"لكن لماذا اختبأتْ تحت النخلة؟"
رفعت الأم عينيها من صفحات الكتيب، وتأملت حيرة عيني ابنها قبل أن تزفر هموم الليالي الطويلة وترد بهدوء لا يقبل المساومة: "إن قاطعتماني مرة أخرى، فلن أكمل قراءة القصة."
"ماما هذا ليس عدلًا!" صرخت آية، مردفة: "أنا ساكتة طوال الوقت. نوح هو من يقاطعك كل شوي. أريد معرفة ما يحدث لهالة، أرجوك."
اعتدل نوح جالسًا على مرفقيه، ونظر لجسد توأمته النحيل المستلقي موازاته يسار الأم. "قرأنا هذه القصة سابقًا وتعرفين تمامًا ما حدث. أخذها الدعيدع وأكلها."
اعتدلت آية هي الأخرى، وردت بذات العناد: "كذاب، لم يأكلها!"
"أكلها. لماذا أخذها من تحت النخلة إذن؟"
"كي يلعب معها، صح ماما؟"
"لا يلعب الدعيدع مع أحد."
"إلا. ربما شعر بالوحدة من الجلوس بمفرده كل هذه السنين وقرر أن يصبح طيبًا."
"لو بغى أن يصبح طيبًا، فلماذا لا يخرج في النهار؟"
"ماما قولي لنوح يسكت كي نكمل القصة."
"خلاص اثنينكم! أولًا..." صارت الأم تناظر نوحًا. "أخبرتك من قبل أن هالة اختبأت تحت النخلة بعدما أدركت أن النور أغواها وحاولت الفرار. لا ينبغي على أحد التوجه للنور وقتما حلت العتمة، وإلا أخذه الدعيدع. تعرفان ذلك حق المعرفة. كان على هالة البقاء في بيتها حتى تشرق الشمس من جديد. وثانيًا،" وجهت الأم كلامها الآن لآية، تزيل عن عينيها ما انسدل من خصلات شعرها. "كلام نوح صحيح. لو خرج الدعيدع في وضح النهار وتاب عن شره، لسامحناه. لكنه ما يزال يتحين العتمة ويتربص بالجميع ويحاول خداعهم بكلامه ونوره. هذه خدعته المعروفة مذ حلت اللعنة على البلدة."
"وما الذي يقوله حين يتكلم؟"
"لا أحد يعرف تمامًا، فأغلب من سمعوه لم يعودوا إلينا. ولكن يقولون أنه يَعِدُ الناس بحياة أفضل خارج أسوار البلدة. وهناك دائمًا بيننا ثمرات فاسدة تؤمن بما يقوله وتنقاد وراءه، وهم أساس البلاء."
"وهم سبب مجيئه إلينا؟"
"كلنا سبب مجيئه. يموت الدعيدع في شيء اسمه الشقاق. وهو يمتلك قدرات خارقة تجعله يستشعر لامبالاتنا وعدم اكتراثنا ببعضنا البعض، ولذا قرر أن يعيش بيننا ويتغذى على شقاقنا."
"يعني أنه سيرحل لو أحببنا بعضنا، صح ماما؟"
"طبعًا. علينا أن نكون يدًا واحدة، وألا نسمح لأحد بأن يزرع الحقد والفتنة بيننا. وقتها لن يستطيع الدعيدع الاختلاء بأحدنا ولن يجد ما يتغذى عليه، وسيرحل عنا إلى الأبد."
"شفت؟ قلت لك أن أخذك لألعابي سيفرح الدعيدع. ماما، ترى نوح دائمًا يلعب بألعابي دون إذني."
"كذابة. ماما، أقسم لك أني لم ألمس ألعابها."
"ماما، لماذا لا ننصب فخًا للدعيدع؟ نحفر حفرة في الطريق ليسقط فيها ونتخلص منه."
"غبية أنت. الدعيدع لا يمتلك ساقين، وأصـ..."
"أيًا كان" قاطعتهما الأم، "هذا لا يهم الآن. لن تنطلي علي ألاعيبكما مرة أخرى. حان موعد النوم، ولا أريد سماع حس."
"ولكن ماما، هل نـ...."
"بدون ولكن! وفرا أسئلتكم لصباح الغد. يلا."
نهضت الأم من السرير، وتأكدت من إشعال كل مصابيح الغرفة قبل تغطية التوأمين. ألقت نظرة سريعة تحت سريرهما: لا شيء. توجهت لنافذة الغرفة، وتأكدت أنها محكمة الإغلاق وأن القفل في مكانه. إجراءات احترازية ليس إلا، فقط كيلا ينالها وخز ضميرها جراء عدم الالتزام بوصايا الأب. مع ذلك لم تتمالك نفسها من الوقوف أمام النافذة كما تفعل كل ليلة. إن كان ثمة بدر، فلا شك أنه قد توارى خلف طبقة غيوم حالكة، تاركًا المهمة لمصابيح المنازل كي تنير دواخلها وخوارجها. لا شيء يعكر صفو الأجواء: لا حفيف، لا صرير، لا نعيق. والحركة في الخارج معدومة إلا من سيارة لاحت باقتضاب أول الشارع. سيارة العسس حتمًا. بل ربما سيارة رجلها إن حالفه الحظ وناوب بعيدًا عن البر والضِّياع. وكأن وحشة الليل لا تكفي ليضاف عليها قلق توقع الأسوأ. لا سلوان لقلبها سوى الأمهات الواقفات هن الأخريات عند نوافذ بيوتهن.
لكن على عكس الليالي السابقة، حيث اعتادت الأم الوقوف والتحديق حتى يغطان نوح وآية في سابع نومة، بارحت اليوم مكانها في غضون دقائق، كأنها تذكرت في تلك اللحظة أمرًا لا يحتمل التأجيل. توقفت خطواتها الدؤوبة عند عتبة الغرفة واستدارت تجاه سرير طفليها. "وما الذي ينبغي علينا قوله قبل النوم؟"
جاء صوتاهما متململين: "فلنبق حيث ترانا الأعين ولندع الليل لأهله."
"شطورين. يلا، تصبحان على خير."
خطت الأم بضع خطوات خارج الغرفة، وكانت على وشك دخول غرفة نومها حين حلت العتمة بغتة. ستظل في السنوات اللاحقة تردد نفس الأجوبة كلما أعادت سرد الواقعة: نعم، كانت النافذة مغلقة وموصدة. نعم، تمائم العين في مكانها. كلا، لا تتذكر ما إذا كانت الشمعة مشتعلة أم لا. أيًا كان، ما تتذكره هو أنها سارعت لغرفة طفليها مذ حلت العتمة ودوى صوت تهشم نافذتهما، تصرخ باسميهما ملء صدرها. أدركت حتى قبل أن تصل ألا مجيب سوى أذيال الرياح.