هذا الجزء الثالث (والأخير) من ثلاثية خربوشاتية. في الجزء الأول تكلمت بشكل عام عن الفرق بين جوهرنة المفاهيم وعلائقيتها عشان أبين بعض إشكالات اعتبارها متسامية. وفي الجزء الثاني تكلمت عن السياق الخطابي والسياق التاريخي كمدخل لمساءلة المفاهيم ضمن الروابط اللي بينها وبين عناصر ثانية. فالسؤال الحين: وش دخل كل هذا بالموضوع الأصلي عن النقد الإطاري؟
إذا تتذكرون، كنت أقول في الجزء الأول إنه التأطير من الأولويات اللي تشغلني في قراءة أي عمل "فكري"، وإني أحيانًا ما أهتم بمدى صحة النتائج (منطقيًا) لأنه الإطار اللي انحطت فيه ما هو منطقي أو مشروع بالنسبة لي. الحين جاء الوقت اللي أشرح فيه وش أقصد. ومعليش، بأفترض إنكم قرأتون الجزئين اللي طافوا عشان لا أعيد نفسي في تفاصيل العلائقية والسياقية. ولازم أنوه إني ما قرأت توماس كون ولا بنية الثورات العلمية، ولا أعرف -وولا أهتم- إذا استخدم الإطار بنفس التصور أو لا. زيما ذكرت سابقًا، قراءتي هني مبنية على انشغالاتي في تأريخ الفكر العولمي خلال السنوات الأخيرة، وتوماس ما كان جزء من هذا الانشغال.
بادئًا ذي بدء، وشو هو الإطار المعني هني؟ أكيد ما أحد راح باله إني أقصد الفريم حق الصور والشهادات واللوحات، حتى لو استخدمت هالمثال قبل. وواضح إني أتكلم عن إطار "نظري". بس ستل، وشو هو هالإطار؟ بأبسط تعريف، الإطار النظري هو الهيكل اللي يحكم مجموعة من المفاهيم أو العناصر ويقرر كيفية ارتباطها. ما عندي صورة تقريبية صراحة. يمكن تقدرون تتخيلون هيكل بناء فعلي؟ نفس الفكرة.
لاحظوا إنه فيه حاجتين مهمتين: الإحكام وكيفية الارتباط. الإطار يحكم مجموعة المفاهيم/العناصر لأنه يفصلها -نظريًا- عن مفاهيم وعناصر ثانية. وبنفس الوقت اللي الإطار يقوم بعملية الفصل هذي، فهو أيضًا يقرر كيف العناصر الداخلة فيه ترتبط ببعضها البعض. أقدر أكتب ألف سطر أحاول أشرح الفكرة باستخدام أمثلة من نصوص وكتّاب مختلفين، بس هذا بيضيعني في تفاصيل مو وقتها الحين. ولأنه الرسم بالنسبة لي أسهل، فبأرسم، تحملوني.
خل نفترض إنه الحالة القبل-إطارية تكون بهالشكل، بحيث كل نقطة تمثل مفهوم أو عنصر عمومًا:
في هذي الحالة، العناصر تمتلك قابلية إنها تؤطر بأي إطار وأي توليفة، ولسه ما فيه شيء يقرر عليها كيف ترتبط ببعضها. لكن وقتما انوجد الإطار، فاللي بيسويه هو إنه بيأخذ مجموعة من العناصر ويضمها تحت هيكل موحّد. شيء يشبه الرسمة هذي:
ولو اقتصر الإطار في كونه يرسم الحدود، كان ينبلع شوي. بس اللي يصير في الحقيقة إنه يرسم الحدود بناء على افتراضات مسبقة حول العلاقة بين العناصر الداخلة فيه. تخيلوا عندكم سلة وتحطون فيها فواكه. السلة هي الإطار، والفواكه هي العلاقة بين العناصر الموجودة داخل الإطار. ممكن تملؤون السلة بس تفاح (علاقة شبه)، أو برتقال وليمون وجريب فروت (علاقة تصنيف مشترك، حمضيات -مو الميراندا-)، أو تحطون فواكه مشكلة تحطوها لضيفكم عشان تقولون إنه مصفّع لما يأكل منها.
