لا أعرف كلمة ظلت عصيةً على انقلابات المعنى ومحافظةً على هيبة حضورها ككلمة "فلسفة" ومشتقاتها (فيلسوف وفلسفي وتفلسف). مجرد نطق إحداها يُلبس الحديث جو الوقار والتأمل السابر لأغوار المعارف، ويرفع مقام المتحادثين لعالمٍ لدني. بل لو ألحقتم كلمة "فلسفة" بأي عمل أو فكرة لاكتسبا فجأة بعدًا جديدًا من المعنى. يكفي تخيل مريدي الفلسفة متربعين بالديوانية يقلبون ليّ الشيشة يمنة ويسرة، قانعين بأن جلساتهم وأحاديثهم مختلفة -جوهريًا- عن البقية لأنها تنطوي تحت "فلسفة الديوانيات" أو "فلسفة الشيشة" أو "فلسفة المشي". ولا غرابة إن قرروا توكيد الاختلاف عن طريق تدشين "جمعية فلسفة الديوانيات" أو ما أشبه، احتياطًا لئلا يخلط أحد بينهم وبين غيرهم.
بطبيعة الحال، هذه الهيبة كفيلة بأن توقظ في بعضنا رغبة ملحة للانتماء لهذا العالم الغامض؛ نريد أن نصبح فلاسفة بأي شكل من الأشكال. لكن هنا تبدأ المتاعب للأسف: كيف يمكننا أن نصبح فلاسفة؟ أي شكلٍ ينبغي علينا تبنيه كي ننضم لتلك القلة القليلة القادرة على إدراك مكنونات الوجود؟ بعيدًا عن أولئك المصدقين أنفسهم بما يكفي لإسباق أسمائهم بـ"الفيلسوف" منذ لحظة الاهتمام الأولى، فلربما ستراود أذهاننا ثلاثة دروب مختلفة علّها تؤدي بنا في نهاية المطاف لأن نصبح كذلك:
هناك أولًا الدرب الأكثر بداهة: قراءة كتب الفلسفة. إن أردنا أن نصبح فلاسفة، فعلينا كخطوة رئيسية الإلمام بأعمال الفلاسفة وأفكارهم عبر الزمن. علينا معرفة ما قاله فلان في "س"، وكيف رد عليه علان في "ص"، وكيف استحضرهما فلتّان وتأثر بهما سوية في "ع". وفق هذا الدرب، يمكن اعتبار الفلسفة سلسلة متصلة من الحوارات بين فلاسفة يتجاذبون أطراف حوار ممتد منذ فجر التاريخ حتى يومنا هذا.
لكن هناك درب ثانٍ قد يستهوي البعض، ألا وهو الدرب المنهجي. الفلسفة هنا أولًا وأخيرًا منهاج في التساؤل والتشكيك المستمر حول المعاني والمسلمات. بعبارة أخرى، الفلسفة هنا هي عملية التفكير التساؤلي بحد ذاتها. حسينزم، تبغى تشرب قهوة ولا شاي؟ يا له من سؤال مهم! لكن هناك أمور ينبغي توضيحها قبل الإجابة عليه ما هي القهوة أصلًا؟ ومن الذي يقرر معايير التفضيل؟ هل نحن وحدنا؟ لحظة وين رايح لسه ما اخترت!
وهناك أخيرًا درب أكثر رصانة ظاهريًا، ألا وهو الدرب الموضوعي (من الموضوع، مو الموضوعية المقابلة للذاتية). الفلسفة هنا تأمل نظري في قضايا معينة. قد تكون القضايا تجارب إنسانية مشتركة (كالموت والحب والأخلاق والإيمان)، أو عقائد مطلقة (كالرأسمالية والفردانية والوجودية) أو المصطلحات النظرية (إبستمولوجيا، أنطولوجيا، كتبيولوجيا) أو ما يستهوي ذوقك الشخصي.
لإحقاق الحق، تبدو كل الدروب مغرية ومشروعة بما فيه الكفاية لأن تتجاذب اهتمام المقبلين على الفلسفة. ومع ذلك، بمجرد البدء في إحداها (أو جميعها)، نشعر وأن هنالك ما يعوزنا؛ التداخلات بينها تجعل الرحلة أعوص وأعقد. نبدأ بجمهورية أفلاطون، فنجد أنفسنا ندخل معمعة الفلسفات السياسية، والتي تستوجب منا الإلمام بمفاهيم الأخلاق والعدالة والمجتمع حتى. لكن كل هذا بدوره يعيدنا لعصرنا كي نطلع على أسس المنظومة الرأسمالية المعاصرة (بحكم أنها "الطور الأحدث") في سبيل فهم تداخل المفاهيم بشكل أقرب لنا. بس لحظة، هل يمكننا فهم الرأسمالية دون التعريج على نشأة الليبرالية والملكية الخاصة؟ أوكي مو مشكلة، سأعود كم خطوة للوراء، لجون لوك والشلة. اممم، لماذا يصنفون بعض الأطروحات هنا تحت ثنائية المادية والمثالية؟ والله حوسة.
