لما بدأت قبل كم يوم قراءة خاتم الرمل (١٩٩٥) للروائي العراقي فؤاد التكرلي، كنت أعتبرها خطوة أولى سريعة الهضم قبلما أقرأ مؤلفاته الأطول. الفكرة إني إذا بديت قراءة مؤلفات روائي ما سبق وقريت له، أفضّل أبدأ بشيء قصير من باب جس النبض؛ إذا ما بلعت الروائي في عمل ما يتعدى مئتين صفحة، فما بأجبر نفسي على شيء طويل يستنفد رصيد صبري وعزيمتي شهرين أو ثلاثة قدام. وفي حالة التكرلي، كنت مجهز أقرأ المسرات والأوجاع (١٩٩٨) واللاسؤال واللاجواب (٢٠٠٧) قياسًا على الزخم اللي يحيط بهم، وبالتالي كان عندي حافز أكثر من كافي عشان أطبق فلسفتي وأشوف إذا أقدر فعلًا أقرأهم بدون مشاكل.
بس زيما هو متوقع بعض الشيء، ما قدرت أتقبل خاتم الرمل نهائيًا. أقول "متوقع بعض الشيء" لسببين: أولًا، عندي تحيز مسبق ضد بعض الأسماء المكرسة من قبل جماعات معينة. حاولت مليون مرة أتجاوز هالتحيز، بس للأسف نادرًا ما اختلفت النتيجة النهائية. خلاص تيقنت إنه بعض العصابات تعزز لمفهوم "أدب" يختلف تمامًا عن اللي أتصوره وأميل له.
ثانيًا، كنت حاس من ثيمات روايات التكرلي اللي قرأت عنها إنه مو جوّي، وإنه همومه وقناعاته تختلف بشكل كبير عن همومي وقناعاتي. يعني خلني آخذ مثال جزء من نبذة المسرات والأوجاع اللي في جودريدز:
قليلة هي الروايات العربية التي يستطيع الناقد أن يصفها بأنها من كبرى الروايات الإنسانية, ويدخلها في زمرة الروايات الكبيرة. وهذه الرواية من الروايات العربية القليلة التي تعد على أصابع اليد الواحدة والتي يمكن أن تدخل في زمرة هذه الروايات الكبرى التي تنطوي الرواية على حوارها التناصي الفريد مع عدد كبير منها. وهو حوار تناصي ثري توظفه الرواية لتوسيع أفق رؤيتها وصياغة وعيها النقدي من أسلافها في آن.
على كثر الكلمات البراقة في هالنبذة، بس فعليًا ما قاعدة تقول لينا أي شيء عن الرواية. ومن تجربتي الشخصية صرت أشك بنسبة ٩٠٪ إنه النبذة البراقة-ظاهرًا-الخاوية-باطنًا محاولة للالتفاف على خواء الرواية بحد ذاتها. وهذا بالإضافة إلى الاقتباس من خزين اللامرئيات برضه اللي كان أكبر دليل على إني ما ببلع أسلوب التكرلي. بس ما علينا، مو موضوعنا كل مؤلفاته. المهم إني حاولت أتجاهل كل هالدلائل وأقرأ خاتم الرمل بنفسي لين تأكدت إنه تكهناتي المسبقة في محلها.
لكن اللي ما توقعته هو إنه الرواية تكشف لي -أخيرًا- واحد من أسباب سوء الروايات العربية اللي أكرهها. فيه بعض الروايات سببت لي حموضة قرائية وخلتني أتمنى أشق ثيابي، زي رامة والتنين والحي اللاتيني ويمكن حتى العراك في جهنم إذا بغيت مثال جديد، ومن بينهم بشكل أخف شوية موسم الهجرة إلى الشمال اللي كتبت فيها خربوشة عن أسباب اعتقادي بكونها جذر لرداءة الرواية العربية. ومع إني كنت أقول من زمان إنه فيه علاقة بين كرهي لهالروايات وبين تكريسها لنمط معين من الكتابة الأدبية الموروثة من جيل نضج في الستينات والسبعينات، لكن ما ركزت بصراحة على تفاصيل هذي العلاقة. والحين بعد سنوات طويلة، اكتشفت أخيرًا وشو هو القاسم المشترك بين كل هالروايات "الكلاسيكية": المثقف البائس الإيدجي العبثي (مباع).
