لسنا "خبراء"، بل مثقفين مشتبكين لسّه في طور تعلم نسيان ما تعلمناه لأجل أن نتعلم مجددًا، أي أننا في طور تحدي تواريخنا (مذكرةً ومؤنثة/History & Herstory) وامتيازاتنا وحدودنا الخاصة.
- كاثرين وولش & والتر منيولو، من كتاب عن الديكولونيالية
يبدو أن مؤرخينا نسوا [...] حقيقة بسيطة، وهي أن ما يسمونه تقدمًا في اشتغالاتهم لا يتأتى عبر اكتشاف مواد جديدة وحسب، بل كذلك عبر قراءة جديدة لمواد موجودة مسبقًا.
هنري هيوز، من ورقة "التأريخ المعاصر: التقدم والباراديغمات والنكوص للوضعية"
يرن المنبه في تمام الخامسة والنصف صباحًا. أقضي دقائقي التالية أتجهز للخروج إلى العمل ومحاولة الوصول إلى المكتب مع بدء الدوام الرسمي؛ أتناول ثلاث بيضات مسلوقة وقطعتي خبز، وأرتدي قميصًا وبنطالًا بستايلٍ معين، ثم أخرج وأركب سيارتي لأقطع عشرات الكيلومترات منخرطًا في طقس طريق العمل إلى جوار مئات السيارات الأخرى التي يحاول من فيها الوصول أيضًا لدواماتهم، عملًا أم دراسة أم أشياء أخرى. وحينما أصل، أقضي ثماني ساعاتٍ على المكتب مشتغلًا بجوار آخرين، تتخلل هاته الساعات بضع استراحات لشرب القهوة وتناول الغداء (لا بد أن يكون الغداء سريعًا لئلا أتأخر بعد انتهاء البريك). وإذا ما انتهت ساعات العمل قبيل المغرب بقليل، أمارس طقس العودة للبيتِ وأباشر التخطيط لما سأفعله وآكله خلال ما تبقى من ساعات اليوم، تلك الساعات التي أعتبرها حياتي الحقيقية غير المرتهنة بقرارات رؤسائي ومسؤوليات الوظيفة.
إن بدا السيناريو أعلاه مألوفًا لديك، فهي إشارةٌ بأننا نتشارك أفقًا إدراكيًا يجعل من أحداث السيناريو معقولةً ومنطقية. هنالك دوام، وثلاث وجبات (في الأحوال المثالية)، وقطع عشرات الكيلومترات ذهابًا وجيئة، وتقسيم "طبيعي" لليوم بين ساعات العمل وساعات ما بعد العمل، أو تقسيم للأسبوع بين أيام عمل وأيام إجازة. وعلاوةً على ذلك، لما قلت أني تناولت على الإفطار بيضًا وخبزًا، تواءم الأمر مع نطاق المألوف لديك لوجبة الإفطار بحيث لم يرسم ذلك أي علامات تعجب في ذهنك.
لكن لو قلت أني تناولت على الإفطار مفطحًا مثلًا، أو أني استيقظت في تمام الثانية عشر ظهرًا وركبت سيارتي الفيراري ذاهبًا للدوام، أو أني قررت الذهاب في بريك الغداء إلى جزر المالديف لتناول أمعاء القرش المشوية وأسنان التمساح المكسوة بالعسل، فعلى الأرجح أن ذهنك سيبدأ طرح مختلف الأسئلة عن طبيعة الحياة التي أعيشها، وهي الحياة التي لن تبدو طبيعية بمعايير السيناريو أعلاه.
أستخدم هذا المثال لتعميق قراءة الاقتباسين مطلع التدوينة. في الاقتباس الأول، يركز كلًا من كاثرين ووالتر على فكرة أنه ثمة ما ينبغي تعمد نسيانه لكي تصبح عملية التعلم (أو إعادة التعلم بالأحرى) ممكنة. تنبني هذه الفكرة على أن مؤسسات التعليم الحديثة، وهي مؤسسات ذات طابعٍ غربي شكلًا قياسًا على تاريخ نموذج الجامعة البحثية الألماني، ترسخ في ذهن مرتاديها أطر تفكير محددة في التعاطي مع مختلف مشارب الحياة. وليس الأمر حكرًا هنا على فكرة التعليم العام المصاحبة لنشوء الدولة الحديثة وحسب، بل تشمل حتى أنموذج الجامعة البحثية الألمانيالذي يقسم المعارف لمجالات يمتلك كل منها منهجياته وغاياته المتمايزة عن المعارف الأخرى. وبالتالي فإن عملية التعلم في الاقتباس لا بد أن تبدأ بالهدم، بهدم هذه الأطر والترسبات التي تجعلنا نجابه واقعنا (والذي قد يكون متماثلًا مع الواقع الغربي المزعوم أو لا يكون) ضمن قوالب مصاغة معانيها على ضوء هذه المفاهيم الحديثة.