لا أدري عنكم، لكن هذا هو التشوش الذي وجدتني فيه قبل عقد ونيف من الزمن. حين بدأت ما أسميته حينها "رحلة فلسفية"، كنت كغيري مفتونًا بالفلسفة وعوالمها. أردت قراءة كل مؤلفات الفلاسفة العظام: أفلاطون، أرسطو، بيكون، ديكارت، لوك، كانط، هيغل، نيتشه، سارتر، سمّ من شئت. أردت الولوج لأعماق كل المصطلحات الكبيرة: الاشتراكية، المثالية، المادية، الحرية، الديماغوجيا، الآيديولوجيا، وغيرها من الـ "يّات" والـ "لوجيّات". أردت امتلاك الثقة الكافية لقول عبارات مثل "الحداثة التدميرية الشاملة عند هايدغر" أو "سيولة الخطاب الما-بعد-كولونيالي" دون تردد. وبطبيعة الحال، أردت استيعاب كل ما يرد في الندوات حول ما هو واقعٌ ومأمول في المشهد الفلسفي.
وفي محاولتي للخروج من التيه، لمعت بذهني فكرة لم يسبقني بها أحد من العالمين: لماذا لا أبدأ بالمداخل الفلسفية وتواريخها؟ في أحسن الأحوال، سأحفظ عن ظهر قلب ما يزيد عن ألفي عام من تطورات الفكر الإنساني، وأحدد أبرز المحطات والمنعطفات، وألم بالمصطلحات المستخدمة في أي نقاش فلسفي. وفي أسوأ الأحوال، سأستخدم المداخل والتواريخ الفلسفية كمراجع ترشدني لمنابع الفلسفة الأصلية. فكرة رهيبة، صح؟ غلط!
الفكرة رهيبة على الورق، لا خلاف في ذلك. لكن بعد فترة، استوعبت أني أعامل الفلسفة كأنها محل خضرة. فحتى قبل دخولي للمحل، أعرف من الواجهة واللوحة الخارجية (إلا إذا كان اسم المحل "رونق النمارق" مثلًا) أني مقبل على محل يبيع الفواكه والخضروات. أتجول في المكان المرتب عادةً وفق نمط يشبه المحلات الأخرى. أستمع لشرح البائع حول أفضلية هذا النوع من الطماطم على ذاك. ولو كان يحمل شهادة دكتوراه فيفلسفة الفواكه والخضار، لسهل عليه تدعيم كلامه بمصادر تؤكد على أن الطماطم الألماني يميل عادة للمثالية، على خلاف الطماطم الفرنسي الذي يكون بطبعه وجوديًا. وبعد كل هذا التجول والاستماع، أنتقي ما أراه مناسبًا لذوقي. لحظة، هل تقصد يا حسينزم أن هذا مفهوم استهلاكي-تسليعي للفلسفة؟ يمقن إي ويمقن لا.
ما علينا. صحيح أني أدرك الآن الثغرات الكامنة في تصوري السابق للفلسفة، واع بتبعاتها على كل أنماط التفكير، لكن لن أدعي أني المحنك الذي استشف كل ذلك منذ اللحظة الأولى. عزائي الوحيد هو إدراكي أني لا أتحمل الخطأ كليًا. ذلك أن ما يُضفي على الدروب الثلاثة أعلاه طابع "البداهة"، ما يجعلها تتبادر من البداية لأذهاننا، بحد ذاته جزء من مشكلة أعوص إزاء المفهوم السائد للفلسفة. سواء تعلق الأمر بالتعامل مع بعض الموضوعات على أنها فلسفية بطبعها، أو بتصور الفلاسفة على أنهم منخرطون في حوار أزلي، أو بالتوكيد على ارتباط التفلسف بأنماط وأشكال معينة من التفكير، فليس هذا سوى إشارة للخلل الكامن في المفهوم نفسه.
وهذا الخلل هو لب ما سأسميه هنا مفهومًا تقليديًا للفلسفة. يعشعش هذا المفهوم في أذهاننا كقالبٍ ينتقي ويستثني وفق اشتراطات مسبقة. فكروا بما يرد في أذهانكم حين ترد كلمة "فلسفة"؛ كم منكم استحضر وجوه رجال أوروبيين (أو غربيين) يشيدون الحجج والبراهين حول كلمات غامضة بأسلوب عسر؟ وكم منكم استحضر ضرورة التخصص كشرط مسبق لولوج معتركاتها؟
لحسن حظكم (أو لسوئه، الله أعلم)، يشكل هذا المفهوم موضوع خربوشتي هذه. ولئلا أضطركم لقراءة عشرات السطور الإضافية كي تعرفون ما أريد قوله، هاكم: التصور السائد للفلسفة تصور أسطوري حداثي أوروبي-المركز، يحد من أشكال ومنابع الفكر ما لا حصر له. ومن الممكن الخروج من مآزقه إذا ما استبدلناه بتاريخ الفكر.
لا أصف التصور السائد بالأسطوري من باب خرافيته أو سذاجته، أبدًا؛ أسطوري لأنه قائم على مُختلق تاريخي. كونه تقلد زمام الهيمنة (ولذلك أسبابه التي لا تسعها سطور هذه الخربوشة) لا يعني إطلاقًا احتكاره كل ما يتعلق بالفكر.
ملاحظة تحذيرية: لا تغركم الإشارات والإحالات هنا وهناك؛ هذه ليست ورقة بحثية ولا مقالًا أكاديميًا، بل مجرد خربوشة طويلة وفوضوية. ولذا ألتمس العذر منكم لو بدت بعض التحليلات عجولة أو اختزالية. لو فصّلت كل المحاور لاحتجت عشرات السطور الإضافية، والمزيد من الجمباز النظري الذي لا يهم الكثير.
