جديد/ة على عالم القراءة؟ إليك ثلاثة أمور يجب عليك معرفتها
املأهم بالبيانات غير القابلة للاشتعال، أفعمهم بالحقائق بحيث يشعرون بالتخمة، سوى أنهم يشعرون بالذكاء جراء هذه المعلومات. سيشعرون بأنهم يفكرون، وسينالون إحساسًا بالحراك دون أن يتحركوا. وسيكونون سعداء لأن الحقائق من هذا النوع لا تغير.
- فهرنهايت ٤٥١، راي برادبري
لو وُهبت ريالًا سعوديًا كل مرة سئلت فيها: "أنا جديد/ة على عالم القراءة، من أين أبدأ؟" لكان لدي ما يكفي لشراء كوب قهوة يقض مضاجع رواد الأعمال ويدمر خططهم الاستثمارية. تظل فحوى السؤال ثابتةً بتعدد صيغه: ما توصياتك للمبتدئين في عالم الأدب؟ كيف تختار قراءاتك التالية؟ هل هنالك كتبٌ تشعر أن على الجميع قراءتها؟
ولأني كنت يومًا بطل سيناريو مماثل، حائرًا على أعتاب عالمٍ جديدٍ بدا وكأن كل الناس -عداي- تفهمه وتمسك بزمامه، وسائرًا في مختلف الطرقات بلا خارطة تعينني على تمييز المعالم، فأنا أعلم تمامًا ما قد يجول بخاطر السائلين وما يعتمل في عقولهم من استفساراتٍ قلقة ومشاعر ملحة بأنهم لا بد أن يلحّقوا قبل فوات الأوان. فأنا أيضًا اعتقدتُ مثلًا أن هنالك كلاسيكيات يستوجب علي تختيمها وإلا لن أصبح قارئًا، أو أن هنالك آراء ينبغي عليّ اعتناقها وإلا خرجت من الملة القرائية (لا سيما ما ارتبط منها بـ "كبار الكتّاب")، أو أن لكل كتاب منزلة "قيمية" مطلقة قياسًا على ما يقع بين دفتيه.
حين أتأمل الحال الذي كنت عليه قبل عقدٍ ونيف من الزمن، ألوم نفسي في المقام الأول على قصورها في إدراك السخافات المحيطة بها وفي التخلص من رواسب الاعتياد والألفة التي حجبت عني أسئلة أكثر عضويةً وجذرية. وفي حين أرقع لنفسي أني لست في ذلك غريبًا بحكم أن الوسط الثقافي المحلي يغذي أساسًا هذه السخافات والرواسب ويكرس الضحالة المعرفية اللا-ناقدة، فضلًا عن تنميته نزعة تدوير هذه التفاهات كلها من خلال منح مجموعة من الامتيازات والمكاسب لمن يتملق لأرباب هذا الوسط ويسير على خطاهم، فإني أعلم اليوم أيضًا أنها ترقيعة لا تعفيني من مسؤوليتي آنذاك في التنكر لأسئلتي وهمومي أنا.
ولكن لحسن حظي كبرت، سنًا وممارسة. كبرت وقررتُ أن الحياة ما تسوى، وأن هنالك حاجة ملحة للتباطؤ أو التوقف برهةً حتى لو واصل الجميع ركضهم. فمن بابٍ أول، أن تصل متأخرًا خير من أن لا تصل أبدًا، بافتراض إرادتك المضي في الرحلة. ولكن من بابٍ ثان، ماذا لو تغيرت الوجهة في منتصف المسير؟ ماذا لو كانت الرحلة نفسها هي الوجهة؟ هل علينا جميعنا المسير في الدرب نفسه؟ معليش، عثرت قبل يومين من كتابة هذه التدوينة على أول شعرةٍ بيضاء في ذقني، ولذا صار يحق لي أخيرًا التربّع على الأرض والفيض عليكم بحكمتي.
