في يوم من الأيام كنت داخل بمعمعة سوالف مع صديق رقمي. كنا نسولف بشكل رئيسي عن مقالة منشورة في وحدة من المنصات "الفكرية" (أنا من النوع اللي يحب يحط علامات تنصيص للتهكم بقدر الإمكان، فتحملوني)، وكنت أقول له إنه اختلافي ويا المقالة ما هو في النتائج اللي توصل ليها الكاتب، ولا بالضرورة في قراءة الكاتب للظاهرة -موضوع المقالة- قياسًا على مقدّماته. اختلافي كان أكثر جذرية، وهو كامن في حقيقة إني ما أقبل الإطار اللي الكاتب يستقرئ الظاهرة ضمنه من الأساس. وبالنسبة لي، مساءلة الإطار تعني تحول النقاش من مشروعية النتائج أو منطقيتها إلى الكيفية اللي تُفهم بها المشكلة ككل.
وقتها سألني الصديق سؤال مباغت، بأعيد صياغته بأدب أقل شوي من لما سألني إياه بدون ما أمس مضمونه: وش هالخرابيط اللي تقولها؟ إطار وشو؟ وكيفية من؟ وليش تتهرب دائمًا من مناقشة الموضوع وتروح تركز على أشياء تبيّن كأنك تفهم شيء ما أحد يفهمه غيرك؟
كان السؤال مباغت لأني لين وقتها ما كنت أحس إنه فيه ضرورة لتوضيح كلمة اعتبرتها بسيطة زي كلمة "إطار". أطّر يؤطّر تأطيرًا، حاجة يوضع إطار عليها عشان تنعرض بشكل مختلف عن شكلها بدون هذا الإطار. تخيلوا لوحة فنية كبيرة مليانة تفاصيل، يجي واحد ويؤطر جزء منها بحيث يستثني باقي الأجزاء. هذا تأطير. ومساءلة الإطار في هالحالة قد تعني مثلًا التساؤل عن تَبِعات فصل أجزاء متصلة من اللوحة. سهلة، وش يبغى ليها؟
لكن لما فكرت بالسؤال زيادة، استوعبت حاجتين. أولًا، أنا شخصيًا ما صار موضوع التأطير عندي بهذي الأولوية إلا بعدما قعدت كم سنة أبحث في تأريخ الفكر وأستنتج إنه كتابة تأريخ أي فكرة يتطلب تأطيرها كخطوة أولى، وبالتالي لا بد من نقد التأطير إذا بغيت أقدم أي نوع من النقد الجذري لهذا التأريخ. وهالفكرة كبرت عندي لين صارت أساس أطروحة الماجستير في تاريخ الفكر العولمي (Global Intellectual History)، وأظن إنه هذا البحث المضني فيها عبر السنوات خلاها فعلًا تبدو في مخي كأنها بسيطة أو بديهية، بينما هي مو دائمًا كذلك.
ثانيًا، تَخَيُّل التأطير في الأشياء المادية اللي حولنا أسهل من تخيله في أي شيء مرتبط بالفكر والتفلسف وغيرها من الأشياء اللي يرتبط وجودها بعمليات ذهنية. تأطير اللوحة بيخلينا نشوف الموضوعات اللي تأثرت بعد وضع الإطار؛ غرض في اللوحة صار مقسّم لجزء داخل الإطار وجزء خارجه، أو أسلوب فني مختلف داخل الإطار بيعمينا عن إنه نشوف شيء أكبر في اللوحة ككل. لكن كيف نتخيل تأطير مفهوم ذهني؟ ووش عواقب تقويض الإطار؟
ولذلك علطول شفت نفسي أعيد شرح الكلام ✨المنمق✨ اللي ذكرته للصديق الرقمي (عن الإطار والكيفية) عشان أتأكد إني ما أنفهم عكس اللي أقصده. ومن يومها تراودني فكرة إني أكتب خربوشة تتكلم عن التأطير وعلاقته بوضع المفاهيم في سياقها، أو عن النقد الإطاري كمدخل للمقاربة السياقية. ولذلك قررت أكتبها أخيرًا. بس بدل ما تكون مقالة وحدة من أربعة آلاف كلمة، قلت يمكن أحسن أقسمها على ثلاثة أجزاء: الجزء الأول بيتناول إشكالية التعريف الكامنة في أي مفهوم، والجزء الثاني بيركز على تبعات التعريف وعلاقته بالسياق، والجزء الثالث والأخير بيكون عن الإطار والنقد الإطاري.
