تنويه: تحتوي الخربوشة على مشاهد غير لائقة لندف الثلج
تنويه #٢: تخلو السطور أدناه من الموضوعية واللباقة والحياد
تنويه #٣: الرجاء قراءة التنويهين أعلاه
تنويه #٤: صدق، حطوا ببالكم التنويهات السابقة أثناء القراءة
"فإذا كان لحديثي هذا فائدة، فهي تشجيع كل منا على أن يربط بين هذا الأمر المزعج أو المقلق وإحدى ركائز الحداثة كما أوضحناها. هذا اجتهاد مطلوب منا جميعًا. وعلينا أن نقوم به يوميًا دون مساعدة أحد، وإذا ما فعلنا ذلك، وخرجنا من الاختبار بنجاح، فعندها نكون قد عبرنا، ذهنيًا على الأقل، إلى هذه الحداثة"
ثمان سنوات وأكثر مذ بدأت قراءة "مشروع" عبدالله العروي النقدي، أو شرعت فيه وتوقفت بالأحرى. أكملت من كتبه مفهوم التاريخ ومفهوم الحريةوالآيديولوجيا العربية المعاصرة، ولم أكمل مفهوم العقل ولا مفهوم الآيديولوجيا. ونظرًا لما اعتبرته حينها طرحًا دسمًا رصينًا، خصوصًا بحضور استشهادات العروي المتكررة بالفلاسفة والوقائع التاريخية والمصطلحات الكبيرة، قلت أن معاودة قراءته في مرحلةٍ لاحقةٍ أكون فيها أفضل تأسيسًا معرفيًا قرار مثالي؛ آخر ما أريده هو قراءة ما لا أملك أدنى قدرة على تقويم طرحه، فما بالكم لو كان طرحًا نقديًا لمفكر مهم يستند على معارف متباينة المجالات والمنهجيات؟
وشاءت الصدفة أن وقعت قبل أسبوع على كتاب نقد المفاهيم، الصادر عن المركز الثقافي للكتاب عام ٢٠١٨. وجدتها فرصة سانحة لمعاودة قراءة مشروع العروي، لا سيما وأني انكببت في الأعوام الماضية على تأريخ الفكر ونقد المفاهيم من منظور تاريخي. يعلم بعضكم أني حصلت على الماجستير في تأريخ الفكر العولمي/Global Intellectual History عام ٢٠٢١ عن أطروحةٍ تتناول منهجية تأريخ الأفكار وإشكالياتها، متخذًا مفهوم الفردانية أنموذجًا (أذكر المعلومة لتخويف من سيرميني مباشرة بتهمة عدم الاختصاص أو غيرها من الخرابيط)، ولذا بدا بديهيًا البدء بأحد آخر كتب العروي التي تتناول موضوعًا ألم به على نحو جيد، أقلها على الصعيد المعرفي.
لو سئلت قبل قراءتي نقد المفاهيم عن رأيي في العروي، لذكرت الصورة الطيبة المتشكلة عن قراءة كتبه الأولى. ولذا آخر ما توقعته هو تحول رصانة العروي بذهني لإنشائية موغلة في الحماقة؛ كل ما اعتقدته بحثًا فاحصًا وملكةً نقدية مميزة استحال الآن صفصفة لأفكار ساذجة وآراء مجترة دون أدنى تمحيص أو تقويم. فجأة بدا اختيار مفرداته مضحكًا، كحين حديثه عن الردّة والتقدم اجتماعيين. وفجأة صارت أسسه المنهجية جوفاء، كاستبطانه مراحل حضارية حتمية ينبغي المرور بها. وفجأة انكشفت دعاويه الغبية، مثل مطالبته لنا(؟) باعتناق التأويلات اللاتاريخية التي تجرد ذواتنا(؟) من أي نقد مفاهيمي حقيقي. سأعود لعلامات الاستفهام لاحقًا.
