نهضتُ بعد إنهاء وجبة غداء متواضعة: القليل من السلمون الناشف والدجاج المشوّح مع الرز الأبيض والتبولة والحمص. كنا قد فرغنا قبل ربع ساعة تقريبًا من جلسة التوستماسترز الأسبوعية بمقر عملي. لملمت أغراضي: غرشة ماء بلاستيكية، آيفون بغلاف أكلته نوائب الدهر، ورواية الحارس في حقل الشوفان التي اصطحبتها لتصبرني على مسرحيات الخطابة العامة وإصرار صديقي على حضورها.
بحثت عنه كي نقطع الدرب القصير إلى مكاتبنا ممارسين عادتنا الأسبوعية بالحش في أبرز كرنجيات جلسة التوستماسترز. وجدته واقفًا بالقرب من المخرج يحادث شخصًا لا أعرفه، ولذا وقفت على مسافة منهما مراعيًا قواعد الأدب ريثما ينهيان سالفتهما. لم يدم وقوفي طويلًا. بمجرد رآني صديقي، راعى هو الآخر قواعد الأدب وقدمني للغريب أمامه. سلمنا على بعضنا. "فلان، هذا حسين إسماعيل. حسين، هذا فلان بن علان. أهلًا تشرفنا". اعتقدت أن الموضوع انتهى وأخرجت آيفوني استعدادًا للتجول بين تطبيقاته خشية اتهامي باستراق السمع. لكن فات الأوان. رأى فلان الرواية بيدي.
"ما شاء الله! تقرأ الحارس في حقل الشوفان؟ يا الله كم أنت محظوظ! أتمنى لو أستطيع عيش تجربة قراءتها للمرة الأولى مجددًا". وقبل أن تتاح لي فرصة الرد، استرسل فلان متحدثًا عن عظمة شخصية هولدن كولفيلد وعن إعجابه الكبير بالكيفية التي عالج بها سالينغر ثيمة المراهقة، وأضاف إليها مقتطعات من عادات سالينغر في الكتابة، وعزلته بعد نشر الرواية، وصداقته بالكاتب بهيمنغواي، وغيرها من المعلومات التي لا أذكرها الآن. انتظرته حتى فرغ مؤكدًا على أنها ستكون واحدة من أروع تجاربي القرائية. انشغلت في معمعة كل ذلك بابتسامة تسليكية تخفي ردة فعلي الحقيقية؛ لم يطاوعني قلبي في قطع استرساله لأقول: بالمناسبة، هذه قراءتي الثالثة للرواية، وليست الأولى.
لو كنت بجيحًا أكثر لقاطعته شاكرًا فيض معلوماته المجاني، وأخبرته أنها لا تفرق معي. لا آبه بكتابة سالينغر على آلته الكاتبة عاريًا أو بمشاعره تجاه البيض المسلوق. انصب هدف قراءتي الثالثة في المقارنة بين شخصتي هولدن كولفيلد وآموري بلين (بطل رواية هذا الجانب من الجنة لفرانسيس سكوت فيتزجيرالد، مؤلف غاتسبي العظيم) من حيث أنهما يمثلان جيلي ما-بعد-حرب مختلفين، وبين علاقة كل ذلك بشكل الروايتين اللتين يحضران فيهما. إيه، خرابيط ✨مثقفين✨. لكن بجاحتي ما لها داعي صراحة. ما ضرني لو ألقى الغريب محاضرة يفضفض فيها عن بعض اهتماماته (غير إضاعة وقتي)؟
ربما مرت خمس سنوات أو أكثر على الموقف. وصحيحٌ أنه حاضر بذهني كأنه صار أمس، سوى أن ثرثرة فلان لم تغير شيئًا في أفق توقعاتي إزاء الرواية. وبالتالي قد يبدو من المجحف قليلًا اتخاذ قرار إخفاء أغلفة الكتب التي أقرؤها عن أعين المتلصصين في الأماكن العامة فقط بسبب هذا الموقف، لا سيما وأنا أحد أكبر المتلصصين الذين يحاولون قراءة عناوين كتب المارة وقتما أمكن. لنكن صريحين: بعضنا يحب أن يظهر في الفضاء العام كقارئ عميق، ولن يأل جهدًا في موضعة الكتاب بزاوية تتيح للأعين التقاط عناوينها، بل وربما جعلها حجة في فتح سالفة طويلة يسترسل فيها هذا القارئ العميق -مثل فلاننا- بصفصفة معلوماته.
