ختمت الجزء الأول من هالخربوشة بجزئية فضفاضة، قلت فيها إنه التعامل ويا المفاهيم من خلال وضعها في شبكة أكبر من العلاقات اللي تستحضرها -بشكل صريح أو ضمني- شيء ضروري لنقدها. وقلت إنه هذي خطوة أساسية عشان نتجاوز "جوهرنة" المفاهيم ونبدأ نتعامل وياها من منظور علائقي. الحين أحس صار لازم أوضح الفرق بين المنظورين بشكل أكبر من خلال تبيان علاقة المنظور العلائقي بالسياقية اللي جبت طاريها في عنوان الجزء الأول، قبلما أقدر أتطرق في الجزء الجاي (المفروض أكتبها الياي زيما أنطقها، بس خفت يروح بالكم للدلاليع) للنقد الإطاري اللي المفروض إنه أساس الخربوشات الثلاث كلها.
عمومًا. أعتقد إنه فيه ردتين فعل رئيسيتين لما الواحد يقرأ عنوان هالخربوشة. ردة الفعل الأولى بتكون للمراهق فلسفيًا (الشرح أدناه) واللي يعتقد إنه ممكن أفلاطون يفيد البشرية في مواضيع معاصرة زي الذكاء الاصطناعي. وردة الفعل الثانية هي لواحد يقول خل نشوف هالأحمق اللي بيسقط مفاهيم معاصرة على أزمنة بائدة. أنا من الصنف الثاني طبعًا، من اللي تستفزهم هالنوعية من الإسقاطات والجدالات اللي تستخرج الأفكار من سياقـ(ـاتـ)ـها وتستخدمها كأنها كينونات قائمة منذ الأزل صالحة لكل زمان ومكان، لا سيما في صدر مجلس ندوات الديناصورات الثقافية لأنه يشجع على هذا النوع من التشدّق والتمترس وراء المصطلحات العائمة.
عمومًا، عشان النوع الأول يعرف ليش ما ينفع نستلهم "فلسفات" تاريخية لرسم درب تنوير البشرية، بأتكلم عن كون الفكر -أي فكر، بما فيه الفكر الأحمق- وليد شبكات معنى ذات راهنية تاريخية.
سياق ولا سياقات؟
فيه كم تنويه بسيط قبل كل شيء. أول واحد متعلق بكلمة "سياق" نفسها. أقدر أسوي نفسي مثقف وأرجع لمعنى الكلمة في المعاجم وأشوف إنه سياق الكلام هو مجراه أو سرده، لكن هالرجعة بتكون نوع من التشييء الجوهراني اللي قاعد أحاول أنحاش منه. مافيه شيء اسمه "سياق" متعالي على التاريخ. السياق متعلق باللي نقدر نسميه حَدَث لغوي؛ بمجرد أي واحد يفتح بوزه ويتكلم بأي كلمة، فهو انخرط في سلسلة من الأحداث اللغوية اللي تعطي كلامه معنى ضمن شبكة معاني أوسع (لغوية وغير لغوية). هذي الشبكة هي اللي بأسميها بالمعنى العام "سياق". بدون هذا السياق، ما بنقدر نفهم الحَدَث اللغوي.
ما ودي أدخل بتفاصيل أكثر من اللازم، بس ضروري هني أنبّه على إنه الحدث اللغوي أوسع من اللغة لأنه مرتبط بالاستعمال، وللاستعمال أحكام برا نطاق اللغة لأنه يشمل إيماءات ونبرات وحذاقات وأشياء ثانية. تعرفون كيف ممكن تغيرون معنى جملة بس من خلال تغيير نبرة الصوت اللي تقولوها بها؟ تخيلوا مثلًا أحد يجي ويقول ليكم إنه موراكامي روائي عظيم، تقدرون تردون: صحيح (بنبرة عادية، عشان توافقونه)، أو صحيح (بنبرة تهكمية، عشان تخالفوه). الكلمة -لغويًا- ما تغيرت، اللي تغير استعمالها. ولذلك أقول الحدث اللغوي يشمل عوامل أوسع من اللغة بما هي لغة.
ما علينا. لما أقول "سياقية"، أو لما أتكلم عن سياق أي مفهوم، فأنا ما أقصد إنه هناك سياق واحد هو اللي يقرر كل شيء. لا، أبدًا. أستخدم المفردة كوصف جامع لأي نوع من المقاربات اللي تركز على معنى المفهوم ضمن شبكة استعمال أوسع. فيه مثلًا سياق خطابي متعلق بالكيفية اللي يوظّف بها المفهوم داخل استعمالاته الجدالية، وفيه سياق تاريخي متعلق بأفق المعاني المحتملة قياسًا على اللحظة التاريخية اللي يُستخدم فيها المفهوم، وفيه سياق ممكن نسميه سياسي (أو سلطوي) متعلق بتبعات الإفصاح بالمفهوم واختلاف موازين القوى. ولو أقعد أعدد أنواع السياقات ما بأخلص، فالمهم توصل الفكرة إنه السياقية مقاربة تركز على المفهوم من حيث ارتباطه بأمور أخرى.
