إن كنتم قرأتم تجربتي الجامعية الفاشلة في الجزء الأول من هذه التدوينة، فلعلكم تتذكرون أني كنت على أعتاب صدمة أولى. وليس السبب وحده أني على وشك أخذ كورس سيغير من مجرى حياتي للأبد، بل كون تلك اللحظة صاحبت القرار السابق بأني لم أرد إضاعة سنتين من حياتي (أو أقل حتى) في إعادة دراسة تخصص جديد أو الانتقال لجامعة أخرى أو ما أشبه. ولذا، بعد فصل خريف ٢٠١٢ الأسوأ، كنت قد استعددت نفسيًا للخروج من عباءة علوم الأرض مع بقائي متخصصًا فيها.
لكن أظن مثل هذه التفاصيل واضحة. ما يهم الآن هو أعتاب الصدمة الأولى إياها، والتي حدثت مطلع فصل ربيع ٢٠١٣، أي بعد أخذي كورس التاريخ الأول. كنت قد سجلت في الكورس الإلزامي الثاني عن تاريخ الولايات المتحدة، مهنئًا نفسي هذه المرة على الظفر بمقعد في صف بروفسور easy A اسمه ويليام كولوبي. لما حل أول أيام الكورس، دخلت إلى مبنى متواضع لم يسبق لي دخوله. كل ما عرفته عن المبنى أنه قريب من مبنى الـO&M (مبنى العلوم المحيطية وعلوم الأرصاد الجوية) الضخم المميز القابع على أطراف الحرم الشرقي من الجامعة بالنسبة للقادم من مدينة كولج ستيشن. دخلت القاعة المدرجة، واتخذت لنفسي مقعدًا في الصف الأخير لأجس نبض الكورس وأقرر أين سأجلس في قادم الأيام.
انلخمت لما دوّر البروفسور علينا ورقة فيها خارطة جلوسية للصف، وطلب منا تسجيل أسمائنا على الورقة بحسب موقع جلوسنا على مقاعدها. حضرت كورسات كان الحضور فيها إلزاميًا من قبل، ولكن أول مرة يُطلب منا الجلوس في نفس المقعد كل مرة. ازداد الأمر غرابة لما أخبرنا كولوبي خلال الدقائق التالية أنه لن يرد على أي إيميل لا يلتزم بمعاييره المتمثلة في افتتاح الإيميل بعزيزي السيد كولوبي وتذييله بأطيب التحيات واسم المرسِل، أو ما أشبه من ديباجات وخاتمات مؤدبة بتنا نفتقر إليها في عصر الرسائل الفورية حسب تعبيره. ولكن كل شيء يهون عشان الـA، حتى مثل هذا البروفسور الذي بدا مليئًا بنفسه.
لكن كل توقعاتي بغرابة الكورس أو تشابهه مع كورسات التاريخ الذي أخذتها قبلًا تحطمت منذ الأيام الأولى؛ فوجئت بدخولي عالمًا مختلفًا تمامًا. البروفسور ويليام كولوبي عسكري أمريكي سبق وأن شارك في حرب فيتنام وخدم في وظائف عسكرية مختلفة أكثر من عقدين من حياته. جعلته التجربة التي مر فيها يبني أفكاره الخاصة حول السياسة الخارجية الأمريكية والعلاقة بين التأريخ الذي يُدرّس والتاريخ المُعاش، وكل هذا انعكس على طريقة تدريسه ومواضيع تركيزه.
فبالإضافة للتحولات التاريخية المعتادة في السرد التاريخي التقليدي، تناول البروفسور ظواهر تتجاوز الفضاء السياسي المباشر، ظواهر حول تحولات اجتماعية (إقليمية وعالمية) تتأثر بها أبسط تفاصيل الحياة اليومية، وهي نفس الحياة التي عاش بعض أبعادها. كنتُ أجلس كل حصةٍ مشدوهًا بما أرى وأسمع وأقرأ، لا أشعر بمرور الدقائق حتى يعلن البروفسور انتهاء الحصة رسميًا. وكان من الطبيعي أن ندخل نحن الطلاب الصف على أنغام أغنية قديمة يخبرنا بوقعها لما صدرت، أو أن نقضي الخمسين دقيقة نشاهد جزءًا من فيلم مرتبط بثيمة الأسبوع، أو ربما نستطرد سريعًا للحديث عن كتاب ألفه رجل إطفاء يتناول فيه صعوبات مهنته في العقد السابق. كل ذلك في سبيل جعل التاريخ حيًا بما يتجاوز أطر الكتاب المدرسي المكلفين به.
