هذه الخربوشة قراءةٌ في كتاب: الذاكرة الشعبية: قراءة اجتماعية لمصادر الوعي التاريخي المحلي والمنتج الثقافي في الحياة اليومية للمجتمع السعودي، لمؤلفه عبدالرحمن الشقير، والصادر عن ابن النديم للنشر والتوزيع/دار الروافد الثقافية ناشرون، في طبعته الطبعة الأولى ٢٠٢٠م.
ما انطباعك حين تباشر قراءة كتاب فتكتشف أن صفحته الأولى تحمل معلومة مغلوطة؟ كيف ستتعاطى مع ما يرد في بقية الصفحات؟ ألن يراودك الشك حول كل شاردة وواردة فيه؟ هذا تمامًا ما انتابني حين قرأت الاقتباس على ص13، ووجدت إشارة الكاتب بأن آرثر كوستلر "روائي وناقد إنجليزي". إن أي بحث گوگل بسيط عن الكاتب كفيلٌ باستحضار ظروف مولده ونشأته في بودابست وفلسطين وبرلين وباريس وانخراطه في الحزب الشيوعي والعمل الاستخباراتي ونَشرِ روايته عتمة في الظهيرة (وقد نشرها بعد استقالته من الحزب الشيوعي، متناولًا فيها الستالينية وأبعادها من خلال تجاربه وسجنه. وسبق وأن قدمت قراءة مقارنة بينها وبين مزرعة الحيوان لجورج أورويل على كتبيولوجي) وغيرها من الأمور قبل حصوله على الجنسية البريطانية وهو بسن الثالثة والأربعين. وبالتالي فإن وصف كوستلر بالإنجليزي عطفًا على جنسية اكتسبها في منتصف عمره يضرب بعرض الحائط أربعين عامًا من حياته.
لم تكن رؤية العبارة غير الدقيقة صادمةً بالنسبة لي، إذ كنتُ أتوقعها بشكلٍ ما؛ فالحكم على الكتب من أغلفتها أحد هواياتي المفضلة. ولا أعني بذلك طبعًا الحكمَ على الكتاب بناء على جودة الغلاف وانطباعاتي حوله (وإن وجدتُ نفسي أفعل ذلك بين الحين والآخر)، بل أقصد الحكمَ عليه بناء على عنوانيه الأساسي والفرعي -إن وجد- واسم الكاتب والنبذة القصيرة الموضوعة على الغلاف الخلفي. حين حملت بين يدي كتاب الذاكرة الشعبية: قراءة اجتماعية لمصادر الوعي التاريخي المحلي والمنتج الثقافي في الحياة اليومية للمجتمع السعودي، شعرت منذ البداية أنه سيغرّب حيث أشرّق. وقد كانت المقدمة التمهيدية على الغلاف الخلفي وما تحتويه من عبارات على شاكلة: "عادات مستحدثة" أو "تلقائية الإنسان العادي" أو "البنية التحتية الحرجة" إشارة اضافية لكون الامتناع عن قراءته خطوة لا بأس بها. لكنني قاومتُ هذه النزعة، مجبرًا نفسي على قراءة الكتاب من باب تقاطعه مع اهتماماتي في التاريخ والظواهر الثقافية وارتباطهما بالحياة اليومية، خصوصا ما يتعلق منها بالسياقات المحلية. لكنني أيقنت بعد قراءة صفحاتٍ قليلة فقط من صحة حكمي الأول بكل حذافيره.
في ص59 (أي بعد ثلث الكتاب تقريبًا)، بعدما ملأتُ الصفحات التي تسبقها شخبطةً وتعقيبات وتعليقات، كتبت ملاحظةً بقلم الحبر الأزرق مفادها أنني سأحاول التقليل من استقعادي على أطروحات الكتاب وتفاصيله. أستحضر هذه الملاحظة الآن مبررًا عدم تناولي كل ما وجدته من إشكاليات في الكتاب، إذ يحتاج ذلك لمقالةٍ أطول مما أنويه هنا. ولذا سأحاول بشكلٍ عام الاقتصار على وجهين رئيسيين في سبيل نقد مختلف أطروحات فصول الكتاب الأربعة: اللاتاريخانية الكامنة في الطرح التاريخي أولًا، والشح النقدي المصحوب بالاستشهاد الخامل ثانيًا.