وعلى أي حال، أكتب هذه الخربوشة من باب تسديد بعض ديوني الفكرية. وربما هي أيضًا إهداء لذاتي الشابة التائهة الباحثة عن مخرج من التيهان. ولا أدعي طبعًا أني عثرت على الصراط المستقيم؛ جل ما أصبو إليه هو الإشارة لبدائل محتملة.
تاريخ فلسفة؟
لو جاءني أحدهم قبل بضع سنوات قائلًا: "ما فيه شيء اسمه تاريخ الفلسفة يا حسينزم"، لضحكت في وجهه ومشيت. لا يوجد تاريخ فلسفة؟ أجل ماذا كان أفلاطون وأرسطو يفعلان إن لم يضعا أسس المتن الفلسفي، يلعبون بلوت في ساحة الأغورا؟
ولكننا نكبر، ونتعلم من كرنجيات ماضينا.
لا أكتفي اليوم بقول أنه لا وجود لتاريخ الفلسفة، بل آخذ الأمر حبة زيادة: في بداية الرحلة الفلسفية إياها، ليس هناك أكثر مضرة وإضاعة للوقت من المداخل التمهيدية وتواريخ الفلسفة، ولا أستثني منها كتبًا ولا دورات ولا محاضرات.
بإمكاني الإسهاب حول اختزاليتها المفرطة، وامتلاءها بالتأويلات، ونزعاتها الغائية حتى. لكن كل هذه تفاصيل تحوم حول خلل أكثر جذرية: تعزيزها لتصور فلسفي لم يخضع للفحص بما فيه الكفاية. مهما تعددت مداخل الفلسفة وتواريخها، جميعها تكرس نفس المفهوم ونفس الأفكار ونفس الفلاسفة.
دعني أصيغ الدعوى بشكل مختلف قليلًا. من سمات هذا التصور -غير المفحوص- الاعتقاد بأن هناك مفاهيم تحليلية كونية صالحة لكل زمان ومكان، بحيث يمكن استخدامها لتحليل أي سياق اجتماعي دون إشكال. ما يقوله أرسطو عن السياسة صالحٌ لزماننا، تمامًا مثل أطروحات توما الأكويني عن الدين، وآدم سميث عن الاقتصاد، وإيمانويل كانت عن تراتبية الأعراق. وهو نفس الاعتقاد الذي يؤمن بإمكانية استخدام مفهوم الفردانية لتحليل الحضارة الإغريقية القديمة، واستخدام الرأسمالية لتحليل العصر العباسي.
ومن سماته أيضًا ما يمكن اعتباره حتمية جغرافية: الاعتقاد بأن هذه المفاهيم ولدت وترعرت (ودي أقول ثم هاجرت، ولكن هذا باب سأفتحه مستقبلًا) في بقعة يصادف أنها تعرف اليوم بالغرب. سأستشهد بنفس المصطلحات التي ذكرتها أعلاه: الرأسمالية، الفردانية، الوجودية، إبستمولوجيا، أنطولوجيا، كتبيولـ... لا لحظة هذا قطيفي الأصل. المادية، المثالية، الظاهراتية. مع أنها جميعًا تستخدم في تفسير واقع المجتمعات والثقافات حول العالم، لكن كم واحدًا منها يُعزى لغير تلك البقعة الجغرافية؟ بل حتى لو صادف واستحضرت هذه المداخل والتواريخ مفاهيم "غير غربية"، فإنها وبحكم الإطار الفلسفي الذي تقولب ضمنه تصبح جزءًا من السردية، وإن على سبيل التمايز.
طيب يا حسينزم، حتى لو وافقناك بعدم صلاحية هذه المفاهيم الكونية لكل الأزمنة والأمكنة، وحتى لو سلّكنا لك بتصدر بعض الأسماء للتاريخ الفلسفي، ليس من المعقول أن تنكر الوجود الفعلي لتقليدٍ فلسفيٍّ معروف أخذ يتطور بمرور الزمن! إن كنت ناسي أفكرك:
بدأت الفلسفة يا طويل العمر والسلامة مع الإغريق. بعدها انتشر تراثهم الفكري لمحيطهم، خصوصًا الإمبراطورية الرومانية التي استفادت من فلسفة الإغريق السياسية في تشييد الإمبراطورية الأعظم آنذاك. لكن بسقوط الإمبراطورية على يد البرابرة، دخلت أوروبا عصورها المظلمة (أو عصورها الوسطى، على حسب أي رواية تفضل)، وظل العالم يقاسي غياب الفكر ونور الفلسفة حتى أرسل الله مفكري عصر النهضة الذين بثوا الحياة وروح المعرفة الكلاسيكية، ممهدين الطريق لأن يجلس ديكارت في غرفته الباردة وحيدًا ويقول: أنا أفكر إذن أنا موجود. يا حسينزم، هل تعرف أن ديكارت نفسه لم يعرف أنه سيدشن الفكر الحديث؟
عمومًا، اللي صار صار. دشن ديكارت الفكر الحديث، وتبعته العقلانية والمنهج العلمي وإخضاع الطبيعة. ولا ننسى الدور المحوري لـ "اكتشاف" أمريكا، الحدث الذي أثبت أن العقل الأوروبي قد أضحى المعيار الأوحد لريادة التقدم الإنساني، وأن الفكر قادر على رفع المعاناة وتحقيق الفردوس الأرضي.