بعد أسابيع بسيطة من بداية الفصل الدراسي وإدراكي أني وجدت نفسي حيث أنتمي، راودتني فكرة الحصول على تخصص ثانوي في التاريخ. راسلت البروفسور لتنسيق جلسة خاصة في مكتبه، واجتمعت معه في أحاديث ونقاش جاوزت الساعة دون أن نشعر بالوقت. أخبرته بالفكرة، وسألته عما إذا كان هناك بروفسورات ممن يؤمن بقدرتهم على إيصال تجربة مشابهة. أشار عليّ ببعض الأسماء واقترح علي بعض الكورسات المعروضة التي تتقاطع مع اهتماماتي المعرفية أو المواقعية. وما إن خرجت من باب مكتبه جتى قررتُ التقدم رسميًا بطلب الحصول على التخصص الثانوي.
بما أني قد استوفيت ست ساعات في التاريخ، وجب علي أخذ تسع ساعات إضافية إذا ما أردت الحصول على التخصص الثانوي، أي ما يعادل ثلاث كورسات. قررتُ أخذها في كورسين نصحني بهما كولوبي: التاريخ الأمريكي بعد الحرب العالمية الثانية عند تيري آندرسون، وتاريخ العلاقات بين أمريكا وأمريكا اللاتينية عند آندرو كركندال. أما الكورس الأخير أخذته باختياري: تاريخ عصر النهضة والإصلاح عند إيدا بالمر. في أولى هذه الكورسات، إلى جوار السيرة الذاتية الرائعة المحاربون لا يبكون، قرأنا رواية مهد القطة ضمن المنهج المقرر. أي واحد يعرفني المفروض أنه يعرف مكانة الرواية في قلبي، حيث زرعت فيني أشجارًا ما تزال تؤتي ثمارها. في تاريخ العلاقات بين أمريكا وأمريكا اللاتينية، شاهدنا فيلم أربعة أيام في سبتمبر عن اختطاف السفير الأمريكي في البرازيل عام ١٩٦٩، وساعدنا في فهم العديد من سياقات الفيلم والأحداث التاريخية أن البروفسور قريبٌ من البرازيل قلبًا وقالبًا (كان يتحلطم عن عدم تمكنه من الذهاب للبرازيل ذلك الصيف بسبب كأس العالم، مما يعني تعطل بعض أبحاثه). من خلال هذا الكورس بدأت العلاقة بين التاريخ والفن ترتسم بذهني بأشكال جديدة.
ثم في كورس تاريخ عصر النهضة والإصلاح، وجدتني أدرس الماضي من خلال جحيم دانتي وسيرة تشيليني الذاتية وخطابات جيوفاني الميراندولي وعشرات اللوحات التي يتصارع رساموها في ترسيخ مكانة مدن على حساب أخرى. تيقنتُ حينها أن شغفي للعلوم الإنسانية لم يكن وليد اللحظة ولم يقتصر على التاريخ كما تصورته سابقًا؛ للمرة الأولى، رسم ذهني علاقة جوهرية بين ما كنت أميل له من مؤلفات أدبية/فكرية وبين جوانب التاريخ التي كنت أهواها، واكتشفت ألا تعارض بين الاثنين.
وصادف في نهاية هذا الفصل الدراسي الأخير في مسيرتي البكالوريوسية أني أصبتُ بتمزق منعني من ممارسة الكرة أو أي رياضة أخرى، وهذا ما مكنني من استغلال كل الوقت الذي كنت أكرسه لممارسة الرياضة في سبيل استكشاف اهتماماتي الجديدة. بت أمتلك متسعًا من الوقت لمتابعة شغفي الذي أخذ يتبلور يومًا بعد يوم، هذا الشغف الذي كان شرارة استمرار تعلمي فيما تلا من سنين.