ولكن هدم التراكم المعرفي هذا خطوة وحيدة. في الاقتباس الثاني، نجد تسليطًا للضوء على الفكرة نفسها من زاوية مختلفة توحي لنا بوجود خطوات أخرى. حسب كلام هنري، إن تجديد فهمنا للتاريخ ليس مناطًا فقط باكتشاف مواد أو مصادر تاريخية جديدة تقوّض تصوراتنا السابقة، إنما من خلال محاولة إعادة قراءة ما هو متاح أيضًا، أي من خلال طرح أسئلة مختلفة على المصادر الموجودة لدينا. إذن هنالك أيضًا هدم هنا، ولكنه هدم مختلف من حيث اشتراطه عملية واعية، أي عملية القراءة في سبيل التوصل لمكنون لم يُدرك بعد. بعبارةٍ أخرى، وقتما رسمت حدود القراءة الأولى وقصورها، تتجلى إمكانية تقديم قراءة ثانية واعية بافتراقها وبانطلاقها من "غياب" أسس القراءة الأولى ونتائجها، أي بتعاطيها مع المواد كما لو أن معانيها منغلقة عن القراءة الأولى قياسًا على قصورها قلبًا وقالبًا.
على ضوء هاتين العمليتين، تصبح فكرة البناء أو التراكم المعرفيين ساذجة، إذ تستبطن الفكرة عمليةً معرفية خطية وأحادية الاتجاه؛ كلما زاد المدخول المعرفي، زادت جودة المنتج وواقعيته. ما ينبغي أن يتأسس عوضًا عنها تصور دائري أو دوري، حيث لا قيمة حقيقية للمعرفة إلا حينما تُراجع أسسها باستمرار، أي حين تصبح المعرفة جزءًا من عملية نقد وإعادة نقد مستمرين. وتزداد أهمية المراجعة إلحاحًا كلما كان أفق الظاهرة المراد فهمها أبعد عما نألفه وندركه، حيث يصبح على عاتقنا إعادة بناء جوانب أكثر تعقيدًا من عوالم تلك الظواهر.
من الواضح أن التصور الدوريّ للمعرفة ينطلق هنا من علاقة وثيقة بين الإطار المعرفي (أستخدم مفردة الإطار هنا لتشمل الأسس التي يُبنى عليها والمصطلحات التحليلية وحدودها جميعًا) والمعرفة المتأتاة؛ لا معرفة بلا إطار يقرر كونها معرفة باتجاهٍ ومعنى ما. يمكن صياغة الفكرة بشكلٍ آخر: ما يقرر المعرفة هو السؤال المطروح، وبمجرد تغيير السؤال تتغير الأسس والنتائج تباعًا. ذلك أن المعرفة على ضوء التصور الدوري ليست "شيئًا" موجودًا يمكن القبض عليه وامتلاكه بقدر ما هي بُنية من نوعٍ ما، وكونها بنية هو ما يجعل مراجعة اشتراطات إفرازها ممكنًا في المقام الأول.
إذا كانت السطور أعلاه منطقية، ستكون أهمية كتاب باتريشيا كرون المجتمعات قبل-الصناعية: تشريح العالم ما-قبل-الحديث منطقية هي الأخرى. تنطلق باتريشيا من فكرة أن هنالك فوارق جوهرية بين العالم الحديث الذي نعيشه والعالم الذي كان الناس يعيشون فيه قبل الثورة الصناعية. من باب عدم الوقوع في إشكال مفاهيمي، ربما من الأفضل قول أن هنالك فوارق بين العالم الحديث (بصيغة المفرد) والعوالم قبل-الحديثة (بصيغة الجمع)، حيث أن تصورنا المعاصر بأننا ننتمي جميعًا لعالمٍ وحيد ليس قديمًا كما نتصور، وثمة عمليات تاريخية واسعة النطاق خلال الكم مئة سنة الأخيرة جعلتنا "قرية صغيرة". في المقابل، لعبت التصورات الهرمية السابقة دورًا محوريًا في رسم نظرة الأفراد للعالم الذي يعيشونه سواء من حيث موقعه الكوني أو مكانتهم هم بين مختلف الشعوب، ومن الصعب افتراض انتمائهم إلى "عالمٍ" على غرار عالمنا وتصوراتنا عنه؛ إن الكلام عن انتماء الناس في السابق إلى عوالم متقاطعة أصح من تناولهم كمواطنين عالميين ضمن نسيج عولمي. لكن هذه نقطة خارج نطاق هذه التدوينة فسأتركها لتدوينات أخرى إن استدعى الأمر ذلك.