وهذا العقل يا حسينزم هو بالمناسبة ما أسقط النظم الاستبدادية في أوروبا، ممهدًا الطريق لأن تتقلد الشعوب زمام السلطة سيرًا على المثل التنويرية التحررية. وبالتالي وصلنا لمرحلة حضارية لم تبلغها الأمم والحضارات السابقة. باختصار: لولا أن انتزعت الفلسفة مفاتيح المعرفة من أيدي الجهلاء والمتحجرين لما استطعنا دخول الحداثة. ومذ دخلناها لم نلتفت للوراء، إلا لننظر طبعًا بعين الإشفاق على المتخلفين المفتقرين للتنوير.
برافو، أعترف أنها قصة مشوقة. لكن ألا تشعرون أن فيها غائية واضحة وضوح الشمس؟ يعني بالله عليكم، ألفين سنة ما فيها إلا محتوى ثريد تويتري؟ وأي شخص يمتلك ذرة تفكير نقدي قادر على الإمساك بأي جزء من هذه الرواية وتمحيصها، ولن يجد فيها إلا خواء وهراء. ورغم كمية النقد والتفكيك والتمحيص الذي تعرضت له هذه السردية من كل زاوية محتملة، تظل لسبب ما سائدة وقادرة على تهميش نقودها في الخطاب العام.
لا مشكلة، دعنا نعرج سريعًا على بعض الافتراضات الأساسية فيها. النسخة الأكثر شيوعًا، كالتي ذكرتها أعلاه، تقول أن الفلسفة بدأت مع الإغريق. لكن هذا ادعاء غطرسي بما فيه الكفاية لأن تُستبدل النسخة بواحدة أكثر تحفظًا تقول أن ما بدأ مع الإغريق ليست الفلسفة بحد ذاتها، بقدر ما هي الفلسفة الغربية. وهذه النسخة تقر بوجود فلسفات غير غربية، وقد تتكرم عليها بإضافتها للرواية وقتما استلزم الأمر (مثل سالفة حفاظ الفلاسفة المسلمين على التراث الإغريقي فترة دخول أوروبا العصور المظلمة، والتي لولاها لما عادت الفلسفة لموطنها الأصلي في أوروبا).
لكن المشكلة في النسختين هي هي: كلتاهما تفترض ضمنًا الوجود المطلق لكيان يدعى "الغرب"، كيان متسق وموجود منذ أبد الآبدين، غير خاضع لتغيرات الزمان والمكان. وفقًا لهذا الافتراض، يصبح من المنطقي قول أن اليونان جزء من الغرب ثقافيًا، وجزء من العالم الثالث اقتصاديًا، وجزء من الشرق جغرافيًا وكنسيًا. لولا التقسيم الكياني المتسامي عن التاريخ، والذي يضع الغرب في طليعة كل ما هو أفضل وأسمى، لبدت هشاشة القول وخياليته واضحة للعيان. لكن الوضع عكس ذلك؛ ما يزال سقراط والشلة هم الآباء المؤسسون للفلسفة (أو للفلسفة الغربي، الأمر سيان) بلا نقاش.
من الضروري قبل مواصلة الثرثرة التفريق بين نوعين: المنتمون للغرب، والمُتَخَيّل انتماؤهم للغرب. ثمة من يعتبر نفسه غربيًا ويكتب عن غربه، مثل تشارلز تايلور وأنتوني جيدنز ونيال فيرغسون (كونهم جميعًا معاصرين إشارة للقارئ النبيه). وثمة من عاش وكتب ومات في الرقعة الجغرافية التي صارت تسمى لاحقًا بالغرب، وبالتالي صاروا غربيين بأثر رجعي. يمكن -تجاوزًا- اعتبار النوع الأول حقيقة تاريخية، وذلك من حيث تطابق الهوية والطرح. أما النوع الثاني فهو أسطورة أو بناء تاريخي، وذلك من حيث تباينهما.
طيب يا حسينزم، وبعدين؟ البعدين هو أن كل واحد منهما يرجح كفة مقاربته التاريخية الخاصة. تطابق الهوية والطرح يولي الأولوية للمقاربة التزامنية (synchronic) التي تربط الظاهرة بسياقاتها الآنية. أما تباينهما فهو يعطي الأهمية للمقاربة التعاقبية (diachronic)، وذلك بقراءة الظواهر عبر التحولات والتراكمات والتفسيرات اللاحقة.
مو واضح؟ طيب، كلاكيت ثاني مرة. حين نطالع النوع الأول ونقاربه تزامنيًا، يصبح شغلنا الشاغل تحليل سياقات الطرح. اسألني ليش؟ لأنك حمـ.... لأن تقويمنا لرصانة الطرح وأسسه مرهون بعلاقته بالواقع القابل للمقايسة. وهذا ما لا ينطبق على النوع الثاني والمقاربة التعاقبية، إذ ليس لسياقية الطرح تلك الأهمية، بل يستعاض عنها بمتخيل لسيرورة الزمن باتجاهات معلومة.