كل هذي الروايات تتمحور بشكل رئيسي حول مؤلف/سارد يقدم نفسه على إنه مثقف وجودي يستشعر فوقيته الفكرية والأخلاقية، ويمارس عبثيته ببجاحة في حياة يعتبرها حقيرة. وهذا الشيء واضح من أول كلمة لآخر نقطة. بمجرد يبدأ القارئ الرواية، يشوف نفسه قدام سرد يمازج ما بين العناصر "الأدبية"، وما بين الخواطر الفكرية أو العاطفية، وما بين النقد الاجتماعي والسياسي، وما بين التوثيق التاريخي. وفيه بونص للمؤلف/السارد اللي يستحقر حتى القارئ من خلال محاولة فرض سطوته وهيبته الثقافية واستعراض الأسماء والفلسفات وغيرها. وبالتالي، المحصلة النهائية هي خليط رديء يجيب اللوعة للقراء المساكين اللي زيي.
وما أعرف ليش ما فكرت بالموضوع من قبل. جيل الديناصورات نشأ في فترة كانت الموضة الثقافية الرائجة عند مراكز "الحضارة" اللي يقدسوها هي الفلسفات الوجودية و/أو العبثية. ولما نضيف لها حركات التحرر من الاستعمار في بعض الدول العربية ومزيج القومية والتحديث والاشتراكية والشيوعية وغيرها من البضاعة اللي كانت متوفرة في السوق هذيك الأيام، فعندنا شروط إمكان تبلور روائيين يشوفون نفسهم فعلًا طلائعيين قادرين على تقديم صكوك نجاة المجتمع والدولة والعالم من خلال كتاباتهم. والأعظم إنه هذا الاعتقاد مجرد استلاب فكري غير واعي، وهذا واضح من الطريقة اللي تُطرح بها فلسفات الخلاص وغايات التحديث، ومن العلاقة ما بين المبااااعي القابع في الهامش وبين "مراكز الحضارة".ولذلك مو صدفة إنه الكثير منهم يؤمن إيمان منقطع النظير بإنه الأفكار هي اللي تغير الواقع المادي، بالمعنى المثالي التام للفكرة، وبإنه هذي الأفكار مجربة عند المجتمعات المتقدمة وأثبتت نجاحها. وهذا الإيمان يتجلى -لسوء حظنا- في معالجة المباعي "الأدبية" للماضي والحاضر والمستقبل؛ يتحول العمل الروائي عندهم إلى شيء أشبه بالبيان أو الموقف الجمعي. وعارفين وشو هو أساس هذا البيان أو الموقف؟ اعتناق آيديولوجيا ترسم طريق الخلاص.
ولكن المشكلة مو بس في التوظيف الآيديولوجي، عادي هالشيء ممكن ينبلع. المشكلة في إنه يتحد ويا المؤلف/السارد عشان يُخضِعون العناصر الروائية كلها لأولويات تستند شرعيتها على شخص المؤلف نفسه. مهم إني أشدد على فكرة "المؤلف/السارد" هني: بشكل عام، لما أبدأ قراءة أي رواية، أبدأ بمحاولة التمييز النظري ما بين صوتين مختلفين: صوت المؤلف، وصوت السارد. السرد في أي رواية عبارة عن توليفة ما بين الصوتين: فيه روايات يكون فيها السارد منفصل تمامًا عن المؤلف، وفيه روايات يكونون فيها متطابقين، وفيه روايات يكون فيها المؤلف جزء من السرد بدون ما يتبنى شخصية السارد، وفيه روايات واضح إنه السارد يتشارك مع المؤلف العديد من الصفات بدون تطابق تام. ومو السالفة إنه وحدة من هذيلا التوليفات صح والباقي خطأ، أبدًا. السالفة إنه كل تقنية قابلة للنجاح وفق رؤية العمل الروائي نفسه. بعبارة أخرى، نجاح التقنية المستخدمة مرهون بالدور اللي تلعبه في الرواية. كون الدجاج مكوّن رئيسي في كبسة الدجاج لا يعني إنه ينفع ينحط في صالونة السمك.
