النصر المعنوي والحسي في تفنيد صياح المعترضين على بشت الشيخ ليونيل بن ميسي
كيف كشفت حادثة التتويج هيمنة ثقافة غربية-المركز؟
تقدم مونتيل بخطى من اتكأ الكون على ظهره. ركع مناشدًا، وهمس للكرة بين رجليه ثماني ثوانٍ حبًا ورجاء. دوت صافرة الحكم معلنةً لحظة الحقيقة. تنهد ابن الخامسة والعشرين مرة أخيرة، ومضى وأحلام ثلاثين عامًا تزفه. وما إن استقرت الكرة في خاصرة المرمى، انقسمت فرحة اللونين الأبيض والأزرق فرحتين؛ فرحة طاردت مسجل الهدف ركضًا على طول الملعب الأخضر، وفرحة عانقت سيد اللعبة في منتصفه. انتهت ملحمة ما بعد الدقيقة الثمانين كما تمناها صاحب الرقم ١٠ وكما تمنتها قلوب الأرجنتينيين: نجمةٌ ثالثةٌ خالدة أنصفت اللاعب الأفضل على الإطلاق.
لكن قبل أن تصل رحلة ليونيل ميسي المونديالية لمسك ختامها، حدث ما أعادَ ترتيب أوراق العالم الكروي ورسمَ تقسيماته خارج ثنائية أنصار ميسي وأعدائه (رونالدويين كانوا أم مبابيين): قبل أن يرفع ميسي كأس العالم، ألبسه أمير قطر تميم آل ثاني بشتًا. هاهنا ضج العالم. قسمٌ يشيد بالفعل والبشت ورمزيتهما -وأنا منهم-، وقسمٌ يعارضهما من باب أن حضور البشت في لحظة التتويج ما كان مناسبًا. عند أحسن المعارضين، بدا السؤال بديهيًا: هل يحق إجبار اللاعب على إخفاء شعار بلاده وتخليد صورة رفع الكأس المنتظرة بوجود بشتٍ دخيل عليها؟
دارت رحى العراك بين مخيمي أنصار ارتداء البشت والمعترضين عليه حول نقاط عديدة. بطبيعة الحال، كوني في مخيم الأنصار يعفيني جزئيًا من شرح اتخاذ موقف التأييد بكافة تفاصيله، ولذا أقتصر في تطرقي لنقدي الخاص على حجتين استُحضرتا في معرض تفنيد رأي المعارضين، وهما اللتان تشكلان أساس هذه التدوينة: حجة السابقة التاريخية، وحجة موقع أصوات المعارضة ومناسبة اللحظة.
أولًا، على حسب رأي الأنصار، ثمة سوابق تاريخية تُوّج فيها الأبطال بعلائم ثقافة البلدان المستضيفة للبطولات. هنالك مثلًا صورة الراحل بيليه بالصمبريرة بعد الفوز بكأس عالم المكسيك في عام ١٩٧٠، وهنالك أيضًا صور أبطال أولمبياد أثينا في عام ٢٠٠٤ متقلدين إكليل الزيتون والابتسامة تشق وجوههم. ولذا فإن حضور البشت في كأس عالم قطر ٢٠٢٢ محض امتداد لهذا الاحتفاء، لا شذوذًا عنه ولا ابتداعًا لمحظور.
ولكن رد المعترضين على هذه الحجة منطقي. فعلى حد قولهم، ارتدى بيليه الصمبريرة بعد لحظة رفع الكأس الأولى، أي أنها لم "تُفسد" المشهد الأهم ولم تجعل الحدث متمحورًا حول المكسيك وثقافتها. أما عن إكليل الزيتون، فالأولمبياد أصلًا إرث يوناني، وأصحاب الإرث أحق بالاحتفاء بأكاليلهم الزيتونية في معقل الأصل. وكلا الأمرين لا ينطبقان على قطر التي لم تخترع كأس العالم ولم تنتظر حتى يرفع ميسي الكأس قبل تقليده البشت.