في هذه التدوينة، سأوفر عليكم تعب السنين العجاف وأشارككم ثلاثة أمورٍ وددت لو عرفتها حين صارت القراءة جزءًا رئيسيًا من حياتي. ولكن قبل ذلك، لم لا تشتركون في نشرتي البريدية؟
الحكمة الأولى: "ليش تقرأ أصلًا؟" مفتاح كل شيء
قد يبدو السؤال بديهيًا وكليشيهيًا بما فيه الكفاية -وهو كذلك فعلًا-، ولكن محاربة الكليشيهات بمثلها أمرٌ مستحب. أهدافنا من وراء القراءة متفاوتة، مثلما تتفاوت أهداف مرتادي صالات الحديد؛ هناك مثلًا من يتمرن لتقليل وزنه، ومن يتمرن للحفاظ على بنية جسمانية معينة، ومن يتمرن لزيادة نسبة العضل في جسمه، ومن يتمرن لأجل المشاركة في البطولات، ومن يتمرن حتى لكي يسوّق لنفسه على شبكات التواصل بصفته مدربًا أو خبيرًا أو ما أشبه. لكل هدفٍ خططه التدريبية والغذائية الخاصة، وكل منها مرهونٌ بتصورات معلنةٍ أو مضمرةٍ بين الفرد وذاته أو العالم من حوله.
على ذات الغرار، هناك من يقرأ ليستمتع وليزجي وقته، ومن تقرأ لتصبح موسوعية، ومن يقرأ ليبحث ويفهم، ومن تقرأ لتهايط في مختلف المحافل والمنصات، ومن يقرأ ليعيش تجارب حياتية أخرى، وغيرها من الغايات. وقتما حدد الفرد هدفه (أو أهدافه)، بات أسهل عليه تحديد الخطوات القادمة. فمن يقرأ للاستمتاع لن يعبأ إلا بما يحقق له ذلك، ولن يكلف على نفسه عناء قراءة كتابٍ ممل. ومن تقرأ بنيّة البحث ستصب اهتماماتها على حيثيات تختلف عمن يريد القراءة لكي يصبح حكواتيًا بالديوانيات (دون أن نتطرق حتى لما إذا كانت القراءة الوسيلة الأوحد لاكتساب المعرفة في هذا السياق). وأسهل من ذلك من يقرأ لأجل أن يقدم نفسه كقارئ على وسائل التواصل، إذ ينصب جهده على الحديث كالببغاء عن كل ما يقرؤه حتى لو تمثل في مكونات علبة الشامبو.
لا يهم هنا ما الموقف الذي نتخذه من الهدف (لكن مع ذلك يجب أن نتفق أن قراء الهياط وتختيم الكتب مزعجون)؛ المهم أنه هدف مشروعٌ له وسائله. بمجرد تحديد الهدف الأولي، يمكن المضي في الدرب حتى يتراءى للفرد الحاجة لتغيير الوسيلة أو الهدف أو كليهما. والأهم أن التأمل في الهدف ووسيلته لا يتحقق إلا على يد الفرد وممارسته أساسًا. ولذا لا مفر منا أن نسائل أنفسنا بين الحين والآخر: لماذا أقرأ أصلًا؟ هل هذه الوسيلة ناجعة في تحقيق الهدف؟ هل ينبغي عليّ فعل أشياء أخرى؟
ربما ينشب ناشبٌ هنا ويقول: طيب ما هو المبتدئ أصلًا يتهيب من عالم القراءة ويحس بالضياع فيه، فكيف بيعرف وش يقرأ وكيف يحققه!
هذا ما يقودني للنقطة التالية:
الحكمة الثانية: عالم القراءة وهمي
فلنترك جانبًا ما يقوله قراء تويتر الذين يملؤون تايملايناتنا بالتوصيات والعناوين زاعمين أنها تؤسس القارئ منهجيًا أو تعطيه لبًّا إرشاديًّا لكل ما سيواجهه من قراءات مستقبلية. كلهم جايبين العيد. نقطة.