لكن لا أشطح للأكل وأنا جوعان، خلني أرجع للمؤلف/السارد. في الرواية المباعية، يستحيل الفصل ما بين الصوتين ولو نظريًا. ليش؟ لأنه الانفصال بينهم ما هو شيء في الحسبان. وليش ما هو في الحسبان؟ لأنه الرواية هني مجرد وسيلة يستخدمها المؤلف عشان يوصل أفكاره للقارئ، فما يحتاج يكثر تقنيات قد تخل برساليته وتبشيريته. وهذا هو جوهر الموضوع: رداءة رواية جيل الديناصورات سببها توظيفهم الآيديولوجي المفرط للرواية ولعناصرها عن طريق اعتبارها امتداد للمؤلف وفكره الرفيع.
وبصراحة محسوبة نقطة لصالح المؤلف هني، لأنه يدري إنه استخدامه لشكل كتابة رائج زي الرواية بيعفيه أولًا من تهمة اعتناق الأفكار الواردة فيها (موت المؤلف حسب فهم المثقف الديناصوري)، وبيعطيه صلاحية تبرير كل خلل فكري من باب إنه المعالجة الأدبية تتنافى ويا الاستعراض الدقيق للفكرة ولوازمها وتبعاتها.
وقبل ما يجيني واحد ويقول طيب يا حسين هذا أنت تناقض كلامك بكون الموضوع مرتبط بالدور اللي تلعبه التقنية في الرواية، فوين الغلط لو صار تمازج ما بين المؤلف/السارد بالشكل اللي تنتقده بحيث ينجح "أدبيًا"؟ سؤال جيد، من هو الذكي اللي سأله؟ تمام، تستاهل خمس درجات في المشاركة. عمومًا، الغلط هو نفس السبب السابق اللي ذكرته: إنه الرواية المباعية تؤسس لمشروعيتها من خلال الاستناد بشكل رئيسي على المؤلف. وتذكروا، مو أي مؤلف، بل مؤلف مباعي، صوت من لا صوت له، الدين أفيون الشعوب.
ولذلك إذا جاء فؤاد التكرلي وقال في خاتم الرمل: "ليس الإنسان إنسانًا دون شروط أو امتحانات؛ لأن الحالة الإنسانية، المعترف بها، ليست حالة آلية، تلتصق بهؤلاء الذين نسميهم بشرًا منذ أن يخلقوا ولا تفارقهم حتى وهم تراب." فعمق هالشيء يُنسب لكون التكرلي هو قائله. لكن لو قاله مغرد في تويتر (خل نفترض اسمه حسينزم)، فردة الفعل بتكون: "وش قاعد يخربط هذا؟" وهذي هي ردة الفعل الطبيعية، اللي هي مساءلة المقولات التأملية على ضوء خرابيطيتها. بس اللي تسويه الروايات المباعية هي إنها تموه كيفية تلقي هذي العبارة عن طريق تضمينها في رواية تبرئ مثل هالخرابيط من أي حمولات ثانية، وتقدمها كما لو إنها جزء من وجدان إنساني جمعي.
