أحدث مجيء اللاعب الجزائري الحاج عيسى لنادي الاتفاق قبل أربعة عشر عامًا ضجة لم تندمل آثارها حتى سنوات تلت. بمجرد إعلان الإدارة التعاقد معه ومجيئه، أعدت الجماهير عدتها لموسم ناري، وانتشرت الآراء حول قوة دورينا الذي يستقطب نجومًا لهم صيتهم. أتذكر ليلة الترحيب بالحاج عيسى كأنها البارحة: أقيمت مباراة ودية مفتوحة للجماهير ضد نادي هجر على ملعب النادي، وامتلأت المدرجات الاسمنتية بالألوف الحاضرة لرؤية باجيو العرب. وما إن نزل أرضية الملعب في شوط المباراة الثاني حتى انطربت الجماهير بفنياته ومهاراته، تلك الفنيات والمهارات التي لم يكتب لها الاكتمال بعدما حط الحاج عيسى رجله هربًا مع بداية الدوري والموسم الاتفاقي المخزي.
اليوم تمر هذه الذكرى ومثيلاتها مرور الكرام. بات من السهل نسيان مجيء دينيلسون وتياغو نيفيز وغيرهم من الصفقات العالمية التي أحدثت جلبة وملأت المدرجات في السنوات الماضية. في غضون عام، هزمنا بطل العالم، وهتفت مدرجات كأس العالم بأهازيجنا، وتربع الهلال وصيفًا وراء ريال مدريد في ثالث مشاركاته المونديالية. والأبهى من كل ذلك، صرنا اليوم نتكلم عن دوري يلعب فيه رونالدو ونيمار وبنزيما وفيرمينيو وهيندرسون وبروزوفيتش ونجوم غيرهم، دوري تتابعه جماهير المستديرة أينما كانت حول العالم. انتفت الحاجة لجلب أي باجيو عرب؛ بات دوري روشن السعودي منزلًا لكل باجيو حقيقي.
يستحيل تخيل كل ما يتحقق اليوم دون استحضار رؤية ٢٠٣٠. فمذ دشنت قيادتنا الكريمة في الخامس والعشرين من أبريل ٢٠١٦ حجر الأساس لبناء مجتمع حيوي واقتصاد مزدهر ووطن طموح، بات في متناولنا كل ما كان بعيد المنال، وارتفعت تطلعات شعب كامل إلى عنان السماء. أدركنا أن الركون لأي هامش لم يعد مبررًا، وصار إثبات الذات على ساحات المشهد العالمي في كل مشاربه مطلبًا وغاية لا غنى عنهما.
وفي حين تجلت علائم الرؤية في عدة مجالات محليًا وعالميًا، ظل المثقف السعودي وإنتاجه المعرفي في أغلب أوجهه حبيس أطر بالية ومتهالكة، تلك الأطر المتبلورة في ثنايا المشهد المتشكل جراء انتشار مشروع الصحوة في المنطقة. يستحيل عليّ في سطور قليلة الإحاطة بجدالات مختلف حراكات الصحوة أو بآثارها على الفكر المحلي. ما هو جدير بالذكر هو أنها استطاعت فرض إطارها الفكري الخاص وتدجين أي فكر مخالف. بعبارة أخرى، استطاعت الصحوة تهميش الأطر الفكرية المغايرة وتقرير إمكانية الاختلاف ومشروعيته على طول أسسها ومقاصدها.
لا يهم هنا ما إذا كان المثقف المترعرع في هذه الحقبة يؤمن فعلًا بالثنائيات المطلقة التي فرضتها الصحوة بين مخيم الإيمان والكفر أو ما إذا تبنى موقفًا معارضًا منها (ظاهريًا على الأقل)؛ المهم أنه كرس مشروع الصحوة من خلال تبنيه طرحًا ثقافيًا مماهيًا لقيمها. وبذا انصب السواد الأعظم من الإنتاج الثقافي على تناول الموضوعات التي تثير غبارها الصحوة، والتفكير على حدود منهجيتها المعرفية، واستخدام مصطلحاتها الفكرية.