تبدأ الأزمة من تخيل عالم قراءة مستقل ومقدس، عالمٍ أسسه ومعاييره محصورة على ما هو مكتوب. في هذا التخيل، تكتسب القراءة أولوية تُخضِع كل شيء لمنطقها. بعبارةٍ أخرى، يمكن قول أن القراءة تخرج من معناها بصفتها مصدرًا للفعل قرأ -بلا شروط- لتصبح حالة وجودية ومنظارًا يسبغان المعاني على التجارب الحياتية. ففي حين يمكن استخدام فكرة عالم القراءة توصيفًا مثل قولنا عالم كرة القدم أو عالم الأدب، ما أتحدث عنه هنا مختلف نوعيًا، إذ يمتلك العالم قوامًا فعليًّا يعتمل على الأذهان.
لنأخذ على سبيل المثال ماراثونات أو مسابقات القراءة أو غيرها. في سياق هذه الفعاليات التي لا هدف لها سوى الاحتفاء بظاهرة "قرائية"، ليس هنالك معنى حقيقي لأسباب القراءة ولا أهدافها ولا كيفياتها؛ لا يهمّ ما تقرأ، المهم أنك تنهي ١٠٠ صفحة لتزرع شجرة. ولا يهم لِمَ تقرأ، المهم أن تطل على المسرح فتُمثّل قراءتك. ولا يهم أيضًا أن تعيش وتفهم، المهم قدرتك على استحضار أبي حيان التوحيدي لتفسير عيشك.
ولذا ليس من المستغرب أن يهيمن مخيال وجود عالم قرائي حقيقي بدرجة ما. وقتما هُمّشت الأسئلة الذاتية، يصبح كما لو أن هنالك بالفعل عالمًا قائمًا بما يستوجب على من يودون ولوجه أن يلموا بمؤلفات/مؤلفين/ثيمات تشكّل دعامة أساس لكل ما سيأتي. ونتيجة لذلك أيضًا، تصبح عملية التفكير بحد ذاتها "نصّية"، أي أنها تدور في فلك المكتوبات لتبرير مخرجاتها. كل من يقول أن قراءة نفس الكتب تعني التفكير بنفس الطريقة (نسخة بدون تحية لموراكامي) خاضعٌ لهذا المنطق.
استكمالًا لاستنتاج حكمتي الرهيبة الأولى، يمكن استشفاف ملامح تقويض وهمية عالم القراءة: لكل قارئ عالمه الخاص المرتبط بأمانيه وتطلعاته الخاصة. الإيمان بوجود عالم قراءة بالمواصفات أعلاه يعني بالضرورة الانخراط في سيرك كبير لكل واحد فيه دوره التهريجي أو الاستعراضي أو التفرّجي، مما يعني قياس النجاح بأداء الدور على أكمل وجه. وبالإضافة لذلك، إن من يتنازل عن تفرده لأجل أن يصبح نسخةً من قارئ مثالي متوهم يكبل عقله بأصفاد العبودية الفكرية، سواء علم بذلك أم لا. يتبقى إذن التعريج سريعًا على هذه السلطات لفهم تفشيها.
الحكمة الثالثة: ابعد عن المراجع القرائية وغن لهم
يحدث أن تقع أحيانًا على حساب أحدهم التويتري، فتجد تغريدة يبتغي من ورائها الإمساك بيد المبتدئين وإرشادهم في دهاليز العناوين والأفكار. تجده يطرح عناوين "بسيطة" ومناسبة لمن يقرأ توًا، ويقترح خطة قرائية تختصر الوقت على الأفراد لئلا يجانبوا صراطه المستقيم، ولربما أخذ على عاتقه إعادة ترتيب كتب "مشروع" مفكر ما بالطريقة التي يزعم أنها أفضل للفهم (التلقين بالأصح). ولربما يخطو خطوةً أخرى متمثلة في تصنيف الكتب على طول ثنائيات تجعل بعضها جادًا والبعض الآخر غير جاد، نافعًا وغير نافع، أو لنقل أنه يقسم الكتب بشكل مطلق إلى خير وشر مجازيين.
يغذي هذا المرجع القرائي ولع السلطة لديه بواسطة تنصيب نفسه مرشدًا أعلى في عالم القراءة. فإذا ما سلمنا بأن العالم يقوم على وجود أسس وافتراضات معينة، تصبح المرجعية مرتبة منطقية مناطة بالقبض على الأسس والافتراضات ومن ثم تقرير تبعات الالتزام بقوانين الثقافة أو مخالفتها. وامتدادًا لعمليات بناء وهمية العالم، فإن المرجع يطنش هو الآخر كل الأسئلة الذاتية ليكرس أوهام الموضوعية والمعرفة المجردة ويهايط برأسماله المعرفي على الطالعة والنازلة.