وليس الأمر طبعًا اختلافي مع استنتاجات العروي أو قراءاته الفلسفية، وإلا عزوت ذلك لتباين الاهتمام المعرفي واستخلصت من نقده المفاهيمي ما يثري منظوري الشخصي. بعبارة أخرى، لا مشكلة لو اقتصر الأمر على رفض منهجية طرحه أو نوعية استشهاداته، حيث تظل هناك مساحةٌ كافية لبحث نقاط الالتقاء في الشغل المعرفي ككل. ولكن الأمر أعوص من ذلك، إذ ينبني على إشكالات كامنة في بنية الطرح عمومًا، على إشكالات تتولد عن الإطار الحداثي الذي يتبناه العروي صراحة وضمنًا. ولذا، في النهاية، رغم زعم العنوان احتواء الطرح نقدًا مفاهيميًا (ومن منظور تاريخي تحديدًا كما تشير المقدمة)، لا يعدو الكتاب كونه نسخًا تلفيقيًا يكرس كل ما يدعي نقده، ويؤدلج كل ما يدعي مساءلته.
بعد هذه المقدمة التنفيسية، حان وقت الخوض في هرائيات الكتاب، أو بعضها على الأقل. حين كتبت المسودة الأولى للخربوشة، اخترت ثلاث ملاحظات تستشري في فصول الكتاب كافة. هناك أولًا تصور العروي المرحلي/التطوري للتاريخ، متجليًا في إيمانه بحتمية التطور نحو أشكال ومفاهيم معينة للتنظيم الاجتماعي. وهناك ثانيًا موقفه من العلوم الإنسانية والاجتماعية، والذي يفسر الكيفية التي يعالج بها الظواهر ويمايز بينها. وهناك ثالثًا تأليهه للفلسفة الغربية، والذي يجعله يستخدم مقولات وموضوعات المفكرين -قديمًا وحديثًا- حجةً دامغةً في تأويل الوجود الإنساني. وقد اخترت هذه الملاحظات الثلاث من باب أنها تكشف مدى افتقار طرح العروي للنقد المفاهيمي عمومًا، تاريخيًا كان أم فلسفيًا. ولكن حين شارفت على الانتهاء من كتابة تعقيبي على الملاحظة الأولى فقط، تجاوز عدد كلمات الخربوشة ألفين كلمة. وهنا وجدتني أتساءل: هي يستحق طرح العروي فعلًا إفراد ما يستهلك المزيد من وقتي وبطارية لابتوبي؟ والجواب بطبيعة الحال كان بالنفي. ولذا عدلت عن الإسهاب في الملاحظتين الأخيرتين، مكتفيًا بإشارة سريعة لمغبات تبني الإطار الحداثي على توظيف العلوم الإنسانية والاجتماعية وعلى منهجية استشهادات العروي.
ثمة ما ينبغي البدء به قبل كل شيء. رغم ما ستنضح به السطور القادمة من تنفيسٍ، يظل هاجسي الرئيسي متمحورًا حول افتقار الكتاب لأي شكل من أشكال النقد المفاهيمي. سأحسن الظن وآخذ النقد هنا بمعناه العام جدًا: التقويم؛ نقد الشيء يعني تقويمه، يعني فحص وتمحيص مكونات الشيء والعلائق بينها من حيث ارتباطها بأغراضٍ معينة، معلنة كانت أم مبطنة. بإمكاني مثلًا نقد تكتيك جيرارد من باب عجزه عن تسجيل الأهداف وعن تحقيق الفوز، إضافةً لوضعه للفريق في مركز قريب من مراكز الهبوط. لكن لو كان الغرض من تكتيكه هو العقم التهديفي وخسارة النقاط، فالحقيقة أنه ناجح تمامًا، ولن يكون نقدي في محله. إذن، يختلف سؤال النقد تباعًا لاختلاف الغرض. وهذا ما يجعل تحديد النقد بالمفاهيمي مرهونًا بتحقق هذا التقويم على مستوى المفاهيم.
بالإمكان مبدئيًا قبول دعوى العروي بوجود نقدين مفاهيميين، فلسفي وتاريخي. في النقد الفلسفي الصرف، أي ذلك الغارق في التصورات المثالية وعالم الفكر المتجرد من الواقع، يتمحور التقويم حول تمحيص العلاقة بين أسس الأطروحة ونتائجها، وحول رصانة المفاهيم الثانوية (ثانوية قياسًا على هرمية المفهوم المنقود) المستخدمة في تدعيم الطرح، وربما حول المنطق الجامع لكل ذلك. وليست هنالك إشكالية بالضرورة في التركيز على الجانب الفلسفي أو النظري وحده، إلا إذا انطلق الباحث من إيمان فعلي بانفصال عالم الأفكار عن الواقع (هناك من يحب استخدام praxisهنا، مثل العروي، وسأستخدمها فقط للتذكير باستحالة الانفصال بينهما حتى نظريًا). المهم أن النقد الفلسفي ممكن ومقبول.