وفي حين أخص كتاب الذاكرة الشعبية بسطور هذه المقالة، إلا أن ما أستحضره من إشكاليات منهجية -بحثية كانت أم معرفية- جزءٌ من إشكاليات ظاهرة محلية أضخم من إساءة الفهم والتقصير في البحث والتبني الخامل لأطر ومفاهيم معطوبة، وإن أبطال هذه الظاهرة هم المختصون والأكاديميون، وليس هذا الكتاب آخر تجلياتها. ومن الضروري، إذن، الأخذ بعين الاعتبار أن الاستقعاد هنا بدوره محاولة لتسليط الضوء على ضخامة هذه الظاهرة وخطورتها، لا سيما في غياب أي نقدٍ حقيقي لتمثلاتها (تناول أحمد بوقري مؤخرًا طرح الغذامي في محاولته لتسليط الضوء على إشكاليات شبيهة بما أود قوله هنا، ولكن تظل هذه المحاولات نادرة) وعطفًا على دورها في ترسيخ التجهيل المعرفي والتراخي النقدي.
تاريخ أم إنشائية؟
في إحدى محاضرات مادة تاريخ المجتمع الجماهيري والحداثة، ذكر البروفيسور فرانك يوكيتر فكرةً أقتبسها بتصرف هنا: إذا ما أراد المرء أن يكون مؤرخًا حقيقيًا، فعليه تدريب عينيه على تفقد الهوامش في كل شاردة وواردة. بالرغم من بساطة الفكرة ظاهريًا، فإنها تحتضن معانٍ متعددة جديرة بالتناول. فعلى سبيل المثال، يشير يوكيتر هنا لمفهوم المؤرخ الأكاديمي، أي المختص في مجال التاريخ حسبما تبلور منذ أواسط القرن التاسع عشر تقريبًا حتى اليوم. وبالتالي فإن المفهوم الذي يوظفه معنيٌّ بمنهجيات تاريخ محددة، خصوصًا من حيث ارتباطها بالمصدر (سواء كان مصدرًا تاريخيًا أوليًا أم ثانويًا).
أستحضر فكرة يوكيتر هذه للتوكيد على محورية المصدر في أي طرحٍ تاريخي أكاديمي. فحيثما قرأ المؤرخ دعوى تاريخية ما، فإنه يتساءل دومًا: من أين لك هذا؟ ولو خطا هذا المؤرخ خطوة إضافية نحو تقويض مركزية مجال التاريخ الأوروبية وديكولنة إبستمولوجيته، فلا يقتصر تساؤله على المصدر بحد ذاته، بل يطال القائل وما قيل وأنّاه وعلته، وكل ذلك في سبيل نقد الطرح بمختلف أوجهه ومحاولة أرضنة التصورات والظواهر تاريخيًا. ومن الضروري التشديد على أرضنة التصورات تاريخيًا، إذ يسهل على الباحث الوقوع في فخ القبول غير الناقد للمقولات والتصورات الذهنية المغلوطة في معرض التحليل التاريخي.