من أبرز هذه الأسس والمقاصد محاولة الصحوة فرض وهم الانغلاقين الاجتماعي والثقافي واعتبار الحوار مع الآخر ذنبًا يخرج صاحبه من الملة. كل ما ينبغي معرفته عن الآخر (أي آخر، وليس المختلف دينيًا وحسب) مُفلتر على يد وسيط الصحوة التي تقرر ما ينبغي معرفته والكيفية التي يعرف بها. ثمة وجهان لهذه العملية. أولًا، لأن الصحوة قائمة على الإقصاء قلبًا وقالبًا، فقد كان للتصنيفات الكبرى دور محوري في سد أبواب التساؤلات التي تهدد كيان الصحوة ومصالحها. ومن هنا شُنّت الحرب على مختلف أوجه الانفتاح المعرفي، سواء تحت طائلة التغريب أو الابتداع أو الضلال أو غيرها من التصنيفات التي تمنع الحوار ابتداء، ولم تُشرعن إلا تلك المعارف التي يمكن تطويعها ضمن مشروع الصحوة العابر للحدود سواء كان تطويعًا إيجابيًا أم سلبيًا. ففي نهاية المطاف، تحتاج الصحوة إلى (آخر) محلي لكي تسبغ المعنى على مشروعها، وقد وجدته في المثقف إياه.
أما الوجه الآخر فسأسميه بهيمنة التصور السلفي للمعرفة. مفاد هذا التصور هو أن المعرفة الإنسانية قابلة للاكتمال في لحظة زمنيةٍ ما. وبمجرد اكتمالها، تصبح المعرفة غير قابلة للمساس مباشرة، وجل ما يستطيعه المرء هو مقاربتها عن طريق الأولياء والوسطاء العارفين لها. يمكن إعادة صياغة الفكرة كالتالي: هنالك معرفة (س)، وهذه المعرفة تنكشف للمفكر (ص) في اللحظة الزمنية (ع)، فتكتمل (س) بحيث ينبغي على كل من يطرق بابها أن يعود إلى الماضي. وبالتالي يختفي كل اجتهاد معرفي حقيقي ويحل محله تقليد "السلف" والاهتداء بإرثهم والتبشير بما سبق وأن قرروه. تصبح نقطة المعرفة دائمًا نقطة ماضوية، وأي معرفة إنسانية اليوم لا بد وأن ترتسم على فكر من تقدم من فطاحلة الفكر، ناهيكم عن ما يتضمنه كل هذا من شيطنة الحاضر واعتباره سقوطًا من عصر ذهبي ينبغي العودة إليه.
حاول مثقف الصحوة بطبيعة الحال مقارعة الانغلاق المعرفي ومناهضة المشروع الصحوي، سوى أنه عجز عن إدراك تغلغل أطرها في عملية التفكير والإنتاج المعرفي أنفسهما، ولذا ظلت مقارعته حبيسة إطار المشروع نفسه ومهتدية بهداه. وما هو أمرّ من ذلك أنه تشرب تصورًا سلفيًا عن المعرفة فبات يؤمن باكتمال المعرفة وبتقليد المفكرين، وهذا ما أدى لانطلاقه معرفيًا من موقع الدونية وبإيمانه أنه قابع في مرحلة حضارية متأخرة تتطلب منه المسارعة للأخذ بعصارة ما أنتجه الآخرون لعله يلحق بركبهم.
يتجلى أحد أوضح أوجه هذه المماهاة في تكريس مثقف الصحوة لهامشية الإنتاج الفكري المحلي. لا أحصي المرات التي وقفت فيها على كتابات معرفية لكتاب محليين فوجدتها مستندةً في أطروحاتها على اجترار معرفي لما أنتجه غيرهم. ترى منهم من يكتب مقالات "فلسفية" عن أرباب الفكر الغربي مستشهدًا بعبد الرحمن بدوي، لا بما يقوله المفكر الغربي نفسه. أو من يستشهد بجورج قرم على الطالعة والنازلة وحين تستشكل عليه استشهاده اللانقدي يرد: "أين أنا وأين جورج قرم؟". أو من يسهب في الحديث عن تفاصيل أمرٍ ما بما يثير الإعجاب، فتكتشف لاحقًا أنه حفظ كل ذلك عن ظهر قلب من طرح ثانوي. في كل هذه الأمثلة، تغيب مواجهة الأفكار الأصلية ويحضر اجترارها من وسيط طرق أبوابها.
