رواية تتسبب في إغلاق دار نشر؟ لغتها بذيئة وفاحشة؟ تنتهك قيم المجتمع وتشوه صورة المتدينين؟ تطرح قضايا اجتماعية مسكوت عنها؟ ما يحتاج تعطوني أسباب زيادة عشان أتحمّس أقراها. يلا بسم الله.
*يقرأها بعدين يجي يكتب هالخربوشة*
أتكلم طبعًا عن رواية هوارية للروائية الجزائرية إنعام بيوض، وعن تسببها في إغلاق دار نشر ميم الجزائرية بعد الحملة الشعواء ضدها لما فازت بجائزة آسيا جبار. خلاصة الخبر إنه أصحاب الدار ز** وياهم وقالوا يا مثقفين ويا قراء ويا أشباه قراء، الباب اللي يجيك منه الريح سده واستريح. زعلانين عشان نشرنا هوارية؟ طيب خلاص بنبطل نشر كليًا.
الأسباب اللي ذكرتها في أول سطرين هي الأسباب المعلنة للحملة ضد الرواية. ممكن فيه أسباب أخرى خفية، زي حسد وغيرة بعض الكتّاب الآخرين اللي ترشحوا للجائزة وما فازوا بها، أو جرأة الكاتبة على التطرق لقضايا كان غيرها يطمع بالتطرق ليها، ولكن هذا مو مهم مرة لأنه الأسباب المعلنة تكفينا عشان نعرف نوع الحملة والاصطفافات الآيديولوجية فيها.
الرواية تحمل اسم وحدة من الشخصيات الرئيسية فيها، هوارية، ولكنها في الحقيقة تتقصى حكاية أحد الأحياء الفقيرة في مدينة وهران. مانا ضليع بالتاريخ الجزائري، بس كأنه الرواية تدور خلال التسعينات وبداية الألفية، على الأقل إذا صح تتبعي للخط الزمني قبل الحرب الأهلية.
وكون الرواية تتقصى نسيج اجتماعي لطبقة مسحوقة، فمن غير المستغرب إنها تتناول طبيعة العلاقات بين أفراد هذي الطبقة (مع بعضهم البعض) أو بينهم وبين طبقات ثانية، وإنها تسلط الضوء على الحال اللي ممكن البعض يوصله في سبيل تحصيل قوت يومه ويوم أهله. فضلًا عن إنها تتأمل في آفاق المستقبل بالنسبة للقابعين في هوامش حياة اجتماعية موازية وفي مدى قابلية انخراطهم في تيارات متطرفة تزعزع الأمن الاجتماعي.
أشياء وايد ممكن إنها تنقال عن الرواية "فنيًا"، مع إني ما أحب أستخدم هالتعبير. مثلًا، الرواية تبدأ بأسلوب مثير للاهتمام: سردين متداخلين، واحد من منظور الشخص الثالث (سارد عليم)، والثاني على لسان هوارية نفسها (منظور شخص أول، بشوية تيار وعي). يعني كأنما نسمع هوارية تحكي قصتها بنفس الوقت اللي نسمع فيه سارد "محايد" يحكي لينا قصتها وقصة مجتمعها. فكرة حلوة صح؟
صح، لكن تطبيقها للأسف ما واصل بنفس المستوى. ما عندي مشكلة إنه بدل منظور هوارية نسمع منظور شخصيات ثانية، وكلها برضه يكون وياها منظور شخص ثالث يحكي لينا قصتها. بس اللي صار إنه هذا التنقل بين المنظورات المختلفة أقرب لكونه مُفتعل؛ الشخصيات ما تمتلك نفس الوزن في القصة، وسماع صوتها يكون وفق حيثيات معينة مشروطة -سرديًا- على يد شخصيات غيرها. يعني فيه شخصيات ما كانت مقنعة باستقلاليتها -كشخصيات- بدرجة كافية.
هذا مثال واحد. ممكن أذكر مثال ثاني عن الأسلوب اللي صرت أكرهه أكثر من اللازم، واللي ممكن أسميه أسلوب إخباري. هني يتعامل الكاتب (أقدر أقول "السارد" بدل الكاتب عشان أسوي نفسي موضوعي، بس ما بأقول) ويا القارئ كأنه طفل لازم يوصف له كل شيء ولا ما بيفهم. وبنفس الوقت، يحس الكاتب إنه ملزم يعطي كل المعلومات اللي يعرفها أو ما يعرفها عن مسرح الأحداث.