وإذا ما عاينّا كتاب الذاكرة الشعبية على ضوء هاته الأسس، نجده زاخرًا بالإشكالات التاريخية، سواء على صعيد الاستشهادات أو لاتاريخانية الظواهر. فمن جانبٍ أول، في حين يشير الكاتب لبعض المصادر التاريخية الثانوية التي يستشهد بها (مثل إحالته لكتاب عنوان المجد في تاريخ نجد ص125)، وفي حين يؤطر بعض أفكاره ضمن فترات أو أعوام محددة (مثل حديثه عن ظهور الصحوة عام 1979م، أو ازدهار النمو العمراني في الرياض بعد تأسيس صندوق التنمية العقارية عام 1394هـ كما نجد في ص38 وص52 على التوالي)، إلا أن أغلب الطرح التاريخي في الكتاب إنشائي يفتقر لأي نوعٍ ملموس من التأريخ. بعبارةٍ أخرى، يستحضر الكاتب الظواهر أو الأحداث أو الحقائق التاريخية مُقولبةً ضمن إطارٍ تحليلي دونما أي ترسيم لحدودها الزمانية والمكانية.
وللتوضيح أكثر، أطرح هذا المثال: يقول الكاتب في ص28 أن في المملكة خمس هويات صاعدة، وهي الهويات الدينية والوطنية والمناطقية والقبلية والفردانية، ولكنه لا يذكر متى صعدت أي من هذه الهويات أو جميعها، ولا أين صعدت تحديدًا، ولا الأسس التي جعلته يستقرئ صعود هذه الهويات، بل يذكر الأمر كما لو أنه حقيقة مطلقة لا تحتاج للنقاش أو التوثيق. ويتكرر الأمر بشكل مشابه حين يتطرق للحديث عن «تحولات المنظومة القيمية» وتغير مفهوم الوقت عند الناس حين انتقل تحديد الوقت إلى الساعات عوضًا عن مواقيت الصلاة، إذ لا يستحضر الكاتب أي سياق تاريخي حدث خلاله هذا التغير عدا ذكر "مرحلة ما قبل النفط"، وهي مرحلة خاوية تحليليًا عطفًا على افتقارها للدقة، فهي فضفاضة جدًا.
ولو استحضرت كل الأمثلة التي وردت فيها أمور من قبيل: "تشبه هجرة الفلاح السعودي ظاهرة الفلاح البولندي" (ص48)، أو "كانت مجالس المنازل في السابق صغيرة وجلساتها على الأرض" (ص65)، أو "كانت الأسرة السعودية تفضل النزهة في البر والأودية لضمان حيزها الاجتماعي لأكبر مسافة ممكنة" (ص69)، وقد وردت هذه الأحداث دون أي محاولة من الكاتب للاستقصاء الدقيق عن متى وأنى وكيف المتعلقة بتاريخانيتها، لطالت المقالة أكثر، ولذلك أكتفي بهذا القدر لإيصال المقصود.
ولا تقتصر الإشكاليات التاريخية على ذلك طبعًا، بل تطال أيضًا انعدام التوثيق الدقيق لبعض المصادر التي يستشهد بها في طرحه، وهو الأمر الذي يصعّب تتبع علاقة الاستشهاد بالطرح و ينحو به نحو الإنشائية. مثل قوله ص45:
وفي المدة ما بين عامي (600-1157ه) نشأ في نجد أربعون بلدًا تقريبًا، بحسب توثيق التواريخ المحلية مثل: عبدالله بن بسام وإبراهيم بن عيسى. ونشأة البلدان تعد مؤشرًا على حراك اجتماعي جديد، وبناء عقد اجتماعي يتضمن مؤسسات سياسية واقتصادية ودينية، ومنظومة قيمية تسهم في التعايش على أسس تعاونية، إضافة إلى إنشاء شبكة طرق محلية تعزز التواصل الاجتماعي و الاقتصادي بين البلدان، ومن ثم فتح الفضاء العام لانتشار الأفكار الجديدة في مجالات التجارة والزراعة والطبابة وترسيخ العادات الملائمة لغالبية السكان.