اللي بأركز عليه في الخربوشة بشكل عام هم السياق الخطابي والسياق التاريخي (بدرجة أقل)، مو لأنهم أهم نوعين طبعًا، بس لأنه هم أكثر اثنين شفت إني أميل للتركيز عليهم في قراءاتي الشخصية. ممكن أفرّق بينهم بشكل سريع من خلال الإشارة لكون السياق الخطابي مبني على استعمال المفهوم جداليًا، في حين إنه السياق التاريخي مبني على اللحظة التاريخية اللي يحدث فيها هذا الاستعمال.
متجر المفاهيم المستعملة
فيه مقالة -بأعيد نشرها قريبًا- عن أعراض المراهقة الفلسفية، تطرقت فيها لفكرة استهلاك الفلسفة. بكل بساطة، فيه ناس تتعامل ويا المفاهيم "الفلسفية" (إحم، علامات تنصيص تهكمية) كما لو إنها بضاعة في السوق يختارون منها اللي يناسبهم. بنظرهم إنه هذي الفلسفات تمتلك كينونة متكاملة إن صح التعبير، وكل اللي عليهم هو إنهم يختارون وش أقرب فلسفة لذواتهم، تمامًا زيما يختارون أحسن بطيخة من محل الفواكه. هم نفسهم اللي تشوفوهم يسمون أنفسهم وجوديين أو ليبراليين أو حداثيين أو ماركسيين أو نيتشويين أو أي تصنيف ثاني مشابه. الانتماء الفكري -عند هذيلا الأشخاص- عبارة عن تبني مجموعة من المعتقدات والالتزام بمجموعة من السلوكيات، وهالمعتقدات والسلوكيات معلّبة مسبقًا بحيث يصير واجب على المراهق فلسفيًا إنه يعتنقها ويدافع عنها قدام التيارات المخالفة.
اللي يغيب عن عقول هذيلا (بفرض امتلاكهم واحد) هو إنه المفاهيم تكتسب معانيها من خلال الاستعمالات الخطابية اللي توظف فيها، بغض النظر عن منظومة القيم وأسس الأفكار اللي تزعم هذي المفاهيم إنها تنبني عليها. لو سألتكم مثلًا وش نقيض الماركسية، كم واحد بيقول شيء غير الرأسمالية؟ ووش بيكون نقيض الليبرالي غير المحافظ؟ والفردانية غير الجماعاتية؟ والحداثة غير التقليد (أو المحافظة، على حسب)؟ أصلًا هل يمدينا نتخيل واحد منهم بدون ما ذهننا يستحضر الثاني تلقائيًا؟
الجواب القصير هو: لا. والسبب واضح طبعًا، إنه تبلور المفهوم ما هو عملية منفصلة أو مستقلة عن تبلور مفاهيم أخرى مصاحبة له. ولأنه تعودنا نشوف استعمالات المفهوم كما لو إنها قائمة بوحدها، صرنا نغفل شوي عن التفكير في الروابط الثانية. شايفين كيف قاعد أقنعكم بالمنظور السياقي؟
عمومًا. يمكن فيه كم واحد وده يستقعد على كوني أتكلم كلام فضفاض وعام وأكيد إني قاعد أبني رجل قش مدري وشو مغالطاتهم البايخة، ولذلك بآخذ مثال من مقدمة كتاب حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية لعبدالله الغذامي (نشر أول مرة عام ٢٠٠٤) عشان تشوفون لأي درجة ممكن الواحد يجيب العيد. بأذكر أول برغرافين بدون تعديل ولا حذف، بس بأخلي مفردة الحداثة ومشتقاتها أغمق:
"هذه شهادة لشاهد من أهلها أروي فيها حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية، أي الحداثة في مجتمع محافظ، ولا شك أن أبرز سمات المجتمع السعودي هي المحافظة، وربما لا تكون هذه خاصية ورغبة ذاتية فحسب، بل إن المحافظة مطلوبة من هذا المجتمع ومتوقعة منه، عربيًا وإسلاميًا، ولا يوجد عربي ولا مسلم إلا ويرى أن السعودية هي جوهر المحافظة وقد يتصورون الحداثة في أي مكان إلا في السعودية، حتى إن أكبر دعاة الحداثة عربيًا ربما أخذ نفسه في جهاد مقدس كي لا يتحول المجتمع السعودي إلى مجتمع حداثي، ولدينا على ذلك أمثلة من كتاب ومفكرين عرب عاشوا في السعودية وشاركوا في محاربة تيار الحداثة عندنا، وقد جئت على هذا كله في الكتاب. وهذا يعني أن هناك علاقة قدرية بين هذا المجتمع والمحافظة سواء في سجله التاريخي أو في صورته المتوسمة فيه.