ربما عرفتم وين رايح. البناء التاريخي -من حيث تعريفه- مفروض على السجل التاريخي بعد انقضاء الحدث (كون السجل متخيلًا موضوع آخر). ولا أستخدم الفرض بمعنى سلبي. المهم هنا هو التسلسل المنطقي: المفهوم يسبق -منطقيًا- تاريخه.
على سبيل المثال، حين يقرر أحد الجلوس وكتابة تاريخ الأدب، فهو يدخل المعركة بتصور سالفٍ عن "الأدب". وكذلك تاريخ العلم. يأتي مفهوم العلم قبل تاريخه المدون. والشيء نفسه ينطبق بطبيعة الحال على الفلسفة. الإيمان بوجود تاريخ الفلسفة مسبوق بامتلاك تصور عن المجال وحدوده وخصائصه التي تميزه عن التاريخ أو الأدب أو العلم.
ومن هذا المنطلق أقول أن البدء بتواريخ الفلسفة ومداخلها إيغال في التصور المسبق، إيغال في الفلسفة بصفتها مجالًا معرفيًا يمازج ما بين مفكرين وموضوعات وأساليب كتابة محددة. تريد التأمل في الأدب؟ شطّور، لكن هذا داخل في نظرية الأدب، مو تبعنا. تريد التأمل في التاريخ؟ طيب ما رأيك أن تسميها فلسفة التاريخ؟ على الأقل نضمن أنك تجعل الفلسفة أرفع مكانة. تريد الدخول في معمعة الفلسفة ما غيرها؟ إذن خلك من الانشغال ببقية المجالات.
والنتائج المترتبة على هذا الموقف واضحة: يعتبر بعض الأشخاص "فلاسفة" لأنهم كتبوا في المواضيع الفلسفية بأسلوب فلسفي. الفيلسوف هو المتفلسف حول الفلسفي (الخدعة في الأمر أن كل مصطلح غير قابل للتعريف إلا بالرجوع إلى الآخرين). وأولئك الذين يودون الكتابة عن أسئلة مشابهة بأساليب مختلفة أو مقدمات مغايرة، فعلى راحتهم، لكنهم ليسوا داخل حلبة الفلسفة.
كل السطور أعلاه ثرثرة مجردة، غير كافية إطلاقًا لإثبات أن مفهوم الفلسفة الذي أتناوله حداثي وأوروبي المركز ومحدود الأفق. هذا سيكون موضوع الفقرات القادمة.
كائن لا تحتمل أوروبيته
سأبدأ بأربعة أمثلة سريعة. المثال الأول هو كتاب جورج هنري لويس التاريخ السِّيَري للفلسفة، المنشور عام ١٨٥٢. كما يوحي العنوان، يكتب لويس تاريخ الفلسفة (والتي يُعرّفها على أنها الميتافيزيقا، أو البحث في طبيعة الأشياء وعللها الأولى) من منظور سيرة حياة الفلاسفة. ويقسم لويس الكتاب لقسمين رئيسيين: يبدأ الأول من الفلاسفة قبل سقراط وصولًا للأفلاطونيين الجدد (من القرن السابع قبل الميلاد حتى القرن الخامس الميلادي)، ويبدأ القسم الثاني بقفزة إلى فرانسيس بيكون في القرن السادس عشر. ألف سنة من الصمت الفلسفي؟ هل توقف العالم عن التفكير عشرة قرون ولا وشو؟
أما المثال الثاني فهو كتاب تاريخ الفلسفة الغربية لبرتراند راسل، والمنشور عام ١٩٤٥. ينقسم الكتاب لثلاثة أجزاء: الفلسفة القديمة (وتطغى عليها اليونانية)، الفلسفة الكاثوليكية (تحية سريعة لمفكري العصور الوسطى)، بعدهما الفلسفة الحديثة مع عصر النهضة. صحيحٌ أن راسل يخصص فصلًا في جزء الفلسفة الكاثوليكية لـ "الثقافة والفلسفة المحمدية"، لكن مع ذلك تظل القصة الأساسية على حالها: جذور يونانية، ركود في العصور الوسطى، نهضة حديثة.
المثال الثالث هو كتاب تاريخ الفلسفة السياسية بتحرير ليو شتراوس وجوزيف كروبسي (١٩٨٧). تركيز الكتاب على الفكر السياسي لا يمنعه من سرد نفس النمط الكلاسيكي: يبدأ بثوسيديدس، أفلاطون، زينوفون، وأرسطو، ثم يمر عبر شيشرون، أوغسطين، الفارابي، توما الأكويني، وصولًا إلى لوثر، كالفن، غروتيوس، هوبز... إلخ. والرسالة الضمنية لم تتغير: تبدأ الفلسفة السياسية مع اليونان.
طيب، آخر مثال: كتاب تاريخ الفلسفة لأنثوني غريلينغ، المنشور عام ٢٠١٩. ينقسم الكتاب إلى خمسة فصول: الفلسفة القديمة، الفلسفة في العصور الوسطى وعصر النهضة، الفلسفة الحديثة، الفلسفة في القرن العشرين، وفصل خامس وحيد للفلسفة "غير الغربية" (والتي تشمل هنا الهندية والصينية والعربية/الفارسية والأفريقية). كأن الغرب أعطي أربعة أخماس الفلسفة وشارك البقية في الخامس.
