهيوني غالانت وما تلاه من استنفار غربي للتوكيد على الجانب الحضاري من الاستعمار وبكونه يصب في مصلحة المستَعمَرين ورفع تحضرهم وإنسانيتهم ليس إلا امتدادًا لهذا الإرث بكل ما يكتنفه من خرافات، الإرث الذي طُبّع في عديد من الرؤى عن الذوات والعالم لدرجة صيرورته نقطة مرجعية حقيقية في نقاشات جوهر التقدم أينما كانت. كل هذا يجب ألا ينسينا تأسسه على الخرافات والتفسيرات المؤدلجة للماضي والحاضر، وألا ينسينا ضرورة مقاومته أينما ثقفناه. إن مقاومة الاستعمار الفكري وتقويض أسسه القائمة على نظرة ثقافوية وعرقية للتاريخ والواقع ضرورةٌ لا بد منها في الخروج من منطق المنظومة الاستعمارية، ونحن في أمس الحاجة لإدراك أن المنظومة الغربية كانت وما تزال تستخدم كل خطاباتها المعرفية ماضيًا وحاضرًا في تبرير سيادتها.
عفوًا صبا، وشكرًا لقراءتك 🙏🏻 ڤونيغت لتدوينة أخرى جاية بالطريق 🫡
مقال مثرٍ شكرًا حسين، استفاضة لإحدى تغريداتك..
فكرت المقال بيكون عن روايتي ڤونيغت شكلهم جزء من موضوع الحلقة 🙏🏻