ثانيًا، احتج الأنصار -وهم محقون في ذلك- أن أول من رمى سهام نقد البشت (أو أعلاهم صوتًا على الأقل) هم نفسهم الذين أشبعوا الدنيا بكاء وعويلًا وسلّحوا خطاب حقوق الإنسان والثقافة، سواء قبل بدء البطولة أو خلالها، وبالتالي يحق لهم التساؤل عما إذا كان النقد نقدًا حقيقيًا أو استمرارًا لتلك الحملة العنصرية، وهو التساؤل الذي تشرعنه عناوين الصحف الإنجليزية والفرنسية والألمانية التي وازت بين البشت والكراهية والرجعية أو ما شابهها. ولكن مجددًا، من المعترضين من هم خارج إطار مخيمات العنصرية مكانًا وثقافةً ويدركون معاني البشت المحلية ويمارسونها حتى، لكنهم مع ذلك يرفضون الحدث من باب عدم مناسبته لحظة التتويج ذاتها، مفضلين لو تأخر تقليد ميسي البشت بضع دقائق لكي تعم السعادة الجميع.
لست بصدد استعراض التاريخ المقدس للبشت ورمزياته ولا شرح مختلف تجلياته في الساحة والمناسبات المبهجة المحلية، وكلا الأنصار والمعترضين المعنيين هنا واعون بمضامين ذلك تمامًا. ما سأحاول فعله بدلًا من ذلك هو وضع الاحتجاجين أعلاه إلى جانب بعضهما البعض بغرض كشف انطلاقهما من الجذر الإشكالي نفسه: كلاهما ينطلقان من تصور غربي-المركز عن الثقافة وحدود تجلياتها زمانيًا ومكانيًا وظاهريًا. بعبارةٍ أخرى، طالما استُحضرت الحجتان في معرض تبرير لبس البشت تأييدًا أو معارضة، نصبح سجناء إطارٍ عاجزٍ عن الإلمام بمعاني بعض الظواهر أو الأحداث لأنها ببساطة خارج نطاق أسسه التحليلية؛ بمجرد تبني مفهوم الثقافة هذا، يصبح من حكم المستحيل إدراك أي مضامين مغايرة لما ينطوي تحته من مصطلحات ونظريات وغيرها.
في الحالة التي أتناولها هنا، رُبط تلبيس ميسي البشت في جدالات السوشال ميديا بمصطلحات من قبيل اللباس التقليدي والسلطة الناعمة ومناهضة الاستعمار الثقافي (بل حتى بحضارة الرجل الأبيض عند بعض الحمقى) وغيرها مما يندرج في كثير من الأحيان ضمن ثنائية الثقافة المحلية والحداثة الكونية. فعلى سبيل المثال، جرت المعادلة عند المعارضين كالتالي: من باب مواصلة تكريس قيمها ومناهضة الغزو الثقافي الغربي الذي انتهجته مع بداية البطولة، حاولت قطر ممارسة نوعٍ من السلطة الناعمة من خلال إجبار ميسي على ارتداء لباسٍ تقليدي يحجب حتى شعار بلاده لأجل أن تخلد لحظات الختام بحضورها.
وفي حين يستحيل قول أن هذه المعادلة خاطئة حين تطرح بهذا الشكل، إلا أنها ليست مفهومةً في الحقيقة إلا داخل الإطار غربي-المركز إياه.فهم أي شيء يستوجب موقعته ضمن نسيجٍ مفاهيميٍّ يسبغ المعنى عليه، وبتغير النسيج والعلائق التي تربط بين مختلف أجزائه يختلف المعنى. على نفس الغرار، لا يمكن استحضار فكرة الغزو الثقافي والسلطة الناعمة والحدود القومية-الثقافية لتفسير حدث تلبيس البشت إلا في عالمٍ قائم على أسس هيمنة تبلورت خلال النصف ألفية الأخيرة بدءًا بغزو الأمريكيتين وانتهاء بيومنا هذا. في كنف هذا الامتداد الزمني اعتملتْ العمليات التي صاغت ما صار مألوفًا لدينا من مفاهيم الثقافة المرتبطة بلغةٍ وقومٍ لهم حدودهم السياسية، ومفاهيم الجزر القومية المنفصلة عرقيًا وجوهريًا عن بعضها البعض، ومفاهيم الاستلاب الحضاري شكلًا وقلبًا.
