"مترجمة من الياباني؟"
كان السؤال أعلاه حاسمًا لحسين الضو المتوقف أمام الدار العريقة بمعرض القاهرة، والممسك بالترجمة العربية لرواية مييكو كاواكامي كل العشاق في الليل. حاسمًا لأن السؤال ملغوم ابتداء؛ ما إن رأيت حسين يقلب صفحاتها، أخبرته بشكوكي إزاء ترجمتها عن لغتها الأصلية -وهو ما يهمنا كلانا-، مستشهدًا بنتائج بحث سريع أجريته عن الرواية قبلها بفترة: كل الأعمال الأخرى الصادرة لنفس المترجم مترجمة عن الإنجليزية، وحسابه القودريدزي لا يحتوي أي عنوان ياباني في صفحاته الأولى، فضلًا عن أن ترجمة العنوان بالعربية مطابقة تمامًا للعنوان الإنجليزي All the Lovers in the Night الذي تغيب عنه مفردة "منتصف الليل"، الحاضرة في العنوان الأصلي (すべて真夜中の恋人たち). طبعًا لا أفهم اليابانية، ولكن وضع العنوان هكذا من شأنه إخافة البعض. فخلني أجرب.
"مترجمة من الياباني؟" بذرة هجمة مرتدة أتيحت فرصتها حين رد القائم على الجناح بالإيجاب، فانطلق حسين ينقض الإجابة موغلًا في التشكيك بدقة الإجابة والتحسر على تطبيع الترجمة عن لغات وسيطة وترويجها ممن يفترض أنهم في طليعة التصدي لها. وقد استغل حسين ارتباك القائم على الجناح ليعيد ويزيد في التساؤل عما إذا كانت بقية المؤلفات التي اعتزم اقتناءها مترجمة عن لغاتها الأصلية أم أنها هي الأخرى موسوطة.
لئلا أظلم الدار والمترجم، لا تزال احتمالية ترجمة الرواية عن اليابانية قائمة. لست مشخصنها مع الدار أو المترجم أو الرواية، ولا أنوي قراءتها بالعربية أصلًا، ولذا تغيب أي مصلحة لي في إسقاطها. مع ذلك، لا أرجح كونها مترجمة عن اليابانية لسببين إضافيين: أولًا، ترجمة الأدب بحد ذاتها متطلبة، تستنفد الوقت والجهد والطاقة. وبالتالي فإن الترجمة عن لغتين متباعدتين -كالإنجليزية واليابانية- أصعب للحد الذي يمنع المترجم من الإتيان بهما بهذه السرعة. هذا السبب واضح بما فيه الكفاية. حتى من يتقبل إسهال مترجم قدير ينشر سنويًا خمسمئة ترجمة جديدة سيجد صعوبة في تقبل فكرة ترجمتها لو كانت من لغات مختلفة، وسيشكك ولو جزئيًا في جودة الترجمة العربية.
ثانيًا، أدرك تمامًا للأسف مدى تطبيع الترجمة عن لغة وسيطة في المشهد الثقافي العربي. نشرتُ قبل فترة وجيزة مقالة تتناول التبجيل المبالغ فيه للمترجمين جراء رواج أفكار "الترجمة جسر بين الثقافات" وغيرها مما ينزع عن عملية الترجمة أبعادها السياسية. فكرتي بسيطة: لا ترجمة دون مترجم وسوق، وبالتالي كل العملية قائمة على سلسلة من القرارات المتشابكة التي يتداخل فيها ما هو فردي بما هو مؤسساتي. هنا فكرة وثيقة الصلة بالموضوع، وإن أغفلت ذكرها في المقالة السابقة. حين يصبح لزامًا على دور النشر العربية توكيد الترجمة عن اللغة الأصلية على غلاف النسخة، أي أن تؤكد ترجمتها عن الإسبانية أو البرتغالية أو الألمانية أو الفرنسية، فتلك دلالة على مدى تفشي الترجمات المستندة على لغة وسيطة، وهو ما حدا بالدور لوضع اللغة الأصلية على الغلاف لئلا يعتقد القارئ أنها مثل الدور نص كم الأخرى التي تستغفله وتغشه وتنصب عليه وأشياء أخرى.
مقاطعة استقعادية: والله إنك كيوت يا حسينزم حين تفترض أن الدور تتعمد الاستغفال! ألا تدري أنها تفعل ذلك عن قناعة تامة بأن الترجمة عن لغة وسيطة أمر لا إشكالية فيه؟ واللهِ أدري، للأسف. مو بس إنها بلا إشكالات، بل هناك حيثيات أخرى مرتبطة بتكريس فكرة أن نقل روايةٍ ما للغة مهيمنة، كالإنجليزية أو الفرنسية، وسام مجد يجعل الرواية تسوى الترجمة للعربية.