بأعطيكم مثال عبيط: "سار البطل ثلاثين مترًا باتجاه أحد المباني الطينية القديمة الواقعة على الناحية الشمالية من حي يقظان، الحي الذي يقطع العاصمة طوليًا ليصل ما بين الأحياء التقليدية (حيث يعيش البطل) والأحياء الفارهة التي نمت بعد الطفرة الصناعية التي طالت البلاد مطلع الألفية. فبدل الاعتماد على الاقتصاد السياحي، صار بالإمكان اليوم الاعتماد على الثروات الطبيعية التي اكتُشفت في جبال الألب، وقامت الأحياء الحديثة لطبقة جديدة من المرفهين الممتلكين لقدرات شرائية عالية. ولذا ترى السيارات الفارهة تجول شوارع تلك الأحياء". وهكذا دواليك.
هذا الأسلوب -بما يصحبه من استطرادات- يفسد قراءتي شخصيًا لأي عمل أدبي، ورواية هوارية فيها جزئيات كبيرة مليانة بهالتدخلات الإخبارية، بل فيها حتى هوامش عشان القارئ يقدر يفهم اللهجة الدارجة المستخدمة في الرواية وأشياء ثانية. من ناحية فنية، وفقًا للأسلوب السردي اللي تتبعه رواية هوارية، فهذا النوع من الإخبار يطلّع القارئ من عالم الرواية لأنه يُحيل إلى ما هو خارجها على يد من هو خارج السرد تقريبًا. وأعتبر هالشيء ركاكة ما تترقع. بس عمومًا، كتبت خربوشة كاملة عن هذا الأسلوب اللي يجيب رأس المثقفين، فبأكتفي بهالقدر حاليًا.
لكن بغض النظر عن اللي أعتبرها مشاكل فنية، فلا شك إنه نجاح الرواية في إثارة الجدل حول الموضوعات اللي تناولتها، وبالكيفية اللي تناولتها بالأحرى، يستحق وقفة تأملية شوي. أكثر نقطتين لاحظتهم في الآراء المختلفة هم بذاءة الألفاظ وانتهاك القيم. وهالتهمتين يجون بكج واحد أصلًا، من باب إنه اللسان الفاحش -بالضرورة- مخالف لقيم المجتمع، وبالتالي فهو مبرر كافي لحجب الرواية ومنعها إن أمكن.
وهني شفت نفسي أفكر تلقائيًا بالعلاقة بين هالذريعتين (بذاءة الألفاظ وانتهاك القيم) وبين تحجيم دور الرواية أو منعها من نقد الواقع الاجتماعي. وحدة من الأشياء اللي تتسم بها الرواية (حالها حال غيرها من الأجناس الأدبية الأخرى) إنها قابلة للتوظيف والاستعمال في سياقات مختلفة ولوظائف متعددة. في حالة رواية هوارية، نشوف إنه النقد الاجتماعي هو اللي يطغى على بقية الوظائف. من خلال تسلسل الحبكة الرئيسية والتوصيفات والطريقة اللي تعبر بها الشخصيات عن نفسها وعن غيرها، واضح إنه الكاتبة تحاول بشكل واعي جدًا تصوير الواقع الصريح -مثلما تشوفه هي- واستخدامه كشرط إمكان عالم الرواية بغرض نقده.
وما يقتصر الواقع على كونه شرط إمكان، بل نشوفه أيضًا حاضر كثيمة رئيسية في التأملات الذاتية لمختلف الشخصيات. عندنا شخصيات زي هوارية وهاني اللي كانوا يحاولون الفرار من الواقع، وشخصيات زي هبة وهدية اللي استغلوا مواقعهم الاجتماعية في الانتفاع من الواقع، وشخصيات زي هاشمي وأخوياه اللي ينضمون للتنظيم الشيوعي رغبةً بتغيير الواقع، وشخصيات ثانية قانعة بالحد الأدنى اللي يخليها تحاول تعيش وبس.