يُفترَض أن الضرب في الميت حرام، لكن لا يضر ضربة أخيرة للعودة للزعم السابق: ما نسميه تاريخ الفلسفة بشكله الشائع مبني على مخيال تاريخي محدد، مخيال يفرض -بأثر رجعي- تعريفًا محددًا ويرتب الماضي وفق سردية تقدمية تحاكي قصة "الحضارة الغربية". إسقاط المفاهيم على الماضي، سواء من حيث الإيمان بمفاهيم كونية أو استقراء حركة التاريخ، ينتج بالضرورة قراءات مشوهة.
خذ مثلًا شتراوس وكروبسي، اللذان يقران في مقدمة كتابهما بأن ثوسيديدس لم يستخدم مصطلح "الفلسفة السياسية" ولم يطرح الأسئلة الميتافيزيقية المرتبطة عادةً به. سوى أن ذلك لا يمنعهما من إدراجه بيسر ضمن المتن الفلسفي السياسي، إذ أنه ملائم تمامًا للقالب الذي يفترضانه. تتكرر الحيلة ذاتها: بمجرد افتراض وجود مجال يدعى "الفلسفة السياسية"، وأن من سماته طرح الأسئلة الأزلية حول الجماعات والعلاقات الإنسانية، يصبح من السهل إسقاطه حتى على المفكرين الذين لم يسموه ولم يتحدثوا بمصطلحاته ولم يعتبروا أنفسهم جزءًا من تسلسله الزمني.
والإسقاط نفسه ينسحب على مفهوم الفلسفة ككل. كما نستنتج من الأمثلة الأربعة أعلاه، تبدأ القصة باليونان وتنتهي بالفكر الغربي الحديث، وما بينهما محض ملاحق وتفرعات. لاحظوا أيضًا أن القصة نفسها حتى لو خصّ العنوان موضوع كتابه بالفلسفة "الغربية". لحظة، ما أسمع زين، ماذا عن استخدام صيغة المفرد للإشارة للتاريخ كما لو أنه واحد أوحد؟ صحيح، هذا جزء من نفس المشكلة. ولذلك أقول أن الغرب المتخيَّل أصبح المالك الحصري للفلسفة، فارضًا سرديته على الماضي.
طيب، أقنعتنا يا حسينزم بالجوهر أوروبي المركز للفلسفة. ماذا عن حداثته؟
مفهوم حديث بأصداء قديمة
في معرض بحثي نصف المتواضع، لم أقع على تاريخ فلسفة (بالنسخة الحديثة) أقدم من كتاب جورجيوس هورنيوس، تاريخ الفلسفة في سبعة مجلدات، والذي بدأ نشره منتصف القرن السابع عشر (١٦٥٥ تحديدًا). أما المؤلف الذي يليه فهو التاريخ النقدي للفلسفة ليوهان بروكر، والمنشور عام ١٧٤٤. ليس اللافت في الأمر كون المؤلفين ألمانيين وحسب، بل انتماؤهما لفترة زمنية متقاربة. ليش؟ لأن كتابة تاريخ الفلسفة في هذه الفترة وثيقة الصلة بتبلور الفلسفة الحديثة كتخصص جامعي له حدود وأسلوبه وسلطته التحليلية.
لا يسعني المجال في التفصيل كثيرًا. نسختي الاختزالية ستخبركم أن التحول في مفهوم الفلسفة قد بلغ أشده في القرنين الثامن والتاسع عشر، وذلك من خلال صعود الجامعة البحثية الألمانية والنموذج الهمبولتي (نسبة لألكسندر فون هومبولت). ففي المؤسسات على شاكلة جامعة برلين، لم تعد الفلسفة محض ممارسة للذوات أو الحياة السعيدة، بل استحالت مجالًا بحثيًا ترعاه الدولة. بعبارة أخرى، صار للفلسفة كراسيها الأكاديمية وأقسامها الخاصة ومحاضراتها المنغلقة إن صح التعبير.
ويمكن مثلًا استحضار أشخاص مثل كانت وهيغل، واللذان كانا محوريين في نفس فترة التحول المعنية. إذا طالعتم كتاب نقد العقل المحض ولم تفهموا شيئًا (كحالي حين طالعته أول مرة)، فلا تلقوا باللائمة على جهلكم وقصوركم عن إدراك تجريديته، فهو مكتوب بالأسلوب الذي صار لاحقًا أسلوب الفلسفة المميز: كثيف وذاتي-الإحالة ومثقل بالحواشي والتصنيفات. والحال من بعضه عند هيغل: أسلوب ديالكتيكي يتشعب داخليًا في سبيل بناء منظومة فكرية شاملة ومطلقة.
ومجددًا، لم يكن الأمر محض صدفة. بدأت الجامعة الألمانية تدرب الفلاسفة ليكتبوا لفلاسفة آخرين وحسب (بانزياحات المفهوم الجديد)، لا للمواطن ولا للقارئ المتعلم ولا للطالب حتى. بل قد يصح القول بأن الأسلوب صار معيار الجدية؛ وضوح كتابتك وخلوها من المصطلحات الثقيلة (وكونها مفهومة لأكثر من عشرة أشخاص) يجعلها أقرب للصحافة أو الأدب، ويسقط كفاءتها الفلسفية في الوقت نفسه.