يغطي الكاتب هنا أكثر من خمسمائة سنة عن طريق الاستشهاد بعنوان مصدرين تاريخيين. ولكنه لا يستشهد بأي جزئية معينة من هذين المؤلفين بحيث يمكن مقارنة الفكرة المطروحة (أي ما يلي نشأة البلدان) بما تقوله تلك المصادر فعلًا. فهل الأربعون بلدًا كلها حملت عقدًا اجتماعيًا وإنشاء مؤسسات ومنظومات قيمية؟ هل نشأة كل تلك البلدان عنت الشيء نفسه؟ وما المنطق الكامن أساسًا في اعتبار أنه ثمة هدف موحد لنشأتها؟ هل الأفكار المطروحة مستقاةٌ من المصادرة أم مستلهمة منها؟ هل الطرح استنتاجٌ مبني على ما كان قائمًا فعلًا خلال الخمسمائة سنة أو هو تصور أُسقط عليها بناء على تصور الدولة الحديثة؟
ويتكرر أمر مشابه حين يتحدث الكاتب عن زكاة التمر وعلاقة الأمراء وشيوخ البادية ص129، إذ يقول "وقد اطلعت على وثائق كثيرة من الملك عبدالعزيز لتنظيم خراص التمور أو توزيعها على بعض شيوخ القبائل"، ولكنه لا يذكر أي وثيقة محددة أو مجموعة محددة من الوثائق، وبالتالي لا يمكن التحقق مما إذا كان طرحه مطابقًا أو مخالفًا أو توفيقيًا أو حتى نقديًا.
وما يُصعّب التقصي التاريخي أكثر هو أن الكاتب يستخدم أطرًا زمنية متفاوتة وواسعة لدرجة أنه يستحيل أخذ الطرح فيها بجدية. ومع أنه يبرر في بداية الكتاب أنه سيركز على التحولات في منطقة نجد (ص16)، إلا أن ذلك لا يبرر تبنيه إطارًا تحليليًا متفاوتًا بين مئة سنة (ص16)، وستة قرون (ص25)، وخمسين سنة (ص31)، بل عودة حتى لزمن ما قبل الإسلام في معرض توصيف تاريخ المنطقة برمتها حسب تصوره (ص43)، وكل ذلك باستخدام أطر ومقولات تنتمي أساسًا لفترات متأخرة (سأفصل في هذه الفكرة بالنقطة الثانية من هذه المقالة).
فالشاهد من ذلك كله أن افتراض وجود ماهية لـ "مجتمع" وحيد يمكن تقصيه زمانيًا عبر القرون ومفاهيميًا عبر افتراض أن معاني الحياة اليومية مؤخرًا تمتلك أصداءها في تلك المواضيع السحيقة ليس إلا إمعانًا في إخلالات تاريخية لا يمكن تجاوزها. وفي الوقت نفسه، تتبنى هذه الفرضية أساسًا على اعتقاد أن المقولات التي تُمكّن تحليل الظواهر التاريخية بلا إشكاليات، وهو ما سأحاول استكشافه أدناه.
هيا نشتر ناقدًا
تساءلت مطلع المقالة عن انطباعك حين تباشر قراءة كتاب فتكتشف أن صفحته الأولى تحمل معلومة مغلوطة، وقلت أنني حين قرأت الاقتباس على ص13 ووجدت إشارة الكاتب بأن آرثر كوستلر "روائي وناقد إنجليزي" شعرتُ بنوعٍ من خيبة الأمل المتوقعة. مهما حاولت ترقيع هذه العبارة أجد نفسي عاجزًا عن تجاوز اختزالاتها. ولا أنكر مدى استقعادي الذي انتهى بملاحظة تفصيل كهذا، ولكن السخرية في الموضوع أن الاقتباس المأخوذ من كوستلر هو أن "الأشياء الأكثر بدهية في المجتمع هي التي تستحق أن تفحص أكثر من غيرها"، وهو ذات الفحص الذي غاب عن صفحات الكتاب وثيماته الرئيسية. ولذلك ليس الأمر متعلقًا بمحض استقعاد لنعت كوستلر بالإنجليزي أو عدم دقة الكاتب في ذكر التاريخ الصحيح في مسألة أن اكتشاف النفط بكميات تجارية في السعودية حدث عام 1957م (في حين أنه يعود إلى أواخر الثلاثينات، ص50) أو بتسميته الرئيس الأمريكي خطأ جون بايدن (ص63) أو حتى بالخطأ المطبعي في عنوان كتاب إميل دوركايم في تقسيم العمل الاجتماعي -وهو الخطأ الذي يغير معناه تمامًا فانقلب ل في تقسيم العلم الاجتماعي- (ص105)، بل يطال ما ذكرته في النقطة الأولى من توظيفٍ ملتبس لاتاريخي للمفاهيم إضافة إلى ما سأسميه هنا أيضًا استشهادًا خاملًا.