وبالتالي نقدر نقول إنه الرواية تستفتح صفحاتها بالنقد الاجتماعي على مستوى الشكل وعلى مستوى الثيمة. بعبارة أخرى، الرواية تنقد الواقع من خلال اللغة اللي تستخدمها، والمناظير السردية اللي توظفها، والموضوعات داخل السرد نفسه. وهذي هي النقطة اللي تستثير حفيظة حماة المجتمع على أكثر من صعيد.
فحتى لو افترضنا إنه رواية هوارية ما كانت "بذيئة"، إلا إنه الثيمات اللي تتقاطع فيها بتكون بلا شك محل جدل من قِبَل نفس الأشخاص اللي ثاروا عليها. لأنه الفكرة هني مو في اللغة اللي استخدمتها إنعام بيوض في تصوير هذا الواقع بقدر ما إنه اعتراضاتهم -حسبما أشوفها- متمحورة حول مشروعية تصوير الواقع نفسه، أو على الأقل تصويره ضمن حيثيات خارجة عن نطاق رؤاهم هم. لما نقول شخص شرير أو فقير بناء على خصال فطرية أو حتمية، فهالشيء مختلف عن اعتباره شرير أو فقير بناء على الحيثيات الاجتماعية اللي ينولد فيها، أو اللي يشوف نفسها فيها. التصور الثاني يخل بأسس آيديولوجية رئيسية عند حماة المجتمع.
خلني أعيد صياغة الفكرة بمصطلحات المثقفين. بغض النظر عن "الدال" المستخدم للدلالة على المدلول، كون المدلول بحد ذاته فاحش يعني بالضرورة إنه الدال وتوابعه فاحشين. موطن الجدل الرئيسي ما هو مقتصر على بذاءة اللغة أو صراحتها، بل هو كامن في اختيار الكاتبة للموضوعات، وبالكيفية اللي اختارت من خلالها إنها تؤطر هذي الموضوعات (تقدرون ترجعون للخربوشات الثلاث اللي راحوا عن التأطير).
وهذا اللي يرجّعني لفكرة تحجيم دور الرواية. هذا النوع من الحملات يتقنّع بالحفاظ على شرف المجتمع وما أشبه من ذرائع، في حين إنه أحد الأهداف المطموسة هو التحكم بِما يقال وبكيفية قوله، يعني السيطرة على نطاق المُحتمَلات الروائية. شايفين كيف فيه ناس تردد إنه الفن للفن، وإنه الرواية لازم تكون -فوق كل شيء- عمل فني متكامل الأركان؟ وشايفين كيف هالأسطوانة تستخدم في التقليل من بعض المؤلفات اللي تتناول مثلًا أحداث سياسية أو قضايا شخصية أو ما أشبه؟ الفكرة هني هي نفسها باختلاف الدرجة: تحجيم الرواية ضمن أشكال وموضوعات معينة، بحيث أي خروج عنها يصير مُخل بالرواية كفن. وبالتالي يُعاد تكريس فكرة معيارية الرواية على طول اشتراطات واعتبارات تحاول إنها تقوّض هذا الجانب النقدي في الأدب.
فالمقصد إنه حالة هوارية بتتكرر طالما ظلت المؤسسات الثقافية قائمة على هذا النمط من الإقصائية، واللي هو للأسف جزء من كيان المؤسسات نفسها. أي مؤسسة ثقافية تقوم على فكرة النقد بالمفهوم الأكاديمي، أي النقد بصفته ممارسة تتطلب الحصول على تدريب وتأهيل ضمن مجالات محددة، بتكون غالبًا في طليعة الحملات الشعواء. ومن اللافت ظهور روايات زي هوارية بين الفترة والثانية لتذكيرنا بإنه الارتهان للخطوط اللي ترسمه مؤسسات "محافظة" ثقافيًا بيؤدي دائمًا لجدالات مشابهة. ومن الضروري حسب ظني إنه ما نطيح في فخ قراءة الروايات هذي مثلما تبغانا المؤسسات، ولا إنه نقرأها كما لو كانت تعبير "محايد" عن واقع حقيقي. في النهاية، احنا -كقراء- المفروض تكون عندنا مَلَكة نقد خاصة فينا، نقوّم الأعمال الأدبية على ضوء تراكماتها وخبراتها التجاربية.