كل هذا كوم، وما حدث لي قبل شهر كوم آخر. كنت هذه المرة في فلورنسا، بعيدًا قلبًا وقالبًا عن كل ما له علاقة بطبقات الأرض وأحافيرها الدقيقة ودروس تنويع طبقات الصوت أثناء إلقاء خطبة غير عصماء. سرت في شارع الباندولفيني وشمس الظهيرة متوارية خلف غيوم تبكي ثلاث مرات كل عشر دقائق. توقفت عند مدرسة لغات قصدتها في زيارة سابقة قبل عام، وقررت الدخول وإلقاء التحية على مديرتها والاستفسار عن إمكانية أخذ كلاسات عن بعد بمقرر من اختياري.
صعدت طابقين ونصف، ودخلت المدرسة. طرقت باب المديرة، استقبلتني بحفاوة، وأخذنا نتبادل الأحاديث. مرت بضع دقائق قبل أن تقاطع حديثي مشيرة للرواية التي تأبطتُها، رواية لست خائفًا للإيطالي نيكولو أمانيتي، واصفة إياها بالرواية الكيوت جدًا (molto carino!). لم أتجاوز حينها ربع الرواية حتى. وعطفًا على تمحور السرد من البداية حول ميكيلي ابن التاسعة ومجموعة أصدقائه، أخذت كلامها بعين الاعتبار وتطلعتُ لإكمال كياتتة الرواية.
سأضغط زر التسريع للأمام بضعة أيام. وجد ميكيلي ولدًا محبوسًا في حفرة داخل بيت مهجور، محبوسًا ومقيدًا بحيث لا يمكنه الهروب. وبلغت حالة الولد -الذي سنعرف أن اسمه فيليبو- سوءًا أن ميكيلي اعتقده ميتًا أول ما رآه. اممم طيب، لا شيء كيوت في ذلك. خلنشوف النهاية. زيارات متكررة لفيليبو في حفرته، أبو ميكيلي يستضيف في منزله عجوزًا تنضح جرائمه من شيبه، ومراهقون جامحون في منطقة أكوا تراڤيرسي التي تدور فيها الأحداث. أكيد النهاية ستقلب الموازين. واصلت القراءة: عصابة اختطاف أطفال، طلب فدية من عائلة فيليبو الثرية، تهديد بقطع آذانه، مسدسات، وصفعات يمينًا وشمالًا. بلغت النهاية: ميكيلي يحاول إنقاذ فيليبو ممن جاء يقتله. أبو ميكيلي؟ إي والله، جاء أبو ميكيلي مشهرًا المسدس. لم يتمكن الأب من تمييز شيء في ظلمة الكهف أو الحفرة التي كان فيليبو قابعًا فيها، والتي بات ميكيلي يترنح فيها وحيدًا بعدما نجح في إنقاذ فيليبو. يضغط أبو ميكيلي الزناد، ويرمي ابنه برصاصة. تنتهي الرواية على صرخات استغاثة أبو ميكيلي أمام هيليكوبترات الشرطة. بالله عليكم أين الكياتة في الموضوع؟
خرجت بعد إنهاء الرواية بنظرية: لا أعتقد أن مديرة المدرسة سادية تتلذذ بتعذيب الأطفال وبالمواقف المرعبة التي وجد ميكيلي وفيليبو نفسهما فيها، بل الأقرب أنها خلطت ما بين هذه الرواية ورواية أمانيتي الأخرى أنا وأنتِ. إن كنتم تتابعون خربوشاتي أولًا بأول، لعلكم تتذكرون ما قلته عنها في خربوشة "أفضل عشر قراءات في ٢٠٢٣":
زهقتكم من كثر ما تحتوي قوائم أفضل قراءاتي على رواية نشأة (bildungsroman / coming-of-age)؟ هاكم إذن رواية نشأة أخرى. لكن لأسباب مختلفة قليلًا عما جاء في قوائم قبلها.
تحكي الرواية قصة لورينزو الانطوائي الذي يكذب على والديه قائلًا أنه ذاهب في رحلة تزلج مدرسية مدتها أسبوع، في حين أنه سيتخلف أصلًا عن الرحلة مفضلًا البقاء بمفرده في قبو المنزل. لا يدوم انفراده طويلًا، إذ سرعان ما يتلاقى صدفة مع أخته أوليڤيا التي جاءت للقبو بحثًا عن بعض أغراضها. لا أعرف ما الكلمة العربية المناسبة لوصف حالة أوليڤيا؛ هي غادرت المنزل وباتت تعيش حياة منفصلة عن أهلها، قطعتهم بشكلٍ ما. كما عاشت حياتها عرضة لمختلف المخدرات والكحوليات دون أن يلوح أفق تحسنها. وبالتالي عودتها للبيت أمر غريبٌ عليها وعلى لورينزو في الوقت نفسه.