ففيما يتعلق بالتوظيف اللاتاريخي للمفاهيم، يحضر الأمر منذ صفحات الكتاب الأولى حين يتحدث الكاتب عن العولمة، سواء بصيغة الفاعل أو الصفة. يحضر ذلك في الأمثلة التالية:
"استطاعت العولمة أن تقدم للشعوب نماذج حياة جذابة وخفيفة، هددت بها نماذج الثقافات التقليدية المستقرة لدى الشعوب" (ص17)
"تعد الثقافة، بوصفها نمط حياة يومي، المنتج الذهني للمجتمع الذي يعكس رؤيته للحياة والعالم، وهي تمثل العادات والتقاليد والأعراف ومجموع السلوكيات المقبولة و المتوارثة، و كثير منها ثقافة «معولمة» إذا صحت التسمية؛ حيث دخلت إلى المجتمع خلال مئات السنين" (ص19)
"لذلك ينشأ السؤال البدهي: كيف صارت هذه المنتجات الزراعية والصناعية المعولمة متجذرة في حياتنا اليومية، ومن رموز عاداتنا وثقافتنا الشعبية التي ندافع عنها وهي دخيلة علينا؟" (ص20)
"وكل هوية تتعرض لأزمات، ولكن أهم المخاطر التي تحيط بأي هوية ثقافية هو وضعها في حالة المواجهة مع هويات أخرى، أو مقارنتها بالعولمة، فهذا قد يعرضها للذوبان في الهويات الدخيلة والجاذبة" (ص25)
يبدو أن الكاتب يستخدم مفهوم العولمة بمعنى «المستورد» في بعض أفكاره (وهذا المفهوم خاطئ ابتداء، ولكنه على الأقل واضح نسبيًا)، ولكن غموض المعنى يكتنف بعض اقتباساته الأخرى. فالاقتباس من ص17 مثلًا يبدو للوهلة الأولى وكأن العولمة فيه تشير للظاهرة حسب مفهومها منذ سبعينات القرن الماضي وتسارع إنتاج المعلومات وسرعة الاتصال وثم استحالة العالم قرية صغيرة. ولكن بمجرد وضع هذا التصور قبال "الثقافات التقليدية المستقرة" فإن ذلك يقلل من احتمالية أن يكون معنى العولمة كذلك، لا سيما حين يمتد نطاقها مئات السنين في الماضي كما في الاقتباس من ص19، وبالتالي من المستحيل أن تكون هذه العولمة هي نفسها عولمة السبعينات وما بعدها. بل يتعقد الأمر أكثر حينما يؤخذ الاقتباس الأخير بعين الاعتبار أيضًا، حيث يُتوقع من القارئ مقارنة الهويات بالعولمة دون أن تمتلك معنى واضحًا أو وجهًا محددًا للمقارنة.
كتبت قبل عام ونصف مقالةً أحاول فيها تقصي ما إذا كان مصطلح "العولمة" يساعدنا على فهم العالم من حولنا أم أنه يجعله أكثر إبهامًا، وقد كان سبب كتابتها آنذاك هو أنني استشفيت شيوع المصطلح كما لو أنه بديهي لا يحتاج للمساءلة، الأمر الذي أرفضه بتاتًا. وأشير للمقالة هنا لأني ما أزال أؤمن أن مصطلح العولمة يمكن أن يكون صالحًا تحليليًا إذا ما تم تصوره تاريخيًا، أي إذا ما وضع ضمن أطر زمانية ومكانية تتيح للباحث تقصي العمليات والظواهر التاريخية كما تجلت على أرض الواقع. من شأن هذه الأرضنة زحزحة تشييء العولمة وتقويض التعاطي معها كما لو أنها بداهة حتمية (كما يفعل الكاتب في طرحه).