وبشكل مشابه، يتمحور النقد المفاهيمي التاريخي حول سياقات إنتاج المفهوم وحيثيات (إهداء لحسين الضو) استخداماته وكيفية تصور تغيراته وانزياحاته. بما أن الاشتراك في اللفظ لا يعني الاشتراك في المعاني ولا تجرد المفهوم من سياقات استخدماته التاريخية، ينكبّ النقد التاريخي الصرف للمفهوم على السياقات الأفقية: من هو منتج الفكر؟ متى وأين عاش؟ وفي أي سياق يدور طرحه؟ وكيف صاغه؟ وما علته؟ من الجلي أن هذا النوع من الأسئلة يتطلب من الباحث الخوض رأسًا في التأويل التاريخي، الذي يتطلب بدوره القدرة على تمحيص السرديات التاريخية (historical) والتأريخية (historiographical) (لا شك في عمق هذه الفكرة طالما حضرت فيها المصطلحات الإنجليزية). من شأن هذا التمحيص تسليط الضوء على ما يتعالق بالمفهوم من سياقات تبلوره.
قد يعترض قارئ نبيه قائلًا أني تطرقت لأنواع النقد المفاهيمي دون تبيان "المفهوم" أصلًا. فبما أن العروي استخدم لعنوان كتابه مفردة "المفاهيم"، وبما أني بنيت اعتراضاتي حولها، فلا شك وأن كلانا يمتلك تصورًا محددًا عن المفهوم، تصورًا يمايز ولو جزئيًا بين المفهوم و الفكرة أو الفلسفة أو المقولة. وهذا الاعتراض مشروع تمامًا، وأشكر القارئ على تنبيهي عليه. والحقيقة أن تحديد ما يقصده العروي بـ "المفهوم" صعبٌ قليلًا، إذ لا يصرح في الكتاب بأي تصور عنه؛ نجده يستخدم مفاهيم متعددة ويزعم نقدها، مثل العلمانية والموضوعية والمجتمع والتحديث، ولكنه لا يخضع "مفاهيميتها" للتساؤل إطلاقًا. بعبارة أخرى، ينطلق العروي من كون المفهوم مقولة طبيعية، من كونه دالة أساسية مجردةً من التجربة التاريخية والسياقات الاجتماعية والخطابية، أي من كونه كونيًا ومطلقًا.
لكن لئلا أقع في الإشكال نفسه، يستوجب علي توضيح انطلاقي من كون المفهوم وحدة خطاب وتحليل، أي أنه ينضح بالمعاني الموظفة في تأويل الظواهر وفقًا لتوليفة معينة من العناصر الأفكارية. أعرف أن التصور ليس واضحًا، ولكن لسوء حظكم أني لا أنوي الإسهاب في توضيحه. المهم عندي أن المفهوم ذو قدرة تأويلية عطفًا على مكوّناته الفكرية. حين أستخدم مثلًا مفهوم "الفردانية" في قراءة ظاهرة اجتماعية ما، فاستخدامي يعني بالضرورة انطلاقي من تصورات محددة حول العلاقة بين مفاهيم أخرى كالفرد والمجتمع والمواطنة والحقوق والذات، ومن معانٍ محددة حول تطبيق الفردانية على الظاهرة الاجتماعية من بين غيرها. ولو تجاهلت التجارب التاريخية المشكلة للمفهوم -كما يفعل العروي-، لما احتجت لمساءلة استخدام الفردانية في تحليل ظواهر تنتمي لحقب سابقة تسبق ظهور المفهوم في الخطاب العام، مما يعني انطلاقي من كونية المفهوم وصلاحيته لكل الأزمنة والأمكنة.