إن السطور أعلاه إجابة طويلةً على السؤال الذي طرحته في الجزء الأول، عما إذا كان الانتقال من علم الأرض للآداب أولًا والتاريخ ثانيًا شطحةً أم لا. من الجلي أن الآداب لم تكن نقلةً جوهرية بتاتًا، بل أزعم أن علم الأرض أقرب لأن يكون هو الشطحة في سياق ما ذكرت. وفي نفس الوقت، منذ منتصف دراستي البكالوريوسية وأنا أميل للتاريخ المصاغ ضمن الإنسانيات بشكلٍ أوسع أصلًا. لكن هذه الإجابة لا تفي بالغرض فيما يتعلق بالاستفسارات الأخرى حول نوعية التجربة الدراسة وتغيير التخصص. من البديهي أن تجربتي الدراسة مختلفتان جذريًا، ولذا يستحيل عليّ تقديم إجابة وافية دون التعريج على العديد من التفاصيل والاستطرادات. سأحاول في السطور القادمة اختصار بعضها.
منعطف الآداب الحرة
منذ تخرجي ببكالوريوس الجيولوجيا عام ٢٠١٤ وأنا أبحث عن برامج مختلفة يمكنني عبرها مواصلة دراسة الماجستير عن بعد. ظللت على هذه الحال فترة طويلة ومتقطعة بطبيعة الحال نظرًا لظروف العمل والتزاماته. وإن دلت السطور أعلاه على شيء، فهي أني ما زلت لا أعرف ماذا أريد بالضبط؛ صحيحٌ أني أميل للتاريخ، ولكن لم أجد برنامجًا يحتوي اهتماماتي أو تطلعاتي البحثية (أو أني وجدتها في جامعات مرموقة استصعبت قبولي فيها)، فضلًا عن أني مهتمٌ أيضًا بالأدب والعلوم السياسية والفلسفة وعلم الاجتماع، الأمر الذي صعّب علي اختيار مجال واحد من بينها كلها.
ولذا حين وقعت صدفة على صفحة ماجستير الآداب في جامعة جونز هوبكنز، وقرأت منبهرًا تفاصيل البرنامج والكورسات المعروضة والمتوفرة، شعرت بأن هنالك فخًا ما. لمن لم يسمع بالآداب الحرة (Liberal Arts) من قبل، يمكن تعريفه بأنه تخصص (نعم، أدرك المفارقة في تسميته تخصصًا) إنساني ذو جوهرٍ بَيْنِيّ، يهدف إلى تكوين ذاتٍ قادرةٍ على رؤية العالم في تشابكه. فكرة الآداب الحرة بحد ذاتها موجودةٌ منذ العصور اليونانية والرومانية الكلاسيكية، حيث كانت تشير بشكلٍ عام إلى المباحث الحري دراستها على يد الأحرار. اشتملت هذه الآداب قديمًا على سبعة آداب مقسمةٍ إلى قسمين: هناك الآداب الصغرى، والتي تشمل النحو والمنطق والبلاغة، وهناك الآداب الكبرى، وهي تشمل الحساب والفلك والهندسة والموسيقى.
ماجستير الآداب الحرة لا يختلف كثيرًا عن هذه الفكرة القديمة، إذ تتضمن بنيته مختلف المجالات الإنسانية من تاريخ وفلسفة وسياسة وأدب وموسيقى ومسرح وغيرها. وبالإضافة لذلك، تقوم فكرة التخصص على تكامل المجالات المنطوية تحته، أي على كونها كلها ضرورية في تنشئة ذات إبداعية قادرة على تعميق فهمها للعالم دون محاولة فصل أي مجال عن حيثيات المجالات الأخرى.
شعرت أني عثرت على ضالتي أخيرًا. ولكن بدا الأمر أروع من الخيال. هل هو حقيقي يا ترى؟ قرأت صفحة الشروط مرة تلو الأخرى باحثًا عما قد غفلت عنه سابقًا. ربما كان البرنامج موجهًا للطلاب الأمريكيين فقط؟ هل هو امتداد لمجالات معينة أجهلها؟ هل هنالك بين السطور ما عجزت عن إدراكه؟ كل الإجابات صبت في صالحي: أنا مستوفٍ للشروط الأولية. والأحسن من ذلك أني وجدت البرنامج خطوة انتقالية مهمة إذا ما أردت مواصلة دراستي في التاريخ لاحقًا، لا سيما وأن العديد من الكورسات فيه ضمن المباحث التي تثير اهتمامي.