لا يعني ذلك أن الكتابة التأملية كانت قبل القرن الثامن عشر بالضرورة ملكًا مشاعًا أو ما أشبه، كلا. فضلًا عن شائكية موضوع الأمية ومن هم الطبقات القادرة على احتياز المعرفة وما أشبه، لآرثر ميلتزر كتاب رهيب في هذا السياق عن النزعة الباطنية في الكتابة الفلسفية، مفاده أن هنالك من الفلاسفة (قبل العصر الحديث ومطلعه) من مارس التقية في الكتابة خشية أن تقع آراؤه عند عبيد الكورة فيتهشتق. بعبارة أخرى، بدل استعراض أفكارهم -كتابيًا- بأسلوب برهاني صريح وواضح، يلجأ هؤلاء الفلاسفة لتضمين آرائهم فيما بين السطور عن طريق استخدام السخرية والترميز والعبارات المتناقضة والغامضة. والهدف من كل ذلك أن يصبح جوهر النص منغلقًا عن العامة، ومفتوحًا فقط للخاصة الممتلكين لزمام التفكير.
أيًّا كان، الجديد في الجامعة الألمانية أنها آوت هذه النخبوية، بحيث اكتسبت الفلسفة أدوار جديدة في تشييد الأنظمة (معرفية أم سياسية) واستخلاص النواميس الكونية وترسيخ المفاهيم. لحظة، وين شفت هالنزعة من قبل؟ تشييد النظام المعرفي والنواميس والمفاهيم؟ هل يعقل أن الفلسفة -حالها حال غيرها- تأثرت هي الأخرى بتعمق التخصصات والمنهجية العلمية وغيرها من العوامل التي وسعت الفجوة ما بين المعارف ومجالاتها وموضوعاتها؟ يعقل ونص. لا يمكن الحديث عن مفهوم الفلسفة الحديث دون التعريج على تبعات الانقسام التخصصي في الجامعة البحثية وتجزئته المعرفية للحياة. ولكن هذا موضوع خربوشة أخرى ربما.
كأني طولت شوي؟ آسف، باقي جزئية أخيرة.
طريقٌ بديل (لاحظوا، لم أقل "الطريق" البديل)
أظن أن حدود المفهوم التقليدي للفلسفة واضحة الآن. يختزل هذا المفهومُ الفلسفةَ بتصورها تاريخًا مبنيًا على محادثة داخلية حول ثيمات وموضوعات معينة وباستخدام أساليب منهجية محددة. ولولا أن أخذ المفهوم يحتكر الفكر والتفكير عمومًا لما تحلطمت بهذا الطول، لكن ما العمل؟
لحسن حظنا جميعًا، هناك مخرج من الأزمة. أو بالأحرى، هناك مخارج متعددة، على حسب أي المستويات تستهويكم.
ربما سمعتم مثلًا بالمقاربات ما بعد الاستعمارية، أو الديكولونيالية (أو التقويضية للاستعمار)، وهي المقاربات التي تنتقد الأسس المعرفية للفلسفة من منظور "الآخر" للغرب. أو ربما سمعتم عن المقاربات ما بعد الحداثية أو ما بعد البنيوية، والتي تشبه سابقتها في الغايات وتختلف معها من حيث أنها قادمة من "داخل" الغرب.
وربما اخترتم مقاربات "أصلانية" إن صحت التسمية، أي تلك التي تحاول التطهر من كل ما مسته يد الاستعمار الغربي واستئصاله من جذوره، مركزةً في الوقت نفسه على استعادة أنماط التفكير وأشكاله (ولغته) قبل تلوثها على يد الرجل الأبيض.
بل ربما اخترتم مقاربات راديكالية ومادية أخرى، كالماركسية أو الأناركية، أو مقاربات روحانية ودينية، كالإسلامية أو الكونفوشيوسية، أو مقاربات لا يدرك كنهها سوى خاصة الخاصة، كالكتبيولوجية.
كل هذه مداخل مشروعة بلا شك، ولا أعتزم التقليل هنا من مساهماتها الفكرية أيّا كانت مهما كانت قناعاتي الشخصية تجاهها. لكن بما أن أغلبها ينطوي تحت مظلة سياسات المعرفة، أو العلاقة ما بين الفكر وهرمية السلطة والإنتاج المعرفي، أردت الإشارة لطريق بديل قد لا يتطلب تلك القفزة الجذرية، لا سيما وأن هناك -مثلي وشرواي- من يميل لموضوعات لا تلامس بالضرورة كل تلك العوالم. هذا الطريق البديل هو تاريخ الفكر (Intellectual History).
قد لا يبدو الفرق بينه وبين الفلسفة (أو تاريخ الفلسفة) واضحًا للوهلة الأولى، بل هنالك أدبيات تستخدمهما كمترادفين. لكن ينبغي ألا يمنعنا ذلك من ملاحظة كيف أن التغيير الطفيف في الدلالة قد يؤدي لتغيير جسيم في المضمون.
يتجنب تاريخ الفكر أول فخ يقع فيه رواد الفلسفة، متمثلًا في افتراض ماهية مسبقة للمجال أو الموضوع. ذلك أن تاريخ الفكر لا يرتبط بالضرورة بأي تخصص أو موضوعات أو منهجيات أو سرديات، فهو يتبع "الفكر" أينما وكيفما وجد. وبالإضافة لذلك، تستبطن مفردة "فكر" وجود علاقة ما بين الفرد وتأمله، أي أنه يضع الثلاثي (مفكر، فكر، فكرة) تحت المنظار بكل مرحلة من مراحل تقصيه.