وهذه الجملة الأخيرة سهلة التلافي، نظريًا على الأقل. كل ما علينا هو وضع المفهوم تحت مجهر التاريخ. بمجرد إقحام البعد التاريخي، بمجرد إدخال التجارب الاجتماعية والسياسية في تشكيل متن المفهوم وتعريفه، سنجد أنفسنا مدفوعين إلى تقصي ظهوره التاريخي كمفهوم أولًا، وتحليل محتوياته الفكرية ثانيًا، ومساءلة حدود استخداماته ثالثًا. وبالتالي لا مفر من بحث دخول الفردانية في الخطاب الفكري العام مطلع القرن التاسع عشر، وتقصي فوارق مضامينها عند منظريها (لستيڤن لوكس مقالة مثيرة للاهتمام حول معاني الفردانية في فرنسا وألمانيا وإنجلترا)، وترسيم حدودها التأويلية زمانيًا، بل وأيضًا بحث الانزياحات الناجمة عن تناول "تقاليد" فكرية أو تعبيرات خطابية مغايرة. ففي نفس الوقت الذي دارت فيه جدالات الفردانية وعلاقتها بالجماعاتية أو الاشتراكية عند بعض المنظرين في ألمانيا وإنجلترا، كانت هناك تعبيرات أخرى عن العلائق بينها على المستويين الثقافي والأدبي. فحتى لو حاول البعض تأريخ الفردانية من خلال تعريفها بالامتيازات الاقتصادية (آلان مكفارلن)، أو من حاول تتبع تاريخ "الذات" في المتن الفلسفي الغربي (تشارلز تايلور)، هنالك من صاغ العلاقة بين الفرد والمجتمع روائيًا على ضوء تقاطعات طبقية وذاتية(آلبيرتو بليست غانا)، أو على ضوء التباين الناجم عن حضور المستعمر وزعزعة امتيازات إقطاعية (محمد حسين هيكل).
لا أود الإطالة في ذلك. الشاهد من كل هذه الثرثرة هو أن المفهوم وحدة خطابية-تحليلية تشتمل على الأبعاد التاريخية وتمتلك إمكانيات تأويلية. وبالتالي لا مناص من مساءلة تاريخانية المفهوم في معرض نقده. وهذا ما يغيب عن طرح العروي عمومًا في نقد المفاهيم. فلا هو يبحث تشكّل المفهوم بصفته مفهومًا (أي باختلافه عن أي مفردة أخرى)، ولا هو يعرف أبجديات النقد الفلسفي والتاريخي للمفاهيم التي يستعملها. وحتى تلك العبارات البراقة للوهلة الأولى يتضح في نهاية المطاف كونها مجترة دون تمحيص.
تصور العروي المرحلي/التطوري للتاريخ
قد يكون مصطلح "التصور المرحلي" واضحًا، إذ يشير في معناه العام لامتلاك التاريخ مراحل زمنية متعاقبة وخطية. ولكن يجب ألا يؤدي هذا الوضوح الظاهري لتجاهل الإشكالات الخطيرة للتبشير بالمصطلح. يستبطن التصور المرحلي شكلًا من أشكال تقديس التاريخ، أو اعتباره كينونةً متعالية فاعلةً بالأحرى. فالتاريخ هنا فاعلٌ يتضمن منطقه الخاص، جارفًا مع حركته البشرية جمعاء باتجاه غاية ما. ومن الضروري التنويه على كون تمرحل التاريخ هنا شاملًا للبشرية ومطلقًا على جميع الأصعدة، غير مقتصر على التوصيف المحدود زمانيًا أو مكانيًا أو اجتماعيًا.
تتفاقم الإشكاليات حينما يقترن هذا التصور المرحلي بنزعة تطورية، أي بافتراض أن كل مرحلة "أفضل" من سابقيها. هناك فرق بين وصف انتقال المجتمع من مرحلة ما-قبل-الدولة إلى مرحلة الدولة الحديثة، وبين الزعم بأن هذا الانتقال يعني كذلك تطورًا في البشرية وذهنياتهم؛ يحضر حكم القيمة في القول الثاني ويغيب عن الأول، وتُستَبدل فكرتا التزامن والتغير بالتعاقب والترقي. وفي الوقت نفسه، اقتران التصور المرحلي بالنزعة التطورية يعني قراءة الظواهر على ضوء "مثالٍ" لما هو أسمى وينبغي السعي إليه، وبذا تترتّب المجتمعات البشرية وفق مدى بلوغها لهذا المثال.