قررت في تلك اللحظة أواخر شهر مارس ٢٠١٦ أن أسجل بالبرنامج، وبالطقاق. إذا فهمت التفاصيل خطأ أو كنت غير مؤهل، فليس ثمة ما أخسره بتقديم طلب الالتحاق غير وقتي (من قدّم طلب التحاق بجامعة أمريكية يعرف ما أعنيه، حيث تبلغ التفاصيل أحيانًا بأن يسألوك عما تناوله جدك على الغداء يوم ولدت). لذا فتحت الطلب، عبأت بياناتي الأساسية من اسم وعنوان ورقم جوال وغيرها، ومن ثم أغلقت اللابتوب لمواصلة التقديم في وقت آخر.
بعد عودتي من الدوام في اليوم التالي، جلست على مقعدي الأحمر المخصص للگيمنگ، ولبست السماعات، وشرعت في لعب كول أوف دوتي كما أفعل كل يوم. طقسٌ لا بد منه بعد الدوام للتنفيس قليلًا. بعد المغرب بقليل، في معترك اصطياد الأعلام وأصوات الرصاص وانفجارات التكنولوجيات المستقبلية، فوجئت بجوالي يرن. ألقيت نظرة سريعة على الشاشة فوجدت مكالمة دولية من رقم غريب. كدت أتجاهل الرد معتقدًا أنها مكالمة أمير نيجيري أو شخص من المالديف، ولكن انتبهت أنها قادمة من ولاية ماريلاند، من مقر جامعة جونز هوبكنز.
أزلت السماعة عن أذني، ورديت بتوتر وبحيرة: آلو؟ السيد حسين إسماعيل؟ معك آشلي من مكتب القبول في جامعة جونز هوبكنز. هل هذا وقت مناسب؟
كنت أتوقع أنها ستقول شيئًا من قبيل: وين يالحبيب شفيك مضيع! لكن المفاجأة أنها سألتني إذا ما كانت لدي أي أسئلة أو ما إذا احتجت مساعدة أثناء عملية التقديم. ولما أخبرتها أني ما زلت في البداية وليس ببالي أي سؤال بعد، كافأتني بإجراء مقابلة معي. نعم، مقابلة. انتقلت من التحديق في شخصيتي الكول أوف دوتيّة واختيار الأسلحة والبيركات التي سألعب بها إلى الإجابة عن أسئلة متعلقة بأسباب التحاقي بالبرنامج وبتطلعاتي من ورائه، فضلًا عن خلفيتي الأكاديمية وأين أرى نفسي خلال السنوات الخمس القادمة.
غني عن الذكر أني جبت العيد. لم أكن مستعدًا بتاتًا. أجبت بالقليل من الكلمات دون أن أجيب فعلًا. كل ما دار ببالي حينها هو: وش هالموقف البايخ...
ولكن الحق أن آشلي كانت متعاونة تمامًا خلال كل المكالمات، بل وأخبرتني بعد إكمالي الطلب الأولي أن الملف سيعهد به إلى زميلتها التي ستجري مقابلة أخرى معي، مانحة إياي فرصة مناسبة لملء مخي بمختلف الأجوبة لِمَا اعتقدت أنها ستسأل عنه. وناهيكم عن الذكر أن طول لساني سلاحٌ ذو حدين، وحالفني الحظ أن معسوليته حينها لاقت استحسانًا كبيرًا شعرت معه أني مقبول فعلًا. بل في حين أملت الالتحاق في بادئ الأمر بفصل الخريف الذي يبدأ في أغسطس من العام نفسه، شُجّعت على الالتحاق بفصل الصيف الذي يبدأ في مايو، أي بعد شهر ونصف تقريبًا من تقديمي.