الشاهد من التفريق بين عالمٍ حديث وعوالم قبل-حديثة هو الإشارة أيضًا لأهمية تحليل باتريشيا للتكامل السياسي والاقتصادي والثقافي في تشكيل العالم الذي نعرفه اليوم. فبدلًا من الانطلاق من بديهية تصوراتنا عن الدولة (والعلاقات بين الدول) والثقافات والدين وغيرها من الجوانب التي اعتدنا معرفتها من وسائل الإعلام والمؤسسات التعليمية وانخراطنا في الحياة الاجتماعية الحديثة، تحاول باتريشيا الانطلاق مما يسبق تشكّل هذه الجوانب، أو تحاول على الأقل جعل القراء أكثر إدراكًا لكون هذه الجوانب نتاجًا لعمليات تاريخية يمكن تناولها تحليليًا. هذه العمليات التاريخية رسخت في أذهاننا مفاهيم محددة عن ماهية الحياة وعيشها، وهي مفاهيم لا تستقيم مع طبيعة ما عاشه الناس في الأزمنة التي تسبق هذه العمليات ولا يمكن توظيفها في سبيل فهم تلك الأزمنة. وبالتالي فإن الخطوة الأولى هي ذاتها ما ينطوي عليه الاقتباسان أعلاه: لا بد أولًا من الهدم الواعي لما نعرفه (أو ما نعرف بواسطته) لأجل أن نمسك بزمام قراءات جديدة للظواهر، ولا بد ثانيًا من تمييز ما تنطوي عليه العمليات من تجليات تاريخية يمكن تحليلها دون اللجوء لتفسيرات غيبية أو غائية.
وهذا تمامًا ما تسعى باتريشيا لفعله بكتابها القصير: خلخلة الألفة التي نستقرئ عبرها المجتمعات السابقة عن طريق تقديم صور مصغرة لطبيعة الحياة فيها. هنالك قسمان رئيسيان في الكتاب: قسم يحلل النمط ما-قبل-الصناعي، وآخر يحلل الخروج عن النمط (متمثلًا لديها في تحليل تاريخ أوروبا خلال القرون الأخيرة). وفي حين أنها توضح في مقدمة الكتاب أن فصوله ليست سوى تمرين ذهني أو تجربة فكرية تهدف من ورائها إلى البرهنة على الفوارق الجوهرية بين العالمين الحديث والقديم، إلا أنها تُفضّل استفتاح صفحاته بتحديد قصور أفقنا الإدراكي الحديث من أجل تمييز أهمية تلك الفوارق ومداها.
فإن استطعت اليوم قطع ١٢٠ كيلومترًا في ساعة واحدة مثلًا، فإن هذه المسافة تمثل ما تقطعه السفينة الشرعية في عصور أوروبا الوسطى في يوم كامل، رغم أنها اعتُبرت وسيلة نقلٍ رخيصة وسريعة آنذاك. وإن امتلكت خيارات عديدة من مختلف أصقاع العالم فيما أستطيع أكله على مدار يومي، فإن خيارات السابق محدودة مكانيًا ونوعيًا و "طبقيًا" (أضع الطبقة بين علامتي تنصيص لأنها كينونة حديثة ومبنية على تكامل اقتصادي من نوع خاص كما تشير باتريشيا، ولكن أستخدمها لأنها مما اعتاده الناس في وصف التراتب الهرمي مهما كانت أسسه). وعلاوة على ذلك، تكالب العوامل التباعدية (أفقيًا وعموديًا) يصعّب من عمليات التواصل والتنقل في مسافات شاسعة، ولذا من الطبيعي أن تلعب الحواجز اللغوية دورًا كبيرًا في خلق عوالم "ثقافية" منفصلة بحسب موقع الأفراد حتى داخل المجتمعات المتقاربة، لا سيما فيما يتعلق بالعلاقة والتذبذبات بين اللغات الكوزموبوليتانية والدارجة.