هذا التصور التطوري وحده ما يشرعن استخدام التقدم والتخلف ومرادفاتها في وصف المجتمعات البشرية، إذ لا تقوم المفردات إلا بافتراض وجود نقطة مرجعية يُقاس عليها حال المجتمع. فمثلما أن سيري للأمام أو الخلف أو التقدم أو التأخر مرهونٌ بوجهتي واتجاهي (بمعنى مكانيّ)، فكذلك حال المجتمع الموصوف يقاس وفقًا لتصور معين حول النقطة المرجعية التي يتمرحل من خلالها التاريخ. كل الخطابات التي تستخدم "الحداثة" لتحليل الظواهر الاجتماعية أو السياسية تستبطن هذا المنظور التطوري، والذي يمايز بدوره ما بين التقليدي والحديث، ما بين القديم والجديد، ما بين المتقدم والمتخلف عن ركب الحداثة. وهذا جوهر كل طرح حداثي: تحويل الاختلافات الاجتماعية والثقافية والسياسية إلى اختلافات "تاريخية"، بمعنى إعادة تعريف التغاير المتزامن وفقًا لخط زمني تصاعدي يقبع "الغرب" في طليعته.
يحضر هذا الأساس في كتاب العروي من بدايته لنهايته. فلنأخذ الاقتباسات التالية، وسأكثّر منها لئلا أثقل بقية المقالة بالتفاهات. وأنبه تحديدًا على الكلمات التي وضعت تحتها خطًا:
"لا يكفي أن نستخلص مفهوم علم المجتمع مما نعرف نحن في تجربتنا اليومية بل لا بد لنا من استقراء ما توحي به هياكل الجامعة في الدول المتقدمة" ص٢٥
"عاصر مونتسكيو تقدم شعوب أوروبا المسيحية، والشعب الإنجليزي بخاصة، وتراجع الأمم الآسيوية المنضوية تحت لواء إمبراطوريات شاسعة: العثمانية والصفوية والمغولية والصينية" ص٢٨
"أقول إذن أن ابن خلدون في الوقت الذي قرر فيه اعتماد المقارنة اهتدى إلى تأسيس علم العمران، ويحق له أن يفتخر بذلك الإنجاز، لكن عندما اكتفى بالمتاح له من المقارنة فإنه لم يفعل سوى التنظير لمرحلة معينة من حياة المجتمعات وهي مرحلة الانتقال من البداوة إلى الحضارة" ص٣٢
"نسمع هذه الأيام شعارات كثيرة تمثل كلها ردة على ما يعتبر من صلب الحداثة" ص٤٢
"الداعي هو العقل الجديد الناتج عما سمي بالثورة العلمية أثناء القرن السابع عشر والتي كان غليليو أحد أعلامها" ص٤٩
"أوضح مثال على هذه الردة نجده عند الروائي الروسي فيودور دويتويفسكي" ص٥٧
"التطور الذي تم في أوروبا الغربية والمطلوب تعميمه على سائر المعمورة لا يخدم الحق والعدل في نظر دوستويفسكي" ص٥٨
"ونفس التطور المعاكس، أو الانتكاس، نلاحظه في مجال الكتابة التاريخية" ص٥٩
"بمجرد أن تضعف، لسبب ما، تلك القناعة، تعود بقوة ذهنية الماضي التي لا تقنع إلا بشهادة البشر على الأحياء والأموات" ص٦١
"عندنا من جانب مفهوم معياري، ناتج عن تحليل بالغ التجريد، ومن جانب آخر تجسيدات تختلف من طور لآخر من تاريخ الإنسانية" ص٨٨
"لا يستطيع أحد، مهما بلغ تعلقه بالخصوصية الحضارية، أن ينكر أن عرب اليوم، رغم الأمية والفقر والتمايز الاجتماعي، أقرب إلى نمط العيش الغربي منهم إلى عوائد الشرق التقليدي" ص١١٤
"قلنا أن التأخر ليس اقتصاديًا أو علميًا أو تقنيًا بقدر ما هو اجتماعي بالمعنى الضيق" ص١٢٩
"المهم اليوم ليس المضمون [...] بقدر ما هو الموقف المعرفي والأخلاقي، الإيمان بإمكانية وضرورة الترقي" ص١٣٠
"إذن، الحداثة ما هي؟ هي واقع تاريخي، ومفهوم مستنبط" ص١٣٤
"طوال عقود، بل قرون، والحداثة تتكون بالتدريج" ص١٣٨
تتشارك جميع هذه الاقتباسات انبناءها على أفضلية الحداثة الغربية بجميع مضامينها، سياسية واجتماعية وفكرية. وفوق ذلك، وفقًا للعروي، بمجرد أن دخلت الحداثة على العالم (أتذكر مثقفًا كبيرًا يقول أيضًا بدخول الحداثة على المجتمعات بحيث تصبح لها حكاية، من يا ترى؟)، صرنا إما تقدميين أو متخلفين، وذلك قياسًا على شكل تنظيمنا السياسي ومجموعة معتقداتنا وعلاقاتنا كأفراد مجتمع ودولة.