وهذا ما حدث. قُبِلت قبولًا مشروطًا -نظرًا لمعدلي البكالوريوسي- في مايو. كانت هنالك ثلاثة مسارات في البرنامج:
مسار يتكون من تسعة كورسات + رسالة بحثية
مسار يتكون من تسعة كورسات + فترة تدريب
مسار يتكون من عشرة كورسات وبورتفوليو
اخترت شخصيًا المسار الثالث لأني أردت استغلال الفرصة في دراسة أكبر قدر ممكن من المواضيع التي تهمني أو تثير اهتمامي. يمكنك تفقد قائمة الكورسات المعروضة في البرنامج من خلال هذا الرابط، وسأورد أدناه الكورسات العشر التي قررت أخذها بالترتيب:
الاستشراق والاستغراب: التاريخ الوجيز لوهمين
صعود واضمحلال الحضارات: من الإمبراطورية الرومانية حتى البريكست
الفلسفة السياسية الغربية
الفكر السياسي الأمريكي
العرق والتعددية في المجتمع الأمريكي المعاصر
البلدونغزرومان بوصفها شكلًا أدبيًا
ما هو التاريخ؟
المدرسة والمجتمع: إعادة تخيل التعلم وكشف الإمكانيات
غَدُ الأمس: المستقبل اليوتوبي والديستوبي في أدب الخيال العلمي
أرسطو وهوبز
في اختياري للكورسات، اعتمدت على ثلاثة أسس: أولًا، على مدى اهتمامي في موضوع الكورس وثيماته المبحوثة؛ ثانيًا، على مدى تقاطعه مع ما أخذته قبلًا (يمنعني ضيق الوقت أحيانًا من بدء كل شيء من الصفر، ولذا لجأت لترتيب الأولويات نوعًا ما)؛ ثالثًا، على حسب امتلاكي بعض قراءاتها المطلوبة، حيث كنت أراسل كل بروفسور وأطلب منه إرسال السيلابس في حال توفره لمعرفة ما أحتاجه من كتب. وفي أغلب الأحيان، فاضلت بين كورسين مهتم بهما عطفًا على توفر الكتب من عدمها. وعلى الرغم من رضاي التام عن الكورسات العشر أعلاه، ما زلت أشعر بالندم بعض الشيء لأني اضطررت لتفويت أخرى عن النظرية النقدية، ولماذا نقرأ الكلاسيكيات، وسبل المعرفة، والأخلاق في عالم متعدد الثقافات، وحتى التاريخ الاجتماعي للطب.
على أية حال، لكل كورس طريقته ومنهجيته الخاصة، في أغلب الأحيان، تشاركت الكورسات انعدام المحاضرات وتمحور الواجبات الأسبوعية والنقاشات والأبحاث على القراءة والكتابة المكثفتين. أقول مكثّفتين بالنسبة لي كخريج علوم طبيعية غير معتاد على محورية هذا الكم من القراءة والكتابة (وحتى النقاش) في التعلم بقدر محورية شرح الأستاذ ودراسة معارف محددة. فليس الأمر أني حر في اختيار الكورسات وحسب، بل حر لحد كبير في كيفية مقاربة المواد المطروحة وفهمها.
لكن هذه مرحلة لاحقة. في الأسابيع الأولى، بدا وكأن جاهزيتيّ للبرنامج موضع شك بالفعل. كنت آخذ كورس الاستشراق والاستغراب في صيف ٢٠١٦. فصول الصيف الدراسية أقصر من بقية الفصول، مما يعني بطبيعة الحال أن أعباء المتطلبات أكثر وأشد وطأة. من المتوقع منا قراءة ما يقارب ٢٥٠-٣٠٠ صفحة أسبوعيًا ومن ثم كتابة مقالة نقدية عما قرأنا، فضلًا عن مشاركتين نقاشيتين أسبوعيًا على البلاكبورد.
بالنسبة لطالبٍ لم يقم بأي شيءٍ شبيه بهذا خلال سنين حياته الأربع والعشرين، بدا بأن الوضع لا يُطاق. زاد الوضع سوءًا عجزي عن الحصول على أي A في الأسابيع الأولى مهما حاولت، وهو ما دفعني للاعتقاد بأن سقف مستواي وقدراتي الحقيقيين أقل مما توقعت. لم يكن من السهل الاعتياد على قراءة كتابٍ بحثي ومن ثم الإجابة على سؤال النقاش المطروح: "انقد الكتاب". لكن بعد تجاوز هذه المرحلة المبدئية وما صاحبها من صعوبات في التأقلم على النظام الجديد، اكتسبتْ القراءات والكتابات المكثفة متعة لا مثيل لها. وصحيح أن الوقت ضيق والالتزامات لا تنتهي، وصحيح أني ضحيت بساعات نومي وحياتي الاجتماعية، لكن في نهاية الأمر انتزعت الـA رغمًا عن أنفها في كل كورس أخذته.