فتخيلوا كيف تتفاقم المشكلة لما تكون الرواية مباعية ورديئة أدبيًا في الوقت نفسه؟ ما بأطول هني، خاتم الرمل ما تستاهل، وأصلًا ٩٠٪ من الملاحظات اللي قلتها عن موسم الهجرة إلى الشمال تنطبق هني. عندنا أولًا بطل يموت فجأة نهاية الرواية، وهذا الشيء يخلي السرد كله في الرواية محل إشكال. يعني هي الرواية تُسرد من خلال فيض وعي البطل الدلوع اللي يسرد الأحداث بصيغة المضارع أثناء حدوثها، وبالتالي فهالمنظور مقبول طالما التزم بكونه مبني كاملًا على استحالة إنه السرد "مكتوب" وموجه لقارئ ما. وافتتاحية الرواية مناسبة كمثال على كيف المفروض التقنية تصير:
مثلما هو واضح، كل شيء بصيغة المضارع وقاعد يتطابق ويا كون السرد مرتبط تمامًا بوعي وحواس السارد. بس لما أحط هالشيء بعين الاعتبار وبعدين أشوف جزئية زي هذي:
فأنا هني قدام مشكلة عويصة؛ هذي الجزئية تستخدم سرد بصيغة الماضي عشان تتخطى أحداث صارت في اللحظة الراهنة، اللي هو زمن المضارع. لو كان السرد هني مرتبط بوعي السارد، كان ما بيحتاج أساسًا يطلع من اللحظة الراهنة عشان يلخًصها. ولكن الخلل السردي متمثل في إنه طلع من هذي اللحظة ودخل في تقنية سردية مختلفة تمامًا، في هالحالة تقنية السارد اللصيق اللي يُخاطب قارئ أو مستمع. وهالشيء يتفاقم في الجزئيات اللي يستخدم فيها السارد ضمير المخاطب بالمفرد أو بالجمع:
ويتكرر شيء مشابه لما يتبنى السارد أسلوب "التشويق"، بمعنى إنه يتكلم عن حدث أو شخص بغموض شوية عشان يسترعي انتباه القارئ قبلما يكشف السارد تفاصيله:
في هالحالة، هالتقنية هي الأخرى مبنية على افتراض قارئ غير متوائم مع أسلوب فيض الوعي اللي تبناه، مثل التفاصيل اللي يذكرها السارد عن الأماكن اللي تصير فيها الأحداث:
زين يا حسين بطّل استقعاد على هالأمور. هالتفاصيل ما تغير حقيقة إنه خاتم الرمل عمل عظيم ببطل وجودي لا تقل وجوديته عن ميرسو بطل الغريب. ولا يهمكم آمنا بالله نتغاضى عن الخلال السردية. بأختم بتشك لست قصيرة أقيس عليها مباعية خاتم الرمل:
✓ بطل مثقف يحب الأدب مع إنه يشتغل بمهنة مالها دخل ويسمع شوبان
✓ أمزح، من قال مالها دخل؟ البطل المثقف مهندس معماري دخل التخصص عشانه يمثل قمة التزاوج بين الهندسة والفن، ويتهاوش ويا مديره اللي يطمح للربح على حساب الاستطيقا
✓ الشخصية الأنثوية الرئيسية في الرواية مُعرفة من البداية للنهاية بجسدها وسيقانها نهدها. وتدخن.
✓ عقدة أوديب مضروبة لأنه البطل يحب ويغار على أمه المتوفية ويكره أبوه ويتهمه بكونه سبب موتها
✓ حبكة خالية من الأحداث ومليانة بالرمزيات والتأملات اللي تتبلور أثناء المشي أو سواقة السيارة
✓ تمرد على قيم وعادات المجتمع البالية
فالشاهد من كل هالثرثرة إنه الرواية مباعية، وإنها رديئة أدبيًا، شاء من شاء وأبى من أبى. والإطار الوحيد اللي يفسر اعتبار كاتبها من رواد الرواية العربية وكلاسيكياتها هو إنها مبنية على مباعية ورداءة قابعتين في قلب المشهد الثقافي العربي بأكمله، وهو نفس المشهد اللي ما يزال قائم على آيديولوجيات ومقدسات جيل الديناصورات.