المهم، حين تلاقى الشقيقان في القبو، نمت علاقتهما وصارا يتعرفان على ذاتيهما أكثر وأكثر. وفي حين تزود كل واحد من الآخر، نتزود نحن القراء من الدور المحوري الذي تلعبه العلاقات العائلية في صقل شخصية الأبناء، لا سيما حين نقارن تنشئة لورينزو وأوليڤيا بالكيفية التي انتهت عليها حياة كل واحد منهما.
قرأت الرواية لأنها إيطالية، ولأني كنت أود قراءة عمل قصير لأمانيتي قبل مطالعة روايتيه أنا لست خائفًا و آنا. والحقيقة أني أنهيت أنا وأنتِ في وقت وجيز نسبيًا دون شعور بالملل، فأسلوبها أسلس مما توقعت قبل البدء فيها. إضافة لذلك، العالم الذي يخلقه أمانيتي في الرواية مثير للاهتمام بشكل لا أستطيع تحديد أسبابه تمامًا. لكن لا يهم، المهم أن أنا وأنت تستحق أن تكون على قائمة أفضل قراءات ٢٠٢٣.
تلك كانت رواية كيوت بحق رغم بعض أحداثها المؤلمة هي الأخرى.
نظريتي الحالية هي أن المديرة قرأت اسم أمانيتي وخلطت ما بين سرد لورينزو وميكيلي، بحيث تغلبت كياتة الأول على مآسي الثاني. ولا تُلام في ذلك، إذ يسهل الخلط ما بين الشخصيتين في العديد من جوانب الروايتين. فإلى جانب المنظور الطفولي، هنالك نزعة تمرد لدى كل منهما، بحيث يرتكبان من الأفعال ما يستعجب منه القارئ.
لكن بغض النظر عن التشابهات، أدى تعليق المديرة العابر إلى تشكيل أفق قراءة مغاير تمامًا عما كنت سأمتلكه لو قرأت الرواية دون تأطيرها ضمنه. وربما هنا يكمن هاجسي الرئيسي: محاولة قراءة العمل والتفاعل معه بأكبر قدر ممكن من الانسلاخ عن الآراء المحيطة به. قول ذلك أسهل بكثير من تطبيقه فعلًا، فالآراء تتجاوز محض التوصيات (المباشرة وغير المباشرة) إلى أبسط الأمور: تصنيف الكتاب، موقعه على الخارطة الأدبية، صيت مؤلفه، بل وحتى قناعاتنا المسبقة حول سياقات العمل المختلفة.
يلاحقني اليوم شبح الهالة المحيطة بالمؤلفات في كل مرة أباشر فيها قراءة أي كتاب. أقول اليوم لأنني لم أكن دومًا كذلك؛ آمنت في السابق بوجود كلاسيكيات يستوجب معرفتها من باب الإلمام بأسس بمجالٍ ما، وانتهى بي المطاف أكفر بكل ما يرتبط بالمفردة. كما اعتقدت بوجود قراءات "صحيحة" يمكن عن طريقها إدراك مفاتيح العمل، واليوم أجدني أتحسس من كل قراءة تزعم إمساكها بأفق المعاني المحتملة.
ولذا لا أجد بدًا من التطرف (الإيجابي، بنظري على الأقل) باتجاه رفض كل ما من شأنه التأثير على أفق توقعاتي الخاصة. تنجح محاولاتي أحيانًا وتبوء بالفشل أحيانًا أخرى. ما يطيب خاطري في كل الأحوال هو هدفي المتمثل في إنتاج معانيّ الخاصة بي، مهما بدت عند البعض مجانبةً الدقة وشاطحة أكثر من اللازم. صحيحٌ أن ذلك أكسبني صورة المتحلطم الذي لا يعجبه شيء والذي يتقصد الخروج عن المألوف، سوى أنهما عرضان جانبيان لحالة واعية: مساءلة مستمرة للكيفية التي تشكّل بها هذا المألوف والتي تولد بواسطتها الانطباع العام.
طبعًا هناك احتمال بسيط أن المديرة عنت كلامها حقًا وأنها وجدت في الرواية شيئًا كيوتًا؛ نظرة ميكيلي للأمور من حوله ربما، أو حنيته على أخته الصغيرة ماريا. لكن تجربتي مختلفة -سلبًا- للحد الذي يجعلني أتساءل الآن: هل ينبغي علي من اليوم فصاعدًا إخفاء أغلفة كتبي خشية أفق التوقعات الشاطحة؟
صباح الخير،
خربوشة ممتعة ومبهجة
أعتقد أن استعمال رؤانا المحيطية — مرادف أنيق لفعل التلصص — لالتقاط عناوين الكتب في كل مكان نزعة مشتركة بين عديد من الناس، أهم شي أنها بحد ذاتها لا تهدف لإغراق الآخرين بمعرفتنا أو توقعاتنا حول ما يقرؤون.