المهم، هذا مثال وحيد لتقريب فكرة بنية الكورسات خلال أسابيع الدراسة. أضيف عليها أنه لم تكن هنالك أي اختباراتٍ بالمفهوم التراكمي الشائع الذي يستوجب علينا استذكار كل ما درسناه خلال الفترة التي مضت. حتى ما سُمي بالاختبار النصفي أو النهائي كان مقاليًا-بحثيًا، كأن يُطلب منا تناول سؤالٍ معين في خمسة صفحات مثلًا، ونُعطى مهلة أسبوع لكي نجري بحثنا ونحاول الإجابة. كل الكورسات تقريبًا تشاركت فرض ورقة نهائية نبحث فيها سؤالًا معرفيًا مرتبطًا بالكورس وثيماته الرئيسية. وكل هذا على خلاف ما عهدته من اضطرار في مرحلة البكالوريوس لمراكمة كل المعلومات وحفظ كل ما أستطيعه والتمرس على حل كل المسائل الداخلة في الاختبار.
على هذا المنوال، بين قراءة الكتب والأبحاث والمقالات ومشاهدة الأفلام، وبين كتابة آلاف الكلمات أسبوعيًا، مر عامان ونصف كلمح البصر، عامان ونصف من الاستبصارات التي ما كانت بالحسبان يوم جاءتني المكالمة أثناء لعب كول أوف دوتي، والتي عمقت في الوقت نفسه إدراكي للغايات التي كنت أرجوها. في ديسمبر ٢٠١٨، أتممتُ رسميًا كل متطلبات شهادة الماجستير، وحضرت في مايو ٢٠١٩ حفل التخرج في مدينة بالتيمور بولاية ماريلاند.
التعليم vs. التعلم
ربما زهقتكم بالكلام كل شوي عن فرق التجربتين البكالرويوسية والماجستيرية، لكن الحقيقة أنها بصمة غيرتني بشكل لا رجعة فيه، ويضايقني ألا تكون محوريتها في تجربتي واضحة. سأذكركم بالفكرة الرئيسية: أخذت بكالوريوس علم أرض لسوق العمل، وماجستير آداب لي. أو إذا ما أردت صياغتها بشكل آخر: درست لهدف أنا مجبر عليه بشكل أو بآخر، ودرست من أجل أن أتعلم. وصحيحٌ أن العديد من الفوارق في التجربتين مبنية على اختلاف بنية الشهادتين أصلًا، لكن ثمة ما يمكن إدراكه ضمن ثنائية القيد والحرية هذه.
على سبيل المثال، أحد أوائل الاستبصارات التي غيرتني جذريًا هو بديهية الفارق بين التعليم والتعلم. بالنسبة لي، لطالما بدا الانخراط في المؤسسات التعليمية أمرًا طبيعيًا؛ الحياة هكذا أصلًا، ولست وحدي من انخرط في هذا المسار وهذا المستقبل: روضة ثم مدرسة ثم جامعة ثم وظيفة. ولذا لم أعر اهتمامًا حقيقيًا للتأمل في التعليم وفلسفته. ما طائل التأمل في شيء لا قدرة لي على تغييره؟ بل حتى حين قرأت بيداغوجية المضطهدين في صيف ٢٠١٥، أي قبل عام تقريبًا من بدء ماجستير الآداب، عجزت عن فهم الأهمية المزعومة للكتاب ولباولو فيريري بشكل عام. لكن خلال الشهور الأولى، لما وجدت نفسي مجبرًا على تعليم نفسي بنفسي واختيار ما أريد دراسته سواء على صعيد المواضيع أو تحديد كيفية قضاء أوقات الدراسة، أدركت أني كنت جايب العيد في الكثير مما يتعلق بالتعلم.