المهم من هالأمثلة إنه طبيعة العلاقة بين العناصر مهمة على قدر أهمية الإطار، ومجرد وجوده يقرر ضمنيًا نوعيات معينة من الروابط بين العناصر دون غيرها. وممكن طبعًا تكون هناك علاقة بين العناصر غير الشبه أو التصنيف، مثل إنها تكون علاقة سببية أو مرحلية. العنصر (أ) يتسبب في حدوث العنصر (ب)، واللي بدوره يكون مرحلة سابقة لـ (ت) و (س) يمكن تكون الفكرة أقرب برسمة كالتالي:
ممكن نلاحظ ثلاث حوايج من الإطار. أولًا، ممكن نعتبره "تدخّل" على حالة مسبقة. وثانيًا، ممكن إنه يكون هناك إطارات ثانية تتقاطع وتتداخل وياه بدون ما تكون متطابقة في الإحكام. وثالثًا، ممكن إطارين يتطابقون ويضمون مفاهيم/عناصر متشابهة، بس يُعرّفون العلاقات بينها بشكل مختلف. مجددًا، الرسمات أوضح من الثرثرة. أول رسمتين بيوضحون كيف ممكن إطارين يتقاطعون بس يختلفون في كمية المفاهيم اللي يضموها، سواء من حيث الاشتراك في جزء أو كل. وعشان لا تصير الرسمة زحمة بأشيل العلاقات:
أو إنه يكون عندنا إطار أوسع من الإطار الأول:
هني أقدر أتطرق بشكل سريع للي يسمونه سياسات الشمول (Inclusion)، زي لما مثلًا لازم كل مسلسل نتفلكس يحتوي على نِصَاب معين من مختلف الانتماءات والميولات وغيرها. هذا النوع من السياسات شبيه بالرسمة أعلاه، لأنه فعليًا ما يمسّ أسس الإطار ولا تعريفه، بس يلامس العناصر الداخلة فيه.
وممكن تسموها تأطير سياسي، تأطير ديني، تأطير اجتماعي، ما يفرق. المهم إنه يكون هناك إطارين يتشاركون بعض أو كل المفاهيم اللي يستخدموها، بس يختلفون بحسب كيفية رسم العلاقة بينهم. زين، نجي الحين للمصيبة الأولى. كل هالثرثرة تتناول الإطار من مستوى واحد فقط. تذكرون كيف في الجزئين اللي راحوا حاولت أقول إنه كل مفهوم يتشكّل علائقيًا وإنه ممكن قراءته سياقيًا؟ لو نرجع لتبعات هالفكرة ونطبقها على الإطار هني، بنشوف إنه احنا فعليًا عندنا مستويات مختلفة أفقيًا وعموديًا.
يعني مثلًا، لما أتكلم عن إطار سياسي يحط مفاهيم زي الحرية والحداثة والفرد في إطار واحد، ففعليًا "السياسي" هني إطار ومفهوم بنفس الوقت. وبالتالي ممكن هو الآخر يُقرأ سياقيًا وعلائقيًا بارتباطاته مع أطر أخرى. هذا شيء يحبونه جماعة الأكاديميين؛ كل واحد يؤطر الظواهر بناء على منهجية مزعومة في مجاله المعرفي، كما لو إنه يمكن فصله واقعيًا عن غيره. لكن في كلتا الحالتين الموضوع ما يتغير: ممكن إنه نتعامل مع الإطار السياسي والإطار الديني مثلًا من خلال علائقيتهم وسياقيتهم. بس لحظة، هني بنكون بحاجة لشيء يضمهم تحليليًا. ودكم تخمنون وشو اللي يحكم مجموعة من الأطر ويقرر كيفية ارتباطها؟ صح عليكم، إطار نظري برضه.