وإذن ولهذا فإن الحداثة لا بد أن تكون حكاية غير عادية في مجتمع كهذا، ولا شك أن الحداثة سمة عصرية وهي قدر لأي مجتمع حديث، ولذا فإن قدر المجتمع السعودي سيكون بين قطبين كلاهما قسري إذ أن قدره أن يكون محافظًا مثلما أن قدره أن يكون في زمن هو زمن العصرنة والتحديث بل زمن ما بعد الحداثة. ولن يتخلص من واحد مثلما أنه لن يسلم من الآخر".
إذن، يقول الغذامي إنه المحافظة نقيض للحداثة (وأفترض يقصد المحافظة الدينية والاجتماعية، بحكم إنه أشار إنه حتى المسلمين يشوفون إنه السعودية جوهر المحافظة). ويقول بعد إنه الحداثة "سمة" ومرحلة تاريخية (أو قدر حسب تعبيره)، وإنها تمتلك دعاة وتيارات، وإنه ليها حكاية في دخول المجتمع السعودي. ولاحقًا في المقدمة قال إنه "مجتمعنا" مر بمراحل المحافظة ثم الحداثة ثم مطالع ما بعد الحداثة. طبعًا ممكن واحد زيي يسأل وشو هي الحداثة اللي قاعد يكررها في كل جملة سبعين مرة، والجواب بيكون من الغذامي نفسه بإنه "الحداثة هي (التجديد الواعي). وهذا يعني فيما يعني أن الحداثة وعي في التاريخ وفي الواقع، ويكون الفهم التأسيسي فيها جذريًا مثله مثل شرط الوعي بالدور والمرحلة".
أول استنتاج ممكن الواحد يستنتجه هو إنه الحداثة عند الغذامي فضفاضة لدرجة إنها ما تعني ولا حاجة. إذا كانت الحداثة هي التجديد الواعي، فكيف تصير مرحلة تاريخية مردنا ندخلها؟ هل هذا يعني إنه فيه مراحل تاريخية تتسم بالتجديد ومراحل لا؟ أو إنه التجديد شيء موجود بكل العصور بس بعضه واعي وبعضه لا؟ ومن يقرر هالوعي أصلًا؟
وثانيًا، دام السالفة فيها دعاة وتيارات، فهل انتماء الواحد ليها مبني على معتقداته الخاصة (يعني يقول للناس أنا حداثي) أو من خلال تصنيف هوياتي خارجي عن الفرد؟ وحتى لو قدرنا نجاوب عن هالسؤالين بجواب متسق، كيف بنرقّع طرح الغذامي للحداثة في الكتاب بإنها مرتبطة بالكيفية اللي يتم من خلالها إدارة وتنظيم المجتمع، أي الحداثة بصفتها نظام سياسي؟ مو في هالحالة بنكون دخلنا في معمعة المطابقة ما بين العصر الحديث والحداثة؟ وش هي الإسقاطات الآيديولوجية المصاحبة لاعتبار العصر اللي ينتمي له الفرد "أفضل العصور"؟ هذا وأنا أحاول للحين أتجاهل تعامل الغذامي مع الحداثة على إنها "فاعل" يمتلك حكاية ويدخل على المجتمعات، لأني بأدخل في معمعة ثانية.
المهم. كل الترقيعات المحتملة لطرح الغذامي تتبنى نفس المنظور التشييئي اللي يعامل الحداثة كما لو إنها منتج تطوّري ينبغي استيراده من الخارج، وبالتالي وجوده عندنا وجود جدالي-استهلاكي، زي دخول جوال أبو كاميرا. نقطة. لكن بمجرد نتساءل عن استعمالات المفهوم خطابيًا، بنشوف إنه الطرح في الكتاب ككل مليان مشاكل. بعبارة أخرى، بمجرد نحاول نفهم وشو هي الروابط اللي يستحضرها الغذامي وقتما استعمل الحداثة وحاول يتقصى أبعادها، بنبدأ نستوعب إنه المشكلة أعوص مما يبدو.
الدبليوهات الخمسة
طبعًا السطور اللي راحت كلها متعلقة بالسياق الخطابي، أو بالكيفية اللي يُوظّف فيها المفهوم ضمن منظومة الدلالات والإشارات اللي تسبغ المعنى على عناصرها أو مكوّناتها. وهذا الشيء ممكن أولًا من خلال التركيز على النص المقروء، ولكنه ما يؤدي إلى نفس الاستبصارات (متعوب عليها الكلمة) إلا لما يتكامل ويا تحليل السياق التاريخي.