بطبيعة الحال، أستخدم مفردة اجترار لتوصيف طرح مثقف الصحوة، لا لإصدار أي أحكام معرفية أو قيمية على الإنتاج الأصلي أو حتى إنتاج الوسطاء. ذلك أن مثقف الصحوة يتعاطى مع هذه المعارف ضمن علاقة هامش ومركز. بعبارة أخرى، في ذهن مثقف الصحوة، تُنتج الأفكار والمعارف وتكتمل في هذه المراكز، ولا يد له وهو في الهامش إلا استقبالها وتقليدها أملًا في بلوغ مرحلة التطور الفكري يومًا ما.
يمكنني لو شئت تناول الإنتاج المعرفي المغاير من خلال مفاهيم مواقعية الإنتاج أو التقويض الإبستيمي للمعارف غربية المركز، أو حتى ما تعالق منها باستعمار الزمان والمكان على يد نظم استعمارية تفرض هيمنتها العرقية والثقافية واللغوية والجنسية. ويمكنني حتى تناولها من زاوية قراءة الآخر (أي آخر) دون الوقوع في فخاخ تنميطه وتصنيفه المسبقين، سواء على يد مؤسسات إنتاج المعرفة أو الحركات الصحوية.
لكن أمتنع عن فعل ذلك لسببين. أولًا، إن المثقف المعنيّ هنا غارق في أطر الصحوة لدرجة أنه لن يفقه حتى معاني هذه المفاهيم فضلًا عن أهميتها. وثانيًا، سيبعدني ذلك عن فكرة المقالة الأساسية، وهي ما يمكن لـ "العالمية صعبة قوية" وما تجلى خلال العام المنصرم من تفوق كروي سعودي أن يعلمونا عن موازين الإنتاج المعرفي وإعادة صياغتها، لا سيما ما يتعلق منها بالانفتاح على الآخر. نعم، على المثقف أن يواكب تطور الكرة السعودية.
يمكن اختصار فكرة المقالة الرئيسية بالكليشيه التالي: ليكن هدفك بلوغ القمر، فحتى لو أخطأت، ستحط بين النجوم. أعرف أن النجوم أبعد من قمرنا، وليس الهدف تحليل مغالطات الكليشيه. المقصد الواضح من وراء هذا الاختصار هو أن مرتبة الهدف الذي يضعه المرء نصب عينيه تؤثر على الكيفية التي يسلك بها دربه، إذ ستقرر من البداية كمية الجهد الذي ينبغي على المرء بذله كي يبلغ مراده. تو متش تطوير ذات؟
عمومًا. سواء شاء مثقف الصحوة أم أبى، يستحيل عليه تجاهل حضور كرة القدم السعودية المتزايد على الساحة العالمية، وهو حضور مستحق تمامًا بطبيعة الحال. سأختزل الأمور بعض الشيء وأقول أن أحد الأسباب الرئيسية لهذه الحظوة هو أن منتخبنا دائمًا ما يضع العالمية نصب عينيه، وينجح في الوصول إليها. هذا ما جعل المشاركة في كأس العالم مثلًا أضعف الإيمان بالنسبة لنا، طامعين دائمًا في تجاوز إنتاج ٩٤ التاريخي. وفي الوقت نفسه، علو طموحات المنتخب جعل جماهير الكرة يدركون انخراطهم المستمر في مشهد عالمي. على سبيل المثال، بمجرد ظهور أخبار تعاقد أحد الأندية مع لاعبٍ ما، تجد المتابعين يترجمون الأخبار من مختلف اللغات ويتداولوها، فضلًا عن إلمامهم بأحدث ما يجري طالما ارتبط بأفق تطلعاتهم.