وبالتالي فإن حياة المرجع إياه تتمحور دائمًا حول التصنيفات والتوصيات، وتمتد دائمًا من شخصه إلى من هم أقل منه بشكل أو بآخر. بعبارة أخرى، بمجرد نجاحه في إيهام نزلاء عالم القراءة بكونه ذا قيمة كونه ينهل مباشرة من فردوس المعرفة الكتابية، يقضي المرجع وقته في فرض شخصه والفيض بحكمته (وقد يتربع على الأرض مثلي) في مختلف مشارب الحياة، محيلًا تفسير كل واقعة وحادثة إلى قراءاته، إذ تكمن الحقيقة في النص رضينا أم انرضينا. أزمة في الهند؟ أرسطو يعتقد أن الإنسان حيوان سياسي. لبس ميسي البشت؟ هذا من تداعيات موت المؤلف. تعادل النصر والهلال؟ كارل بوبر تكهن بذلك في كتابه المجتمع المفتوح وأعداؤه.
وبما أن رأسمال هذا المرجع قائم على تكريس عالم القراءة وعلى تكريس خضوع الواقع للنصوص، فهو يسعى بكل ما أوتي من قوة لإعادة تدوير أسس العالم وحقائقه النصية بغية تنصيب نفسه وسيطًا لا مفر من المرور عبره والالتزام بنهجه. وعليه فإن المرجع القرائي يمثل فعليًا النقيض لكل ما هو ذاتي وأصيل في عملية القراءة، أي النقيض لكل ما يجعل الفرد يتوجه إلى القراءة أساسًا بهمومه وأسئلته وتطلعاته الخاصة.
أخيرًا وآخرًا
قبل عقد من الزمن تقريبًا، في خضم الثورات السياسية والتحولات الاجتماعية التي مر بها العالم العربي، وجدتني في مرحلة البكالريوس أحتاج لمعرفة العالم وسيره خارج نطاق ما ألفته. وجدت الكثير قادرًا على متابعة ما يجري وفهم سير الأحداث وماضيها، وأشفقت لنفسي على كون اهتماماتي حتى ذلك الوقت محصورةً على متابعة دوريات كرة القدم.
ولما كان ذلك، حاولتُ أن أكون أنا الآخر عارفًا. حاولت قراءة العناوين الرائجة والمتداولة آنذاك، وجاهدت من أجل اللحاق بما فاتني. آمنت بوجود عالم قراءة ومراجع قرائيين، وسعيتُ لحضور مختلف الندوات والمحاضرات، وتجولت حذرًا بين مصطلحات لم أكن أفهمها وسرديات لم أمتلك قدرة تمحيصها. في كل مرةٍ كنت أقول لنفسي أني ما زلت في طور الفهم، وتنكرت للكثير من أسئلتي الشخصية بحجة أن من استمعتُ لهم ذوو باعٍ طويل وخبرات أكبر، كل ذلك في سبيل الخروج من حالة القصور التي وجدت فيها نفسي.
اليوم أدركتُ أن الظاهرة -كغيرها- قد تكون ضربًا من الاستهلاك والسعي خلف وجاهات ومكاسب سياسية واجتماعية ومادية، وأدركتُ أن غالبية أرباب الوسط الثقافي ببغاوات تعيد ترديد العبارات التي حفظتها بين الحين والآخر، وأدركتُ أن مسؤوليتي في بناء أجوبة الأسئلة التي تؤرقني تعني أيضًا السعي للمستمر للتخلص من التعليبات والتبشيرات التي تنضح بها وسائل التواصل، كما أدركت أني سأظل أتابع مختلف مباريات ودرجات الدوري السعودي دون الحاجة لتبريرها بمجتمع الفرجة والانتماءات العقلانية. وبما أني انتهيت من الفيض بحكمي، آن الآوان لأنزع الشعرة البيضاء من ذقني.