أطالع في تاريخ نشر آخر خربوشة وأتساءل عما حدا بي لترك التدوين ما يقارب المئة يوم. مئة يوم، وأنا الذي كنت أحاول نشر خربوشة كل أسبوعين. هه. يلا، تصير.
أستطيع بطبيعة الحال تعليل توقفي بميلي المعتاد للتسويف الذي نوهت به حتى في الصفحة التعريفية. وليس تسويفًا كسولًا بالضرورة، بل كان لزحمة انشغالاتي مؤخرًا دور رئيسي في امتناع خرابيشي عن الصدور. كما أستطيع تبرير التوقف بسوء علاقتي مع الالتزام أيا كان؛ فلسببٍ ما، مجرد الإحساس بأن هنالك ما ينبغي علي فعله في وقت محدد يصيبني بنفور عجيب. ويزداد هذا الشعور وطأة في حال تأخرت في التجهيز مسبقًا للموضوع وتراكمت الديدلاينات.
لكن في معمعة كل هذا الترقيع سألتني: لم ألوم نفسي وحبسة الكاتب حجة دامغة في وجه العذال؟ يوريكا! أو شيء من هذا القبيل يعني. حبسة الكاتب، فكرة والله. كلا، لست مسوفًا ولا سيئًا في الالتزام، بل مصابًا بحبسة الكاتب. أنا كاتب، والكتاب العظماء من أمثالي يصابون بالحبسة دائمًا. تعرفونها أكيد؟ تلك الحالة التي يتسمر فيها الكاتب أمام ورقته (أو شاشة لابتوبه) عاجزًا عن مواصلة الكتابة أو وضع الحروف مصفصفة بما يجذب الناظرين؟ نعم هي بذاتها. حبسة الكاتب هي السبب في توقف خرابيشي المرتبة.
ما زلت غير راضٍ. توحي حبسة الكاتب أني عاجزٌ عن الكتابة بشكلٍ من الأشكال، وهو أمرٌ غير صحيح إطلاقًا. ولا حتى مؤقتًا. أعرف أني أستطيع الكتابة، وكل ما أحتاجه لإتمام ذلك هو الوقت الكافي لكي أمخمخ على ما أريد قوله كي يخرج بصورة أرضى عنها. وليس الأمر أني توقفت عن الكتابة كليًا، إذ امتلأت أيامي بكتابة محاور لندوات نقاشية ومقالات بحثية ونصوص حلقات كتبيولوجي (بالمناسبة، مشتركون في كتبيولوجي صح؟). عطفًا على ذلك، يبدو القول بالعجز عن الكتابة تهربًا أكثر من اللازم.
سوى أن ذلك لا يمنعني من الإقرار بأنه ثمة نقطة معتبرة في كل هذا، أو نقطتان ربما. النقطة الأولى سهلة: احتجت لنقاهة محترمة. صحيحٌ أني قلت بكون الكتابة التأملية علاجًا ناجعًا لما يتزاحم برأسي، ولكن حتى ذلك يحتاج لتغيير الجو أحيانًا. وقتما فقدت متعة الجلوس أمام كيبوردي لأكتب، أدرك أن وقت النقاهة حان. وصادف أن حان وقتها لما بدأت شمس الشموس تحرق الرؤوس، وهو ما زاد الطين بلة. على ما أجلس على لابتوبي يكون مخي قد تفحم.
النقطة الثانية مختلفة نوعيًا، وهي أن قلبي لا يطاوعني على الكتابة وقتما شعرتُ بأن هنالك فكرة تحتاج لأن تطبخ على النار فترة أطول كي تنضج. لا أسميها حبسة كاتب مهما حاول البعض تضمينها تحت المسمى. ففعليًا، يمكنني لو أردت تعبئة الصفحة سطورًا هرائية دون أي مشاكل، بل دون حتى أن يُلاحظ ضعف الفكرة إذا ما أجدتُ مراوغتها. لكن الأمر أعقد قليلًا.
يحتاج نضج الفكرة أحيانًا لإعادة شحذ مخيلتي خارج أسوار الكتابة، أي خارج محاولة عرضها وصياغتها ضمن أي طرح متسق. كثيرًا ما يحدث في معرض الكتابة أن تلح علي فكرة مفاجئة ليست دائمًا ذات صلة بما أكتب. وبدلًا من مواصلة الكتابة والعودة لهذه الفكرة لاحقًا، أجدني أتساءل عما حدا بها لأن تحضر الآن، ومستفهمًا عن العلائق الضمنية التي جلبتها بهذا الإلحاح. وهنا تكون الخطوة الأولى نحو الانصراف عن التدوين حتى تتبين الأمور.
ولهذين السببين توقفت الخرابيش دون سابق إنذار. مئة يوم احتجت حتى ترتبت أفكاري بشكل أفضل وأصبح بالي أكثر صفاء كما أن الآن. وكلي أمل بأن يستمر الحال على ما هو عليه كي تعود الخرابيش المرتبة أكثر انتظامًا.