بشكل عام، يمكن اختزال الفارق البديهي الذي أعنيه بين التعليم والتعلم بكون الأول مرتبطًا بما يقبع خارج الذات، والثاني بما ينبع من داخلها. بعبارة أخرى، هو فارقٌ بين تصورين مختلفين عن اكتساب المعرفة، ينطلق أولاهما من وجود معرفة مستقلة عن الذات يمكن نقلها بشكل خطي ولأهداف مصاغة مسبقًا، وثانيهما من ارتباط المعرفة جوهريًا بأسئلة الذات التي تكتسب تلك المعرفة من خلال عملية التساؤل نفسها.
ففي دراستي البكالرويوسية مثلًا، بدا لي كما لو أن كل شيء يبدأ من الخارج ويحاول إيجاد طريقه إليّ (دون جدوى في أغلب الأحيان)؛ كل الكورسات التي أخذتها قائمة على وجود معرفةٍ ما ينبغي عليّ كطالب علم أرضٍ معرفتها. وفي حين امتلكت خيار أخذ بعض الكورسات التكميلية ضمن قسم علوم الأرض، كنت مجبرًا أيضًا على أخذ كورسات أخرى دون أدنى اهتمام في مواضيعها. لكني عجزت في كل الأحوال عن تجاوز اقتصار الكورسات الإجبارية أو الاختيارية على سياق الصف والشهادة وحدهما. أردت الشهادة وما صاحبها من معارف للوظيفة فقط، وكان الله غفورًا رحيمًا.
أما تجربة ماجستير الآداب فقد كانت على العكس من ذلك. أتفهم طبعًا اختلاف بنية المرحلتين أساسًا، وأدرك -الآن على الأقل- أن مرحلة البكالوريوس لا تعدو كونها مدخلية وتعريفية لاستيفاء متطلبات محددة. لكن مع ذلك، ثمة حرية غير مألوفة في السعي وراء اكتساب المعرفة على ضوء أسئلة وهموم شخصية دون الحاجة للقلق بشأن أمور أخرى.
أتيحت لي فرصة اختيار كل الكورسات التي أريدها دون أن أجبر على أي منها. حرية الاختيار هذه أغلقت الأبواب عن أي شعورٍ بالضغط الخارجي، ومكنتني من استكشاف اهتماماتي بالطريقة التي أبتغيها وبالعلاقات التي أرسمها. بعبارة أخرى، أدت الحرية ذاتها إلى تنمية حس داخلي بالسياقات المتقاطعة والمتشابكة لما قد يبدو منفصلًا. لا أعني بذلك تكامل المجالات الأكاديمية وارتباطها الجوهري ببعضها وحسب، بل أعني أيضًا بدء تمييز التفاعل المستمر بين ما هو فرديّ وما هو جماعي، بين ما هو محلي وما هو عولمي، بين الجزء والسياقات/الاشتراطات التي تفرزه، بالإضافة لتمييز مختلف تجليات الظواهر ضمن حياة الأفراد اليومية (سيشكل هذا الاستبصار أساس توجهي لدراسة التاريخ العولمي فضلًا عن غيره). بدا كل كورس جزءًا من همومي وأسئلتي الشخصية مهما تباعد موضوعها عن ظروفي المباشرة، ولم أعد أشعر بالحاجة لاكتساب معرفةٍ محددة أو مصاغة مسبقًا لأني كنت منكبًا على تقصي علاقات أنا مرتئيها.
وفي حين أني أردت جزئيًا الحصول على ماجستير الآداب ليكون خطوة مساعدة في التحاقي بالدراسات العليا في التاريخ لاحقًا، برزت مطبة صغيرة في منتصف الطريق كادت تفسد عليّ الأمور؛ ازدادت فجأة التزامات العمل، وأعلمني رئيسي بأن علي الالتحاق بماجستير علم الأرض الداخلي الذي سيبدأ في غضون أشهر قليلة. توقفت عن الحلم مرغمًا، وشرعت في تجهيز أوراق التقديم والانشغال بتعلم متطلبات العمل الجديدة. وش يقول الشافعي؟ ضاقت فلما استحكمت حلقاتها، فرجت وكنت أظنها لا تفرج.
لا توقف, صاير استنى ايميلك يجيني كل اسبوع :)
طلب بسيط, ياليت هذي السلسلة اللي تتكلم فيها عن دراستك الماجستير تحمل عنوان رئيسي واحد
مثلا : مذكرات طالب جامعي فاشل الجزء الاول
تخيل عاد حد يزهق من هالكلام الي م ينمل منه :)