وبالتالي فإن ما هو "تقليدي" ليس ذا معنى إلا حين يُربَط بما هو حديث أو حداثي، وفكرة الغزو الثقافي ليست منطقية إلا في سياق القوى الاستعمارية التي فرضت لغاتها وأنماط حياتها وقيمها على الشعوب المستعمَرة، فضلًا عن أن هذا التصور الجوهراني للأمم والعلائق بينها ليس سوى ما أفرزته قوميات نشأت هي الأخرى في أحضان الإمبراطوريات وحروبها ومستعمراتها. طالما صيغت تبريرات لبس البشت داخل هاته الأسس، سيظل الجدال حبيس الثقافة غربية-المركز. أقول "حبيس" لأن هذا التصور سجنٌ يحصر الفكر والخيال معًا، إذ يستحيل داخله فهم الظواهر على ضوء أي قيمٍ مغايرة للقيم الغربية المزعومة. هذا ما يفسر جزئيًا ردة فعل الأرجنتينيين أنفسهم، إذ بادروا لاقتناء البشت الذي بات منذ تلك اللحظة علامةً تعنيهم، علامةً على قبولهم مصافحة أيدينا دون التعريج على طرقات قوى الهيمنة. يدرك من في الهوامش ما لا يراه مريدو المركز.
ما أدعيه هنا هو أنه لا حاجة للبحث عن سابقة تتويج تاريخية ولا تعليل الاعتراض بالحملة العنصرية الشعواء. ما يعنينا من ممارسات أو رموز -أو مهما أردتم تسميتها- قادرة على الوقوفِ شامخة بكامل مضامينها وفق اشتراطاتها وحيثياتها. إن معنى البشت وتلبيسه في لحظة التتويج نفسها عصي على أفهام من يتعاطون مع مثل هذا الحدث بأطر تفصِل جوانب الحياة بعضها عن بعض، بأطر لا تستوعب معنى التشريفِ إلا في سياق صراع القوى، ولا تدرك معنى العطاء إلا في علاقة تبادل نفعي، فضلًا عن أنها لا تعي قيم الضيافة والكرم لأنها لا تعرف معنى الوجدان الاجتماعي الذي يشارك الأفراح ويضاعفها. كيف يمكنك شرح الأواصر الاجتماعية لمن يعشعش بخياله مفهومٍ آخر للمجتمع أصلًا فلا يدرك كنهها؟ وكيف يمكنك تفسير قابلية بعض الشعوب للتفاعل مع المهرجان الثقافي في كأس العالم دون خشية الانخراط في أي استيلاء ثقافي مزعوم؟
تريد قوى الهيمنة أن ترسم العالم على صورتها، وأن ترسخ في الأذهان أصل طبيعة بشرية عنوانها إرادة القوة والغزو والسيطرة والسلب، سواء على الصعيدين المادي أو المعنوي. أرادت أن تصف العالم وتسميه بمفرداتها ولغاتها، وأن تجبر البقية على التخلي عن كل ما لا يتواءم مع آخر صيحات حداثتها وتقدمها. ولذا لا طاقة لها ببشت ميسي؛ كيف تسمح بما ينخر في جسد خطاباتها ويبرهن -كما يبرهن التاريخ مرارًا وتكرارًا- أن هنالك من المعاني والبدائل ما يزيح مركزيتها؟ بل كيف تقر بحوار وتعدديةٍ لا يلتزمان بآفاق إدراكها؟
استقبل ميسي العالم شامخًا، ترتسم على محياه ابتسامة من أوشك على وضع نقطة الختام الأغلى. توشح بالبشت، وتوشحت قلوبنا معه طربًا. سار نحو زملائه راقصًا، بيديه يمسك الحلم الذي راوغه طويلًا. وما إن اعتلى المنصة حتى رفع إلى كبد السماء كأس الذهب، تحفه هتافات الملايين ودموع أفراحهم. اكتمل الآن نصاب بطولات البرغوث، وسيرقد قلبه ما بقي هانئًا.
إن معنى البشت وتلبيسه في لحظة التتويج نفسها عصي على أفهام من يتعاطون مع مثل هذا الحدث بأطر تفصِل جوانب الحياة بعضها عن بعض، بأطر لا تستوعب معنى التشريفِ إلا في سياق صراع القوى، ولا تدرك معنى العطاء إلا في علاقة تبادل نفعي، فضلًا عن أنها لا تعي قيم الضيافة والكرم لأنها لا تعرف معنى الوجدان الاجتماعي الذي يشارك الأفراح ويضاعفها.
لا فض فوك والله بس يااخي شطحت بنا يمنة ويسرة واو انك اكتفيت بهذه العبارة ففيها الخلاصة والمعنى المطلوب وشكرا