كل ما يعتقد العروي أنه "يخالف" الحداثة محكوم عليه بالتخلف وبالرجعية والماضوية. وفي الوقت نفسه، تباعًا للإطار الحداثي الذي يتبناه، نجد تشخيصه للمشاكل قائمًا على ما يندرج عادة على أنه عقبة في طريق الوصول لحال اجتماعي يطابق ما وصله الغرب. ولذا يتحدث عن الإصلاح وهو يقصد الإصلاح المؤدي للحداثة، ويندب حال العلوم الاجتماعية لدى العرب قياسًا على منزلتها في الجامعات الغربية، ويتناول قصور النهضة العربية في إحداث أثر مشابه لما يعتقد أن النهضة الأوروبية أحدثته، وينتقد الوعي العربي من حيث كونه عائقًا في طريق التحديث وبلوغ وعي علمي موضوعي مثمر.
بإمكاني إرفاق عشرات الاستشهادات الأخرى التي تدعم وجهة نظري من الكتاب، ولكن الضرب في الميت حرام. ولذا سأنتقل للنقطة التالية بسؤال سريع: ما عواقب تبني هذا الإطار على تصور العروي للعلوم وعلى استشهاداته؟
هل يدرك التابع تبعيته؟
تشتمل بعض الاقتباسات أعلاه آلريدي على تقديم منهجية العلوم الإنسانية والاجتماعية على سواها من سبل الإنتاج المعرفي. كلما انزنق العروي، لجأ لتسمية طرحه بالعلمي والموضوعي استنادًا على ما تقول به الأدبيات الأكاديمية في هذه المجالات. ففي الفصل الأول مثلًا، وعنوانه "الفلسفة وعلم الكلام"، يطابق ما بين النسق الغربي (طوما الأكويني-ديكارت-نيوتن) وما يحضر في "عالمنا الإسلامي" في المشرق (الأشعري-ابن سينا-الطوسي) وفي المغرب (ابن حزم-ابن رشد- ابن خلدون). ويقول "إن البحث التاريخي، بمناهجه المختلفة المستنبطة من تدني العلوم التجريبية المستحدثة، يفرض علينا الحقيقة التالية: وجود إنتاج فكري غزير سابق على التيولوجيا"، ويقول "المنطق إذن هو نتيجة التطور، فيما يهمنا هنا، العلم الموضوعي. في كل مسألة، كبيرة كانت أو حقيرة، لا بد أن ننطلق مما يقول العلم الموضوعي"، ويؤكد أنه يغلو أحيانًا بقول أنه "لا يوجد اليوم إلا شغلان جديدان: العلم والخيال العلمي". هذا غير ما تنضح به الفصول اللاحقة من اعتناق لنماذج الفكر الغربي وتبنٍّ تام لقراءاتها للتاريخ البشري وتمرحله وتطوره، والتوكيد على أن "ما يميز رائد علوم المجتمع، أيا كان، هو موقف معرفي ينعت عادة بالموضوعية، أي اعتبار الموصوف من البدء خارج الذات، غير خاضع لأوامرها"، ولوم الباحث العربي على جهله باللغات الأجنبية، الجهل الذي يجعله عاجزًا عن الاتصال المباشر بـ"أمهات الفكر الحديث".