مقدمة ثانية، بيكوز واي نت؟
أول حاجة أظن لازم أوضحها هي أساس مفهوم الإطار، حتى لو كان واضح شوي في السطور اللي فوق. بحكم إنه موضوع الخربوشة الأسايسي متعلق بـ"الفكر" (إيه، أحط علامات تنصيص وأتهكم على نفسي بعد)، فلازم نبلغ الشيخ بالسالفة آخذ خطوة لوراء، لأنه الإطار اللي أستخدمه هني مفهوم علائقي (relational)، بمعنى إنه ينوجد من خلال علاقته بمفاهيم ثانية أفقيًا وعموديًا. العلائقية في هذا الاستخدام نقيض للجوهرانية.
كل إطار ينبني على سلسلة من المكوّنات، اللي بدورها تجتمع في مجموعة علائق محددة وتشكّل إطار مختلف عن الإطار اللي بتشكله هذي المكونات نفسها لو إنها اجتمعت بتوليفة علائق ثانية. وتفسير أي ظاهرة بيختلف لو تناولناها من إطار سياسي عن لما نتناولها من إطار ديني، أو إطار جمالي، أو إطار مؤامراتي، وغيرها. ما يحتاج أمثلة على هالاختلاف لأنه الحياة مليانة بأمثلة أوضح من أي شيء ممكن أقوله. الشاهد اللي أبغى أوصل له هو إنه حتى تعريف "السياسي" أو "الديني" أو "الجمالي" بحد ذاته تأطير بشكل من الأشكال؛ ليش افترضت إنهم منفصلين؟ ووش اللي يخلي السياسي سياسي بحيث ما يصير ديني؟ هني يصير لازم أعرّج على الفرق بين الجوهرانية والعلائقية ولو بشكل سريع.
أبسط صياغة في بالي حاليًا للجوهرانية هي إنها تعريف الموجودات انطلاقًا من الاعتقاد بإنه هناك "جوهر" كامن فيها هو اللي يخليها هي هي. لا أحد يجي ويقول لي طيب هذي نظرية المُثل حقة أفلاطون، ما يهمني. اللي يهمني إنه بهذا المعنى، الموجودات تختلف باختلاف جواهرها، ومن الممكن تعريف الشيء من خلال محاولة معرفة كنهه بدونما نتطرق -ظاهريًا- لأي موجودات ثانية.
خل نقول إنه قدامي تفاحة وطُلب مني إني أعرّفها (نوعية الأسئلة اللي أتوقع طلاب الفلسفة يستانسون عليها). إذا جيت وقلت إنه التفاحة فاكهة حمراء بحجم قبضة اليد، فهذا بلا شك تعريف مقبول، وقليل اللي بيستقعدون عليه. لكن لو قلت إنه التفاحة تفاحة بسبب امتلاكها هذي السمات، يعني لو اعتبرت إنه جوهر التفاحة هو كونها فاكهة حمراء بحجم قبضة اليد الخ، فبأكون حطيت نفسي في موقف بايخ شوية لما أحاول أفسر التفاوت بين أنواع التفاح المختلفة، سواء من ناحية لون القشر أو الطعم أو الحجم. طبعًا ممكن يترقع الموضوع بمحاولة إعادة صياغة جوهر التفاحة بطريقة تستوعب كل الاختلافات، لكن هذا لسه يدور في فلك التعريف الجوهري اللي يحاول يعرّف الموجودات انطلاقًا من التعامل وياها كما لو إنها كينونات متباينة "جوهريًا" فيما بينها.