على ضوء هاته التعقيدات، تحاول باتريشيا في ستة فصول أن تستحضر أمثلةً مقارنة تعيد من خلالها قراءة المجتمعات الماضية. عناوين الفصول دالة على محتوياتها: التنظيم الاجتماعي-الاقتصادي، الدولة، السياسة، الثقافة، المجتمع والفرد، والدين. كل فصل مبني على فكرة أن هنالك مشتركات معينة في المجتمعات البشرية المعقدة (قبل-الصناعية حسب تعريف باتريشيا) تُمكّن الباحث من تقديم قراءة مقارنة مبسطة في سبيل خلخلة التصورات المعاصرة. وبحكم أن الكتاب يستهدف في المقام الأول طلاب التاريخ وعامة الناس، فهو يقتصر في طرحه على تقديم نماذج استعراضية سريعة ووجيزة ليس من الضروري أنها تحققت بالفعل جميعًا في أي مجتمعٍ سابق؛ المهم أن يصل تعقيد الصورة للقراء بحيث يصبحون أكثر حذرًا في محاولتهم فهم الماضي.
آخذ هنا الدولة مثالًا على مفهوم معاصر قد يضلل قراءتنا للتاريخ تمامًا. يبدو من البديهي بالنسبة لنا أن هنالك شيء اسمه دولة، وأن لهذه الدولة امتداد جغرافي وحدود واضحين، وأن من يعيشون بين ظهرانيها يتكلمون لغة واحدة ويمتلكون ثقافة وطنية واحدة، فضلًا عن امتلاكهم إرثًا تاريخيًا مشتركًا. وهاته الصبغة القومية للدولة متساميةٌ -زعمًا- على الفوارق التي قد تمايز بين أفرادها (أو مواطنيها في هاته الحالة) عرقيًا وثقافيًا ودينيًا؛ الوطن فوق الجميع.
ولما يعشعش مفهوم الدولة هذا فنسقط أبعاده على الماضي، نجدنا قد ننزع لافتراضات أن للدول حدود واضحة وأن سكانها يمثلون شعبًا (بالمعنى الحديث) يتشارك أفراده الثقافة واللغة والتاريخ، أو حتى افتراض وجود مؤسسات وتقسيمات عمل وأنماط حياة (طفولة ومراهقة ورشد) على غرار ما نعهده، وأن الناس يستيقظون ويتناولون الإفطار ويذهبون للعمل حتى حينما يعيشون قبل ألف عام (cc: رواية موت صغير). والنتيجة هي أننا سنعيد دائمًا خلق مجتمعنا ومفاهيمنا وقيمنا بمناظير ماضية. بعبارةٍ أخرى، بدل أن أعيد بناء عالمٍ وفقما عاشه أهله وأفهمه كما فهموه، أعيد بناءه وفقما أعيشه وأفهمه أنا. ثمة نزعة حاضرية كيفما حاولنا ترقيع الأمر.
ومن هنا تأتي أهمية المؤلفات ككتاب باتريشيا أو حتى مقالة إيان مورتيمر عن كتابة الروايات التاريخية، أي المؤلفات التي تعاود مساءلة الأسئلة الأساسية التي نبتدئ بها عملية الفهم والبناء المعرفيين وإيجاد تفاصيلهما حينما يتعلقان بعوالم مبتعدةً عن ذواتنا. أو بعبارة أخرى، تتضح أهمية نقد السؤال المُفضي لنقد الأجوبة القائمة، ما يؤدي بدوره لإعادة فحص المادة المعرفية برمتها على ضوء أسئلة مغايرة. ليست العملية بديهية بطبيعة الحال، وكثيرًا ما يؤدي اعتقاد الإمساك بزمامها إلى الوقوع في نفس الفخاخ المفاهيمية التي يُرجى الخلاص منها. ولكنها تصبح أسهل إدراكيًا حينما يبدأ الفرد إدراك حدود فهمه وقصوره تاريخيًا، مما يستوجب عليه الخروج المستمر الواعي من أغلال ذاته باتجاه غيرها، سواء كانت هاته اللاذوات معاصرةً لنا أو سابقة لزماننا. ولا شك أن فهم الذات التاريخية يتطلب جهدًا فكريًا أكبر، إذ يصبح الأمر مناطًا بإعادة بناء عوالم أكثر اختلافًا عما ألفناه. ولكنها في نفس الوقت أكبر إثمارًا لذواتنا.
ربما لا تكفي السطور أعلاه لتوضيح الإشكاليات الناجمة عن التصورات المغلوطة عن التاريخ، سواء من حيث مقاربته أو مفاهيمه. ولذا أعانكم الله على مقالة تالية (قديمة مجددة) أتناول فيها التاريخ مرة أخرى.