مثلًا، على خلاف تركيز الفلسفة على النصوص الجدلية أو التأملية المكتوبة على يد فلاسفة، يوسع تاريخ الفكر منظوره ليشمل الكتب المقدسة والرسائل العلمية والوثائق السياسية والفنون والأدب، والله أعلم ماذا نسيت أيضًا. لا يعني ذلك طبعًا أنه يتجاهل النصوص "الفلسفية"، بيد أنه يتعامل معها بصفتها شكلًا واحدًا من أشكال التفكير.
دعني أعيد صياغة الفكرة: يمتلك تاريخ الفكر القدرة على إعادة تعريف التفكير ذاته من خلال إقحام البُعد التاريخي. فحتى لو تناول نفس الأسئلة التي يتناولها "الفلاسفة"، نجده يوسع نطاقات طرحها. على سبيل المثال، حتى لو أشبع جون ستيوارت مل كتبه طرحًا عن الحرية، نجد تاريخ الفكر يمضي أبعد من ذلك: كيف كان معاصرو جون ستيوارت ميل يتصورون الحرية؟ هل يمكن ربط اختلافاتهم النظرية بانتماءاتهم السياسية المختلفة؟ وما علاقة مفهوم الحرية عندهم بمفاهيم أخرى، كالقانون والجسد والإله؟
طيب، هذا ستل من زاوية "فلسفية". ماذا عن الزوايا الأخرى؟ هل ثمة أشكال أخرى، كالأدب والمسرح، يمكن استقراء تعبيراتها حول الحرية؟ هل تفيدنا وثائق الزواج والطلاق إزاء تفشي أنماط مدنية من الحرية؟ وما الظروف التي أتاحت لجون ستيوارت مل استخدام مفردة قديمة بمعانٍ جديدة؟ وما الذي يخبرنا إياه ذلك عن تشكل اللغات الفصيحة؟
باختصار: يدعونا تاريخ الفكر لتجاوز حدود المفهوم التقليدي والتجوال في براري الفكر، حيث "الفكر" وليد الاستقراء لا التلقين. ولا أبالغ حين أقول أنه يدرب الذهن على مساءلة النصوص وغيرها من أشكال التعبير، وأنه يتطلب عقلًا منفتحًا على الأسئلة الدلالية والتاريخية والاجتماعية والاقتصادية (والنظرية طبعًا). بإصراره على التفكير تاريخيًا، يذكرنا تاريخ الفكر برحابة وتعدد العالم.
أمزح، ربما بالغت قليلًا. على أية حال، لا أقول أن تاريخ الفكر بريء تمامًا من نفس العلل التي أصابت تاريخ الفلسفة (أي المركزية الأوروبية والتصور الموضوعاتي والغائية). لكن انفتاحه المتجاوز لضيق أفق الفلسفة يجعله أكثر قدرة على تفادي العلل أو الخروج منها. في النهاية، لا أحد يحتاج إذنَ الغرب ليدخل ساحات الفكر كما يحتاجونها لدخول المتن الفلسفي.
لا أود الاسترسال أكثر في فضائل تاريخ الفكر ومميزاته، وسأكتفي بهذا الحد. لكن لئلا تكون القفلة الختامية بلا طائل، سأرفق بعض العناوين التي ساهمت في إعادة تشكيل تساؤلاتي حول الفكر حاضرًا وماضيًا، سواء اندرجت تحت تاريخ الفكر أم لا، علها تسهم في تجديد أسئلتكم:
العزيز أبو وافي
صباح الخير
نظرا لطول الخربوشة، فقد عاهدت نفسي أني إذا كلمتها، سوف أكافئها بغداء(كبسة لحم حاشي من مطعم قصر
،لبدة) وقد فعلت
لذلك
سوف أرسل لك قيمة نصف الفاتورة.
===
لدي تعليق ، مجرد تعليق ليس ردا أو رفضا للفكرة
في حديث للطيب أبو عزة
أن الأمم السابقة، كان لديها كتب تحتوى على محتوى منوع، آراء دينية، تصورات، معلومات فلكية، نظريات سياسية..مثلما وجد عند أفلاطون و أرسطو، لكن النخبة العلمية كانت تضن بها على العامة.
بخلاف اليونانيين..
الذين سمحوا بها للعلن، مما سهل البناء الفلسفي عليها..
قلت=إلى وقت قريب، كانت معظم الأراء الفلسفية، مجرد تعليق على ما ذكر في كتب افلاطون و أرسطو
أول كتاب نبهني إلى أشملية تاريخ الفكر هو كتاب بيار روزونفالون الليبيرالية الاقتصادية: تاريخ فكرة السوق (غير العنوان بعدها للرأسمالية اليوتوبية), حياتها فقط فهمت مدة عمق تاريخ الأفكار التي تهتم بعيد المواضيع المتداخلة وتركز على السياقات واحاول البحث عن الأسباب أو التعليلات الخاصة بالمؤرخ حسب معطيات مختلفة وعديدة، أحييك على خرابيشك المفيدة وفي انتظار المزيد،
تحياتي من مهندس ميكانيكي مهتم بالفكر والتاريخ وعلوم الإنسان ليس أكثر