لا أجد مفرًا هنا من استحضار ذكرى نقاش رايق مع بعض الأصدقاء، حينما دار الحوار عن علاقة الترجمات السيئة برداءة المخرجات الأدبية. قلت أنا المغلوب على أمري أن تحليل أسلوبية الأعمال المترجمة للعربية شبه مستحيل، قياسًا على تعدد القيود التي تحكم سوق النشر لدينا. استشهدت حينها -كما أستشهد الآن- بتجربتي الشخصية في مقارنة بعضِ الروايات التي يلعب الأسلوبُ دورًا رئيسيًا في خلق آثارها ومعانيها، وقلت أن قارئ الترجمة العربية سيهيم ضلالًا لو اقتصر عليها (تناولت في خربوشة "لماذا يجب الا تقرأ الحارس في حقل الشوفان؟" أمثلة سريعة). ولو كنتُ بمثل حالي اليوم، لأضفت مقارنات أخرى عن تباين ذلك مع ملاحظاتي عن الترجمة الإنجليزية لروايات إيطالية وإسبانية، على الأقل في نطاق اهتمامي الضيق.
وقتها رد أحد الجالسين بما أدلى به أحد المترجمين المعروفين في لقاء مغلق، حين سئل عن علة ترجمته عن الإنجليزية روايات صدرت بلغات أخرى، أي عن لجوئه لوساطة الإنجليزية في نقل الروايات للعربية، فأجاب بما مضمونه أن كون الروايات قد ترجمت للإنجليزية يعني -مما يعنيه- أنها نجحت بشكلٍ ما في إثبات نفسها، وأنها مرت بمرحلة الفلترة الضرورية لتخريج العمل على أكمل وجه قياسًا على نضج سوق النشر باللغة الإنجليزية. حاشا لله أن نقرأ ما لم يُسلَّط علينا!
يكفي المغلوبين على أمرهم من أمثالي وشرواي سماع هذا التبرير لغسل أيديهم من كل ما تمسه يدا هذا المترجم المعروف. ولكن أنا لستُ أنا وأنا جوعـ... وأنا لا أتحلطم. لذا سأستغل هذه السالفة البسيطة للتعريج على سالفة أكبر، سالفة تتمحور حول طيف المعنى وطرفيه الشكل والمضمون. باستطاعتي اختصار السطور أدناه في حلطمة رئيسة: إذا ما قبلنا فرضية كون كل ترجمة تأويل، فإن الترجمة عن لغة وسيطة هي تأويلُ تأويلٍ. ولو كان الأمر بيدي، لما سميت نقل النص من لغة وسيطة إلا اجترارًا. حلوة على الأغلفة: اجترها عن الإنجليزية فلان العلاني.
طيب، حبة حبة. قلت أن الأمر عندي مرتبط بطيف المعنى، والذي أضع الشكل على طرفه والمضمون على الآخر. يمكن تقريب الفكرة بالرسم أدناه:
أنوه هنا على اضطراري لاستخدام مفردتي الشكل (form) والمضمون (content) بمعانيها الدارجة نظرًا لافتقاري حتى الآن لما هو أدق وأنسب منهما. يشير الشكل إلى "كيفية" عرض الشي أو قولبته، في حين يشير المضمون إلى "لب" الشيء المعروض أو المقولب. ولأن الحديث هنا عن الأدب حصرًا، فالشكل والمضمون المعنيان لغويان. ولا أود صراحة الخوض في تفاصيل زائدة، سوى أني سأضيف كوني أضم للشكل ما يتجاوز عادة الأشكال الكبرى (مثل المقالة أو القصة القصيرة أو الرواية) لأضيف لها تفرعات أخرى مرتبطة ببنية الجمل وانتقاء المفردات وترتيب الوقائع أو الأفكار، إذ يختلف معنى الشيء وأثره باختلاف أي منها، حتى لو ظل المضمون على حاله.
هناك نصوص يقوم معناها كاملًا على المضمون. فلنفترض أني اشتريت غسالة جديدة وأردت استخدامها. ستحقق إرشادات الاستخدام مرادها حين توصل للقارئ المعنى دون لبس: أدر مقبض التحكم على نوع الغسلة المرغوبة، ضع الصابون في الفتحة تحت الغطاء العلوي، اضغط زر البدء. خلاص، تم. عرفت كيفية استخدامها. يتطابق المعنى هنا مع المضمون دون دور حقيقي للشكل.
لكن لو قرر كاتب إرشادات الاستخدام أن يتفذلك ويقول:
مقبض دوار
بلوزة ملطخة
مع تايد للغسيل مفيش مستحيل
فلا شك أني سأبحث في يوتيوب عن كيفية استخدام الغسالة لأني لا أملك خلقًا لفك طلاسم الإرشادات الهايكوية. من الجلي هنا أن شكل المضمون هو ما يلعب الدور الأكبر في خلق المعنى المراد، وإحراز المعنى من عدمه مرهون بقدرات القارئ نفسه على إحراز معنى يمكنه من استخدام الغسالة بنجاح.