لكن بمجرد أقول إنه تعريف التفاحة غير ممكن إلا من خلال الإحالة للموجودات الثانية، أكون فتحت لنفسي باب التعريف العلائقي. العلائقية بأبسط صياغة تحضر في بالي هي إنها منظور يعرّف الموجودات من خلال وضعها ضمن شبكة ترسم علاقات التقاء واختلاف بين بعضها البعض. في هذا السياق، نستوعب إنه العلائقية منظور لا-جوهري، بمعنى إنها ما تسعى لرسم حدود للشيء بناء على مجموعة سمات يحتويها بقدر ما إنها ترسم تصوّر بناء على توليفة ترتبط بتوليفات ثانية.
أقدر أرجع للمثال أعلاه وأزيد بإنه النظرة العلائقية بتقول إنه ما فيه شيء "كامن" في التفاحة بحد ذاتها بقدر ما إنه الموضوع عبارة عن مجموعة من نقاط الالتقاء والاختلاف هي اللي تخلينا نميّز التفاحة عن غيرها. لو تحطون قدامي تفاحة وبرتقالة، أقدر أتكلم عن التشابهات والاختلافات بينها بسهولة أكبر من محاولة توصيف كل وحدة بوحدها؛ وحدة حمراء ووحدة برتقالية، وحدة حمضية أكثر من الثانية، ووحدة سووا بها أغنية مشهورة مطلع الألفية ووحدة لا.
وهالمقارنة مهمة في حالة إنه هناك موجودات أخرى تشترك جزئيًا في التعريف؛ فاكهة حمراء بحجم قبضة اليد؟ حتى الطماط والفراولة نقدر نقول عنهم شيء شبيه. ونقدر حتى بعد نمشكل الموضوع زيادة ونقحم أنواع التفاح وألوانه المختلفة. لكن أي واحد يشوف الطماط والفراولة قدامه ويذوق طعمهم ما بيحتاج التعريف عشان يفرّق بينهم وبين التفاح، وأي واحد يجرب أنواع التفاح الثانية بيقدر يلاحظ الاختلاف في الصفات أكثر مما تقدر الكلمات تسويه.
وممكن في أي لحظة من اللحظات يجي واحد ويقول كل هالنقاشات مالها معنى لأنه العلم أثبت إنه كل أنواع التفاح يرجع أصلها لنوع من الأشجار اللي ينمو في كازاخستان، وبالتالي هذا هو النوع الأصلي اللي المفروض نجيب تعريف له ومن ثم نعتبر باقي الأنواع تفرعات أو تشوهات منه. وفي هالحالة فيه رد وحيد نقوله لهالشخص:
المتخيل يظل متخيل حتى لو كان له أثر مادي
هذا كله في حالة إنه الموجود اللي نتكلم عنه موجود مادي قابل للمعاينة باستخدام الحواس. لكن وش بيصير لو كنا نحاول نعرّف مفهوم ذهني؟ كيف ممكن هالثرثرة كلها تفيدنا لما نتكلم عن الحرية أو الثقافة أو العرق أو غيرها من المفاهيم اللي تعريفها يقرر بالضرورة كل المقدمات والنتائج اللي يمشي عليها تفكيرنا؟
وقتما وصل النقاش لهالنقطة، بنشوف إنه احنا نحتاج نقارب الفكرة بشكل مختلف شوي. طبعًا الجوهرانية والعلائقية ستل تنطبق على المفاهيم والتصورات، ويا كثر اللي يتصورون إنه من الممكن فعلًا نعرّف الحرية أو الثقافة أو غيرها من خلال التأمل في سمات وحدود المفهوم. لكن الفرق الرئيسي بينها وبين الأمثلة السابقة إنه هذي المفاهيم ما نقدر نشير لوجود مادي ملموس ليها، وهذا يعني إنه أي تعريف ليها (سواء كان جوهري أو علائقي) بيكون جزء ما يتجزأ من المفهوم نفسه. هني ما قاعدين ندور في فلك الموجودات بقدر ما قاعدين نفحّط في عالم اللغة والعمليات الذهنية؛ كل المفاهيم عبارة عن مركّبات ذهنية/لغوية تتضمن أسس وخطوط التأويلات المحتملة.