ولا يقتصر مثل هذا التشييء وكوننة المفاهيم في الكتاب على العولمة، بل نجده أيضًا في مصطلحات الحداثة والتقليد والبدائية والتقدم والعقلانية وغيرها، إذ يتهاوى الطرح بمجرد التساؤل عن تاريخانية أيٍّ منها. فعلى سبيل المثال، حين يتطرق الكاتب للمجتمع الفلبيني "واتخاذه" نمط حياة أمريكي في ص25، فليس ثمة ذكر للاستعمارين الإسباني والأمريكي للفلبين ولا للحرب بينهما ولا للظواهر التي حدثت آنذاك (لندع جانبًا عدم دقة ما ذكره الكاتب من أن أسماء الأشخاص في الفلبين ذات نمط أمريكي). يؤدي ذلك للتعاطي مع الفكرة مجردةً من خلال منحى متفشٍّ إن صح التعبير. وعلى سبيل المثال أيضًا، يذكر الكاتب أن "الطقوس الفنية الشعبية" مثل العرضة والسامري سمة للمجتمعات "التي لم تعرف أي نمط من أنماط الحضارة"، حالها حال التشجيع الرياضي الذي يمثل "عودة رمزية للمجتمعات البدائية" (ص66). ففضلًا عن تبني الكاتب أنموذج التاريخ الخطي التقدمي غربي-المركز، فإنه يُسقط على ظواهر معاصرة تفسيرات "موضوعية" وفقًا لاستخدام لاتاريخي للمفاهيم الآنف ذكرها، ناهيكم عن التوصيفات الفارغة التي تتبنى تلك المفاهيم بغية شرعنة الفكرة المطروحة، من قبيل: "فقد كانت روائح الأجساد قبل عصر الحداثة تنتشر في المجالس القديمة" (ص69) أو "أما طقوس الأم فتبدأ مع الحمل، إذ يراعى نفسيتها وتقلب مزاجها، وغالبًا ما تشتهي أشياء لا عقلانية أو غير معتادة منها" (ص99) أو "كما أن من طبيعة المجتمعات التقليدية كتم المشاعر" (ص104).
كل هذه أمثلة على توظيف ملتبس لاتاريخي للمفاهيم كما لو أنها مفاهيم كونية مجردة متسامية عن الزمان والمكان، بحيث تصبح صالحةً -تحليليًا- بشكل مطلق، وهذه إحدى المغالطات السائدة الناجمة عن عدم مساءلة بداهة الأفكار وفلسفة تأريخها. وتتكرر مجددًا الإشكالية المتمثلة في أن تاريخ الأفكار العادية في الحياة اليومية مما ينادي به الكتاب أصلًا، كما يذكر الكاتب في ص20، ولذا ليس الاستقعاد هنا خارجًا عن إطار الطرح نفسه.
وحتى لو تجاهلنا هذه الإشكالية واعتبرناها استقعادًا مبنيًا على رؤية محددة لتاريخ الأفكار وعلى تصورات معينة عن المجالات الأكاديمية ومناهج البحث فيها (وهو اعتراضٌ مشروع عند المؤمنين بأفضلية الإنتاج المعرفي الأكاديمي، وبالتالي عند من هم جزء من المشكلة كما أطرحها في المقام الأول)، ثمة إشكاليات أخرى مرتبطة بما أسميته الاستشهاد الخامل، وأعني به الاستشهاد الذي يُهدَف من ورائه لإضافة ثقلٍ معرفي للفكرة المطروحة من خلال تبني مضامين المُستشهد به ظاهريًا وباطنيًا دون أي نوعٍ من المساءلة. بعبارة أخرى، الاستشهاد الخامل هو الاستشهاد غير الناقد لا لإطار المُستشهد به ولا لمضمونه.