لا شك باستحالة فصل هذا التطور في السنوات الأخيرة عن مشروع نهضة الكرة السعودية المنطلق مع الرؤية. ففضلًا عن مشاريع تطوير المنشآت الرياضية واستضافة مختلف البطولات العالمية، ثمة نقطة مهمة في ازدياد عدد المحترفين في السنوات الأخيرة من نظام المحترفين الأربعة (ثلاثة + محترف آسيوي) إلى سبعة ومن ثم إلى ثمانية بحلول موسم٢٠٢٣-٢٠٢٤. وقد جاءت هذه الخطوة تكميلًا لمشروع إرسال عدد من اللاعبين السعوديين للاحتراف في أندية عالمية فترة من الزمن ليعودوا محملين بخبرات جديدة. ولذا بتنا نتحدث عن انفتاح متعدد الأصعدة على أكثر من جبهة.
فالشاهد من كل هذا أن الاحتكاك مع الآخر والانفتاح على ما يقدمه خطوة محورية في معرفة الذات ومن ثم النهوض بها. لكن بشرط أن يكون هذا الانفتاح ذا جوهر متكافئ؛ طالما نظرت لنفسي على أني ند حقيقي للآخر رغم ما يحضر من تباينات، فالنتيجة أني سأتجاوز مواطن قصور لا يستهان بها. لكن إذا ما رسمت العلاقة من الأساس على أنها علاقة مركز بهامش، أو فوق بتحت، أو منتج بتابع، أو مجتهد بمقلد، ففي أحسن الأحوال ستثمر العلاقة عن اجترار ما صيغ وقرر مُسبقًا دون يد مني في تشكيله أو معرفة كنهه، حتى إذا أتيحت بيدي كل الموارد الضرورية.
وهذه العلاقة غير المتكافئة هي التي صبغت طرح مثقف الصحوة وتصوراته. وضع هذا المثقف نصب عينيه مقارعة مشروع آيديولوجي إقليمي حدّ من أفق تطلعاته، وساهم بنشاط في إعادة إنتاج تباين القوى بين هامشٍ ومركزٍ إقليميين هما الآخرين، مما عنى غياب معرفته عن أي (آخر) عالمي إلا عن طريق وساطة القابعين بهذا المركز الإقليمي. وهذا واضح كما ذكرت في كمية الاستشهادات التي لا تجرؤ على مقاربة طرح أي فكرة إلا مفلترة على يد وسطاء، وهو واضح أيضًا في غياب مثقف الصحوة عن الإلمام بالنشاط الثقافي المعاصر خارج دائرة حروبه الصغرى أو تداولها على يد المنتمين للمركز.
يمكن لمثقف الصحوة أن يتعلم من لاعبي دوري روشن أن يكون مهزومًا فيـ... لحظة ماذا كنت أقول؟ نعم. يمكن لمثقف الصحوة أن يتعلم كيف أن وضع العالمية نصب عينيه شرط لا مناص منه لأجل بلوغ المشهد العالمي أولًا، وإثبات الذات بما يكسب احترام الجميع ثانيًا. هزمنا بطل العالم دون أن نمتلك في منتخبنا أي لاعب محترف خارج البلاد، وصار دورينا اليوم محط أنظار العالم بما زانه من صفقات عالمية نارية. ياخي حتى أنا في يوم وليلة صرت أرى اتفاقنا يزدان بجيرارد وهيندرسون ودمبيلي وجاك هيندري. في ظل مبادرات وزارة ثقافة طامحة للارتقاء بكل ما يطاله تراثنا ومعانينا، وفرص باتت متوفرة للابتعاث في تخصصات إنسانية واجتماعية بجامعات مرموقة في شتى بقاع العالم، ما عذر من يدعي اشتغاله في مجال عالمي عابر للحدود أن يقصر عن مقارعة الكبار ندًا لهم؟