طيب يا حسين، لسه قاعد تراوغ شوي، فوشو تبغى تقول؟ خل آخذ مثالين استعباطيين (ما أقصد اعتباط). أولًا، أقدر أقعد تحت ظل شجرة تفاح أكتب ليكم خربوشة وفجأة تطيح تفاحة على رأسي وأكتشف قانون التنافرية. في هذي الحالة، ما بكون غلطان لو نسبت الألم اللي في رأسي للتفاحة؛ التفاحة فاعل تسبب في ألم برأسي. هذا شيء ما أقدر أقوله عن أي واحد من المفاهيم بدون ما أكون ارتكبت مغالطة لا تغتفر عند الناس اللي تفكر. المفاهيم ما لها وجود وما لها فاعلية. فيه ناس تؤمن بمفهوم وترتكب الأفعال بناء على إيمانها. هل يصح نسبة الفعل للمفهوم؟ لا. هل أقدر أقول إنه المفهوم تسبب في شيء؟ لا. هل يعني هذا إنه المفهوم ”موجود"؟ لا. طيب، في هالحالة، وش تفسير إنه واحد من رموز الثقافة المحليين يكتب كتاب يستخدم فيه "الحداثة" بصفتها كينونة فاعلة أكثر من خمسين مرة في مقدمة ما تتعدى كم صفحة؟ صح عليكم، جاب العيد. بأستشهد به في الجزء الثاني.
وهذا اللي يجيبني للمثال الاستعباطي الثاني. قلت إنه المفاهيم عبارة عن مركبات ذهنية/لغوية تتضمن أسس وخطوط التأويلات المحتملة. المثال اللي دائمًا أحب أستخدمه هو الفرق المنطبع في الأذهان من خلال صياغة الأخبار. خل نفرض إنه قرأنا خبر يُصاغ بثلاث طرق مختلفة: ١) مقتل ثلاثة جنود جراء اشتباك مع مسلحين، ٢) حدث إرهابي يؤدي لاستشهاد ثلاثة جنود، ٣) نفوق ثلاثة من الخوارج على يد رجالنا البواسل. من أول الأشياء اللي بنلاحظها هو دور اللغة في رسم تصوّر معين في أذهاننا عن الحدث وتأويلاته. صح إنه الصياغة تشير إلى حدث مادي حقيقي، ولكن الكيفية اللي يُصاغ بها الحدث تحمل أبعاد تخلي الواحد يشوفه بشكل مختلف بناء على القناعات المسبقة حول التصنيفات المستخدمة؛ كل صياغة توصف الحدث وتقرر تأويله في نفس الوقت.
فواضح من هذيلا المثالين لأي درجة تقدر المفردات توجّه أذهاننا لتأويلات معينة بمجرد استخدامها بشكل معيّن. والمفاهيم طبعًا جزء من هذي الألاعيب اللغوية، وما يحتاج أعيد وأزيد دام إني كتبت خربوشة تطرقت لبعض أجزاء الفكرة بشكل أوضح. المهم عندي أبيّن ولو بشكل بسيط المغالطات اللي تترتب على الانطلاق من تصور جوهراني للمفهوم كما لو إنه قائم بذاته بدل الانطلاق من كونه شيء مرتبط باستخداماته اللغوية (والخطابية، بس ما بستعجلكم).
لحظة، هل سويت هالشيء؟ هل بيّنت كيف إنه علائقية المفاهيم خطوة أولى للانعتاق؟ ما بأجاوب على هالأسئلة الحين، بس على الأقل بأقول إنه التعامل ويا المفاهيم من خلال وضعها في شبكة أكبر من المفاهيم والمصطلحات اللي تستحضرها شيء ضروري لنقدها. ما فيه شيء اسمه حرية وبس؛ بمجرد استخدام مفردة "حرية" يصير لازم نتساءل عن المقابل ليها (العبودية؟ السجن؟ اللاحرية؟)، ونتساءل عن تحققها، ونتساءل عن تأريخها المزعوم، وغيرها من الأسئلة اللي تبدأ باعتبار المفهوم جزء من شبكة أوسع من المفاهيم. هذا هو معنى العلائقية اللي أعنيه. لكن بحكم إني لازم أجيب طاري السياقية عشان تكون الصورة أوضح، فبأوقف هني وأوفر طاقتي للجزء الثاني.
انتظر الجزء الثاني باللغة العربية لطفًا .