هذا النمط من قولبة المعرفة وتقسيمها استنساخ تام للصورة المثالية (الوهمية بطبيعة الحال) للعلوم الإنسانية والاجتماعية. فكرة أن الباحث مستقل عن موضوع بحثه، وأنه قادر على ملاحظة الظواهر وتحليلها باستخدام مصطلحات تلك العلوم دون تمحيص، بل والانطلاق من أولويتها التحليلية والتأويلية لكل شاردة وواردة، هل يمكن تسميتها بغير الخضوع لما يقره الغربي والانقياد وراءه انقيادًا أعمى؟
سأزيد الطين بلة بالاقتباس الآتي:
"كثيرًا ما نسمع أن هذا المفكر أو ذاك كان أحد رواد علم الاجتماع. المتخصص في الآداب اليونانية يرشح توقديد ومؤرخ العهد الحديث يرشح ماكياڤلي أو مونتسكيو أو هردرد ودارس الإسلاميات يرشح بالطبع ابن خلدون. والقائمة مفتوحة لأسماء من الهند أو الصين أو اليابان، نجهل عنها كل شيء إلى الآن"
من "نحن" الجهلة؟ يستخدم العروي ضمير الجمع منذ بداية الكتاب، ولا يتضح دائمًا ما إن كان يقصد نحن العرب أم يوجه خطابه لمجايليه من المغاربة (كما فعل حين تحدث عن ارتقاء الفرد المغربي ص٨٠، وعن الدستور المغربي ص١٠٢-١٠٣). ولكن بغض النظر، يفترض العروي أنه جزء من هؤلاء الـ "نحن" الجهلة بالهند والصين واليابان، الأمر الذي -يا للصدفة- يتطابق تمامًا مع "جهل" الأدبيات الأكاديمية الغربية التي يستشهد بها. بعبارة أخرى، حين يصف العروي جهله، فهو ينطلق رأسًا من الغياب المنهجي لكل ما لا يندرج تحت أسس الفكر الغربي. كل نظريات العلوم الإنسانية والاجتماعية التي يستشهد بها العروي مأخوذة من مفكرين "غربيين"، وكلها تستبطن تجربة غرب أوروبا أنموذجًا لما ينبغي على جميع الشعوب أن تسلكه. وبالتالي، ليس الجهل جهلًا بمعنى عدم المعرفة، بل هو لا-إمكانية المعرفة أساسًا، إذ المعرفة هنا غربية، وكل ما لا يندرج وفق تعريفاتها خارج بالضرورة من نطاق المعرفة.
ولو قلنا أن إيلاء العلوم الإنسانية والاجتماعية أهميةً مقبولٌ طالما استطاع الباحث تقديم مادة معرفية رصينة، سندخل في متاهة نقد منهجيات هذه العلوم وحدودها. كتبت خربوشة من ثلاثة أجزاء تسلط الضوء على الإطار المعرفي وعلاقته بالتأطير الأكاديمي، فالله يعين المهتمّ أو المعترض لقراءتها.
هذا كله جانبٍ أول. من جانب آخر، إذا ما أردت العودة لاستشهادات العروي، يمكن للقارئ ملاحظة نمطين مقلقين. أولًا، في كل مرة يروي العروي تاريخًا ما، سواء كان تحولات الكنيسة في الغرب، أو التغيرات التي أدت لظهور العلوم الاجتماعية، أو سيرورة تبلور المفاهيم، لن يجد القارئ أي مصدر يقرأ سردية العروي على ضوئه؛ كل السرد إنشائي بلا مصادر تدعمه سوى "ثق بي يا أخاه". ولا يعني ذلك أني أتجاهل أي طرح تأريخي غير مدعم بالمصادر، خصوصًا في كتاب قصير مثل نقد المفاهيم هدفه الرئيسي (حسبما يبدو) تقويم نظريٌّ بحت. لكن تعرفون أين تكمن الإشكالية العويصة؟ في أن العروي لا يبحث التاريخ الذي يستشهد به ولا ينقده، بل يتلقاه ويحكيه.
في الفصل الثالث، يقارن العروي ما بين مهام المؤرخ والقاضي. وجه الشبه لديه هو أن القاضي يتوخي وقوع الجريمة وإقرار المجرم، ويتتبع المؤرخ الرواية من أجل تصحيحها أو تضعيفها. وخلال نفس الفصل، نجد العروي مشغولًا فعلًا بما إذا كانت الحادثة التاريخية التي يذكرها قد حدثت فعلًا، أي أن وظيفة المؤرخ لديه متمحورة بشكل رئيس حول إثبات التاريخ من نفيه. ومصداق ذلك ما يقوله في ص٩٦ عن ضرورة "الاحتكام إلى التاريخ" من أجل البت في مفهوم السلطة بالتاريخ الإسلامي. ولا إشكال في اعتناقه لهذا المبدأ طالما ظل متسقًا، ويمكن تفسير سرده التاريخي المفتقر للمراجع من باب اعتقاده بعدم حاجة ذلك، إذ المهم لديه أن ذلك حدث وكان الله غفورًا رحيمًا.