مثال سخيف ولكنه يحقق الغرض. ليش؟ لأن أي نص سيوظف ثلاثي المعنى والشكل والمضمون وفقًا لغاياته. وإذا كانت إرشادات الاستخدام تسعى لوضوح معناها لئلا تلتبس على قارئها، فإن الأعمال الأدبية كثيرًا ما تنحو لتوظيف الشكل في سبيل خلق معانٍ تتجاوز مباشرة المضمون.
هنا بيت القصيد: كل نص أدبي "أصلي" يمتلك وزنيته الخاصة للثلاثي المذكور. ولذلك، إذا قلنا أن الترجمة تأويل، فمن المعقول أن ذلك يعني لعب المترجم دورًا في نقل النص للغة أخرى بما يتلاعب ولو بشكل بسيط في الوزنية نفسها. كل قرارات المترجم، سواء ذاك الذي يحافظ على روح النص أو الملتزم بحرفيته أو الماسخ له، تغير من تراتبية خلق المعنى بين الشكل والمضمون في الأصل وفي اللغة المترجم لها. وكل من جرب الترجمة، من المؤمنين بالحفاظ على روح النص مثلي وشرواي، يدرك الصعوبات الكامنة في العملية ككل، والتي تضطره أحيانًا لخيانة النص الأصلي بغية الحفاظ على وقعه وأثره لدى القارئ، أي بإحراز وقع شبيه على قارئ الترجمة حاله حال قارئ النص الأصلي وإن تفاوتت الأشكال والمضامين.
وبالتالي تتضح الإشكالية الأولى عند المترجم عن لغة وسيطة، أو المجتر، حيث يستعيض عن عوالم النص الأصلي بأشكالها ومضامينها ليلج عوالم النص المترجم ومترجمه. في حالة إرشادات استخدام الغسالة، عادي، المهم أن يصل المضمون دون لبس. لكن في الأدب؟ هيهات والله.
أما الإشكالية الثانية فسأقحمها على تبرير المترجم المعروف أعلاه. ما يسميه هذا المترجم فلترة، أسميها سلطنة بلا مواربة، وما يسميه نضجًا في سوق النشر الإنجليزي، أسميه تبعية ورداءة في سوق النشر العربي. كل من يؤمن بقدرة الأدب التغييرية والثورية، من أمثالي وشرواي مجددًا، يتحسر على جهله باللغات للحد الذي يضطره لقراءة الأعمال مترجمةً للغة يتمكن منها. ذلك أن المقاومة الكامنة في الأدب ليست مقتصرة على الموضوعات الجدلية أو التابوهات، بل تتعداها لتشمل الشكل الأدبي نفسه. هل أتخيل رواية اللون الأرجواني دون مستوى بطلتها اللغوي؟ أو أنا لست خائفًا دون منظورها -ولغتها- الطفولية؟
قراءة الترجمة في هذا السياق شر لا بد منه، وليست اختيارًا، أو على الأقل هي -على المستوى الفردي- شر يستعاض به مؤقتًا عن قراءة الأعمال بلغتها الأصلية حتى يفرجها الله.
لكن بمستوى أكثر مؤسساتية، بما أن الحديث عن سوق النشر العربي، فلا شك أن إخضاع المشهد لإملاءات سوق آخر مثير للحنق. الحديث هنا على مستوى سياسات إنتاج المعرفة نفسها. في حالة اعتماد الترجمات الموسوطة، فالأولوية هنا ليست للنص الأصلي الذي يرد ضمن عالمه وشباك معانيه الخاصة، بل بالكيفية التي تحولت بها في لغة مهيمنة.
ذكرت قبل قليل استحالة دراسة الأساليب في الترجمات العربية نظرًا لرداءة مخرجات الترجمة حتى لو لم تكن موسوطة، وأعود لهذه الفكرة لأتساءل: كيف يمكن إنتاج معرفة أصيلة عن نسخ مشوهة؟ على رغم حلطماتي الكثيرة عن الأكاديميا، سوى أني معجب تمامًا بأقسام الجامعات المحترمة التي ترغم طلابها على تعلم لغات مجال اختصاصهم، لأن فهمهم للنصوص الأصلية جزء لا يتجزأ من كل أطروحة يكتبونها. هل تتخيلون مختصًا في الشرق الأوسط يجهل العربية أو التركية أو الفارسية؟ أم متخصصًا في اليونان القديمة عاجزًا عن قراءة آدابها بلغتها؟ طيب اسحبوا التساؤلات على المشهد ككل: كيف يمكن إنتاج معرفة أصيلة عن اجترارات؟
أختم هنا لأن الغرض من هذه الخربوشة هي التحلطم بصوتٍ عال، أو بكيبورد عالٍ بالأحرى.