يمكن للقارئ الاطلاع على الكتاب من صفحته الأولى حتى الأخيرة باحثًا عن أي استشهادٍ يستحضره الكاتب في سبيل نقده، ولن يجد شيئًا. كل الاستشهادات استدلالية والتجائية بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، سواء تمثلت في استحضار إطارٍ تحليلي ما (مثل استحضار مفهوم الهابيتوس لبيير بورديو لتحقيب تاريخ المجتمع السعودي ص40، أو كلود ليفي شتراوس وريتشارد رانغهام في معرض فهم الطبخ و الكشاتة ص133)، أو في استحضار انطباعات باحثين في سبيل كوننة الفكرة ووضعها على التاريخ التطوري الخطي المذكور أعلاه (مثل استشهاده بصموئيل هنتنجتون متحدثًا عن العالم الإسلامي ص30، واستشهاده بفيكتور إيميل فرانكل وزيجمونت باومان في ص32 في معرض نقده للفردانية بالعصر الحديث، أو استشهاده بفلوريان زنانيكي ووليام إيزاك توماس اللذين بحثا الفلاح البولندي، وذلك في محاولة الكاتب فهم الفلاح السعودي ص48-49). بل الأدهى أن الكاتب يستشهد أحيانًا عن طريق وساطة، أي أنه يستشهد بشخص أو برأي لم يقرأه مباشرةً من قائله، بل وجده مقولبًا ومصاغًا في مصدرٍ آخر، مثل استشهاده بغرامشي في ص18-19 عن طريق كتاب غرامشي وقضايا المجتمع المدني أو استشهاده بمانويل كاستلز في ص30 بواسطة كتاب شبكة الحضارة المعرفية: من المجتمع الواقعي إلى العالم الافتراضي أو استشهاده بهابرماس ودالبرغ في ص36-37 من خلال ما وجده عنهما في دراسات مختلفة مثل كتاب يورجين هابرماس: الأخلاق والتواصل وكتاب الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة: نموذج هابرماس أو مقالة الاتصال العقلاني عبر الإنترنت: مقاربات نظرية في فكر لينكولن دالبرغ.
إن أمثلة الاستشهاد الخامل هذه تطرح العديد من التساؤلات حول دقة نقد البداهات وحول ما إذا كانت مختلف الثيمات مبنية على تقصٍ حقيقي للظواهر التي يبحثها الكتاب أم محض استذكارٍ إنشائي. ولعلي أجد من الغرابة أن الكتاب الذي يزعم الرصد والتوثيق والبحث المنهجي وينادي بضرورة دراسة الظواهر علميًا زاخرٌ بمثل هذه الاختزالات والإسقاطات.
خاتمة
كانت السطور السابقة محاولةً لتناول أحد تجليات مشكلةٍ محلية متفشية، وهي إساءة الفهم والتقصير النقدي والاستشهاد الخامل الغير دقيق في معرض الإنتاج النقدي والمعرفي. وكما ذكرت سلفاً، إن مكرسي هذه المشكلة هم المختصون والأكاديميون من حيث استنادِهم على سلطة معرفية فعلية أو مفترضة. ولأني أعتقد أن الإلمام بالكيفية التي تتأتى بها أي معرفةٍ عامل محوري في عملية النقد (سواء نقد الكيفية أو المعرفة أو غيرهما)، فإن أحد الأهداف التي سعيت لها من وراء هذه المقالة (فضلًا عن الاستقعاد) هو استكشاف مدى حضور هذا الإلمام في الإنتاج المعرفي المحلي وبالتالي التعرف على ملامح المشهد الثقافي النقدي عن قرب أكثر.