ودي أرسم عشان أقرّب الفكرة، بس بصراحة قدراتي في الرسم محدودة، وبالتالي الرسمة بتكون محدودة. بس شايفين كيف الحرية والحداثة والفرد ينتمون للإطار السياسي من حيث رواجهم إلى جوار الديموقراطية والرأسمالية؟ ممكن أيضًا نقرأهم الحرية والحداثة والفرد ضمن إطار فلسفي يموضعهم كمراحل من تطور الفكر البشري. وكلا الإطارين السياسي والفلسفي ينتمون لإطار ممكن نسميه غربي. إحم. بس في هالحالة بيكون بين الإطارين نقاط اشتراك، فالربط بينهم أسهل. تخيلوا لو عندنا إطارين منفصلين زي اللي في الرسمة:
ظاهريًا، ما فيه شيء يربط بين الإطارين إلا كونهم ملونين بألوان الاتفاق (❤️💚). فكيف نقدر نقاربهم مع بعضهم البعض؟ لازم نحطهم في إطار واحد، حتى لو كان هذا الإطار تحليلي:
هذا كله كوم، والمصيبة الثانية أعوص. في أول رسمة حطيتها، افترضت إنه احنا قاعدين نناظر الحالة قبل-الإطارية، لكن فعليًا هذا مجرد تقسيم نظري لتقريب الفكرة. من جانب أول، في الواقع، ما فيه مفاهيم أو عناصر سابقة لشكل من أشكال التأطير، لأنه إدراكها يتطلب أصلًا درجة من معرفة الإطار سواء بشكل واعي أو غير واعي. وبنفس الوقت، هذا الإطار هو اللي يصبغ نظرتنا إلى المفاهيم والعناصر. فيه عملية ذهنية ثنائية الاتجاه هني؛ الإطار يعزز وجود المفاهيم والعناصر ضمن حدوده وروابطه، والمفاهيم والعناصر يتم إدراكها على ضوء الأطر اللي تُقرأ ضمنها.
لو بأعيد رسم أول رسمة بشكل ثلاثي الأبعاد، بتصير الفكرة أوضح، لأنه وقتها بيبيّن كيف إنه الإطار اجتزاء أفقي (بمعنى إنه يقتصّ من العناصر المتزامنة) وعمودي (بمعنى إنه يقتص بامتداد زمني).
لما تتفاقم سطوة الإطار، يصير الصعب علينا ندرك الأشياء اللي تقبع خارجه. وهذي هي أساسًا وحدة من وظائفه السلطوية الرئيسية: إنه يخلينا نتخيل إنه الظاهرة المؤطرة موجودة فقط ضمن حدود الإطار وتعاريفه وامتداداته التاريخية. لهذا السبب أقول إنه النقد الإطاري ضروري. نقد الإطار النظري يعني الوعي بالدور اللي تلعبه الأطر النظرية في تقرير معارفنا كخطوة رئيسية في إنتاج معارف مغايرة.
فلو أخذناها من باب العلائقية والسياقية، بنشوف إنه التأطير يلعب دور رئيسي في إنه يخلينا نتخيل المفاهيم ككينونات مستقلة ومنعزلة عن بعضها، يعني نتخيلها كما لو إنه إدراك المفهوم يتطلب الغوص في التكوين الداخلي له بوحده. لهذا السبب تشوفون ناس واجد (وأنا كنت منهم) لما يقرؤون شيء فيه "الوجودية"، يروحون يدورون مداخل فلسفية وملخصات تعطي نبذة عن الوجودية وفلاسفتها. آلريدي الوجودية مؤطرة كفلسفة ومرتبطة بفلسفات ثانية، وبالتالي يبدو من البديهي إنه امتلاك معرفة عن الوجودية يستوجب قراءتها ضمن هذا الإطار الفلسفي.
لكن لو ساءلنا الإطار ومشروعيته وحدوده، ولو حاولنا بشكل متعمد نسائل ما إذا كانت مفاهيمه وعناصره قابلة لأنها تنوجد بتوليفات ثانية، بنكون مشينا خطوة مهمة في اتجاه اللي ممكن نسميه انزياح مفاهيمي. وقتما صار هذا الانزياح، تلقائيًا يُعاد رسم المفاهيم في ذهننا، ونبدأ نفكر جديًا بالعناصر اللي تقبع خارجها، وبالكيفية اللي شُيّدت بها هالأطر، وبالتَّبِعات السلطوية لتشييدها بالشكل اللي شُيّدت به. والنتيجة المرغوبة بطبيعة الحال هي إنه احنا نوصل لرهافة سمع قادرة على التقاط ما تم تغييبه بنفس قدر تركيزها على اللي تم تضمينه. ما فيه رسمات زيادة خلاص.
شكرا على هذه الثلاثية الرائعة والممتعة تحياتي مع خالص الود