تحسون إني بأستشهد بحاجة كتبتها صح؟ صحّين. صراحة فيه ثلاثة أشياء تحضر ببالي حاليًا. كتبت من قبل خربوشتين، وحدة عن أسباب ترجمتي لكتاب التفكير في التاريخ، ووحدة عن كيفية تمييز الهراء في التفلسف التاريخي. وأذكر كتبت مقالة لمنصة معنى عن تاريخانية تشكل المفاهيم لامست فيها مواضيع ذات صلة. فلو أحد مهتم بتفاصيل زيادة عن بعض النقاط يقدر يشوفهم هناك.
القاسم المشترك بين كل خربوشة/مقالة هو إنه السياق التاريخي يتطلب من القارئ طرح أسئلة مختلفة شوي. بدل التركيز على الحدث اللغوي بما هو حدث، يعني بدل التركيز على سياقات استعمال المفهوم خطابيًا، ممكن تتغير الزاوية إلى أسئلة متعلقة بعملية الإفصاح/التكلم نفسها. يعني ما يصير التركيز على استعمالات المفهوم بقدر ما ينصبّ على اللي استعمله ولحظة استعماله.
فيه خمسة أسئلة رئيسية هي اللي ممكن نسألها عشان نقارب الطرح تاريخيًا: من، ومتى، ووين، ووشو، وليش (إذا تحبون أحط كلمات أجنبية عشان يصير الطرح عميق، فهالخمسة الأسئلة هي الدبليوهات الخمسة التالية: Who, When, Where, What, Why). كل واحد من هذي الأسئلة يسلط الضوء على واحد من العوامل المرتبطة بالحدث اللغوي. خل نرجع لمثال الغذامي على السريع ونشوف إذا هالأسئلة تفيدنا أو لا:
من؟ = عبدالله الغذامي، ذكر، كان عمره فوق الخمسين لما نشر الكتاب
متى؟ = عام ٢٠٠٤ (وقبلها طبعًا، بس نفترض إنه ما قرأنا له شيء غير الكتاب)، بعد أحداث ١١ سبتمبر بثلاث سنوات وبعد غزو العراق بسنة
وين؟ = من موقعه كمواطن سعودي (من عنيزة) منتمي للأكاديميا، ويصنف نفسه على إنه حداثي
وشو؟ = مرافعة مناصرة لمفهوم الحداثة داخل مجتمع يعتقد إنه لا يتقبلها
ليش؟ = ردًا على المحافظين (aka المطاوعة) هاها
طبعًا هالتساؤلات كتبتها في دقيقة ونص، فلا أحد يدقق عليها. الشاهد بس إني أزعم إنه كل واحد من هالأسئلة يفتح باب فهم طرح الغذامي في سياقه التاريخي.
طيب يا حسين، كيف يكون هالشيء؟ بكل بساطة، جربوا اطّلعوا على طرح مشابه عن الحداثة أو المحافظة من خلال تغيير واحد بس من هالعوامل، وبيصير الجواب قدامكم. ممكن نقرأ لحداثي غير الغذامي، أو لمطوّع وهو يكتب عن الحداثة، ممكن نقرأ مؤلفات ثانية حول الجدل من نفس الحقبة أو من حقبة قبلها أو بعدها، نقدر نقرأ عن "الحداثة" في السعودية من خلال طرح غير نخبوي غير أكاديمي، أو لشخص خارج سياق الجدال بكبره. الخ الخ. هذا الاطلاع والتقويم لطرح الغذامي خارج نطاق النص نفسه بيخلينا أكثر قدرة على إنه احنا نفهم كتابه بصفته حدث لغوي ينتمي للحظة تاريخية معينة. مهما كانت مزاعم الغذامي (أو أي كاتب ثاني، لا أحد يفكر مشخصن) حول ماهية أطروحته أو امتدادها التاريخي أو متنها الفكري، نقدر كقراء إنه احنا نعاين هذي المزاعم من خلال مجموعة أسئلة وقراءات تموضع النص ككل ضمن لحظة راهنة. وفي النهاية، هذا الوعي بتاريخية الطرح أساس لا بد منه للنقد السياقي التاريخي.
إذا كانت كل هالأفكار واضحة، فالمفروض إنه الانتقال لفكرة النقد الإطاري في الجزء الثالث من الخربوشة يكون خطوة منطقية الحين.
في الفقرة اللي فيها كلمة "سياقـ(ـاتـ)ـها" هل تقر بوجود سياق مطلق وحقيقته مطلقة، سياق تقدر تسقط منه بكل أريحية تستقطع أي شيء ويكون هو بذاته كينونة في حال تشابهت المتغيرات