ولكن الحلو ما يكمل. في ص١٣٦، يقول العروي باستحالة تلمس الواقع التاريخي مباشرة، ولا مناص من نقله عن المؤرخين. هلكيف؟ لو كان يؤمن فعلًا بأن كل تأريخ سرديةٍ لما طرح سردياته بهذا الاختزال الساذج، لما قفز عبر القرون والأزمنة والحوادث كما لو أن المهم هو كونها قد حدثت أم لا. القول بسردية التاريخ يعني إخضاعه للتمحيص الخطابي، أو القدرة أقلًّا على تقليب وتقويم السرديات من مناظير مختلفة. لكن هل تعرفون من الذي يعتقد بقدسية الماضي والنصوص الموصلة إليه، متحاشيًا كل ما يتعلق بمساءلة شرعية السردية بحد ذاتها؟ أترك لكم مجال التخمين.
خلصتُ من النمط الأول في استشهادات العروي. النمط الثاني مركّب ومتشعب، ولا أعرف مدى استطاعتي الإحاطة بكل مزالقه أصلًا. فلنأخذ الاقتباس التالي مثالًا:
"واضح مما سبق أن مفهوم المواطنة التامة الكاملة المضمن في الوثائق الأمريكية والفرنسية، التي حررت أواخر القرن الثامن عشر، يتجاوب مع تحليلات روسو. أما الوثائق الإنجليزية، التي تتابعت من القرن الثالث عشر إلى القرن السابع عشر، فإنها تعتمد مبادئ مخالفة كما أوضحنا ذلك" ص٧٩
لست ملمًا على الإطلاق بتاريخ تلك البقاع، وسأحسن الظن في العروي بشكل بسيط وأقول أنه ملم ومطلع وفاهم وأحسن واحد. ومع ذلك، لا أجد بدًا من طرح سؤال يحيرني: ما معنى الوثائق "الإنجليزية"؟ يدرك قارئ اليوم ولو بشكل بسيط ما تعنيه المفردة، لأنه يربط ما بينها وبين دولة اسمها إنجلترا. لكن هذا الإدراك مرتبط فعلًا بدولة إنجلترا، بالكيان السياسي-القومي الحديث المسمى إنجلترا، والذي بدوره يستبطن تصورًا محددًا عن "جوهر" الثقافة الإنجليزية الكامنة دومًا في بقعة جغرافية محددة. فبأي حق يسحب العروي هذا التصور على القرن الثالث عشر؟ يعني، لو أخذت مثالًا أربع خرائط عشوائية ما بين القرنين الثالث عشر والسابع عشر لنفس البقعة التي صارت إنجلترا والمملكة المتحدة، ستكون كالتالي:
فمتى بالضبط يحق إطلاق وصف الإنجليزي (تقريريًا، كما يفعل العروي)؟ ومن هم المخولون ليكونوا جزءًا من جوهر الفلسفة الإنجليزية دون الإيرلندية أو الإسكوتلندية أو غيرها؟ هل ينطبق وصف "الإنجليزية" على ما أنتجته طبقة الهنود التي تعلمت في النظام التعليمي الاستعماري؟ أم أن اللغة شرط وحيد ضمن مجموعة شروط تصوغ الهوية الثقافية الإنجليزية؟
سيعود نفس القارئ النبيه أعلاه ليقول أني انتقائي وأن العروي حتمًا لا يقصد تشييء الهوية الإنجليزية ولا جعلها متسامية عن التاريخ. ومجددًا سأشكر القارئ النبيه، لأن هذا المثال فعلًا غير كاف للجزم حيال ذلك. ولكن حين أضعه في سياق تبعية العروي لتاريخ الفلسفة الغربية، أي تلك السردية التي تجعله يتحدث عن أمهات الفكر ويستشهد بأرسطو في نفس الجملة التي يورد فيها من منظور كانط وروسو وهيجل، ويضع أفلاطون إلى جوار سبينوزا وماركس، وحين أذكّر القارئ بتشييء العروي للثقافة "العربية الإسلامية" ولأوروبا وللغرب بحيث تصبح كلًا منها هوية عرقية تعبر دومًا عن مضمون ثقافي راسخ، يصبح موقف العروي أصعب قليلًا.
ثمة العديد من الشخابيط المتنرفزة في هوامش نسختي من نقد المفاهيم. ولو كنت أفضى وقتًا، لألحقتها بالخربوشة كي تنغثون كما انغثيت. لكن الله كريم.