سنة القراءات التعيسة
أفضل وأسوأ قراءات ٢٠٢٥
إن كنت من الأنفار العشرة المترقبين خربوشة “١٢ شهر و١٢ كتاب” السنوية، والتي أروي فيها تجربتي مع كل عنوان جعل عامي القرائي أفضل، فأنا آسف مقدمًا. طالعت ما أفنيت فيه وقتي خلال الأشهر الماضية ووجدت أن أغلبه meh، ولم أشعر بذات حماسة الكتابة عن حصاد سنة كاملة كما شعرت بها في أعوام سابقة. بل والأسوأ أني لا أرغب حتى بإفراد السطور الطويلة حول الكتب من الأساس (ربما لأني أضعت طاقتي أتحلطم صوتيًا في كتبيولوجي).
وهذا يؤرقني بعض الشيء. كيف أسمح لديسمبر بالانتهاء دون الثرثرة حول العناوين الأقرب لقلبي؟ ولكن، قياسًا على تلك الـmehـية، تولدت بذهني فكرة أخرى: لم لا أدمج نفسية التطبيل والاستقعاد في خربوشة واحدة أفضفض فيها على كيفي؟ والله خوش فكرة. هنا خربوشة تضم ست قراءات رهيبة، وست قراءات كئيبة.
تنويه: ستنشر الخربوشة بعد ساعات من نزول حلقة كتبيولوجي عن حصاد ٢٠٢٥ بالنسبة لنا نحن الثلاثة، أنا وحسين وراضي. ولذلك، سأحاول ألا أعاود العناوين التي ذكرتها بالحلقة مدحًا أو ذمًا. يمكنكم الاستماع للحلقة على بودكاست آبل أو راديو ثمانية.
أفضل ست قراءات
1. A Magical Girl Retires - Seolyeon Park
نسيت ٩٠٪ من أحداث الرواية، ولكني أتذكر استمتاعي بكل صفحة من صفحاتها. بطلتها فتاة في مقتبل العمر تقريبًا، غارقة في الدَّين (لأنها صفرت بطاقتها الائتمانية) وعاطلة عن العمل بسبب جائحة كورونا. تعتزم البطلة على الانتحار من بداية الرواية، ولكن تستوقفها امرأة غامضة (وسحرية)، وتخبرها أنها قد تكون فتاتها المنشودة، أسحر السحريات، وأن مصيرها (أو قَدَرَها بالأحرى) هو الانضمام لنقابة الفتيات السحريات ومقاومة الشر، المتمثل هنا في... الاحتباس الحراري. وهل تعرفون ما هي قدرتها السحرية؟ بطاقة ائتمانية. وأزيدكم من الشعر بيت: يتضح أن القوى الخارقة والسحرية في هذا العالم تستوجب العمل فعلًا، من حضور الكلاسات إلى معارض التوظيف.
الرواية عمومًا ممتعة ومسلية ومضحكة أحيانًا، وما تزال بعض مشاهدها حاضرة بذهني. وإذا ما أضفت عليها استكشاف بطلة الرواية لذاتها في معمعة القوى السحرية، وتسذيج الرواية للأبطال الخارقين بوصفهم جزءًا من مجتمع له همومه، تصبح قراءة قصيرة لطيفة.
لا أتذكر للأسف كيف وقعت عليها، ولكن حدث ذلك غالبًا وأنا أبحث عن قراءات عشوائية لآداب جديدة (نُشرت أول مرة عام ٢٠٢٢) غير مألوفة لدي. ولأني لست من فانزات BTS، ولم أشاهد سوى ثلاثة أفلام كورية جنوبية، قلت لم لا أقرأ من هناك شيئًا؟
2. التحديث بصفته آيديولوجيا - مايكل لاثام
العنوانين الرئيسي والفرعين يخبرانكم بكل ما تحتاجون معرفته حول الكتاب المنشور عام ٢٠٠٠: “التحديث بصفته آيديولوجيا: العلوم الاجتماعية الأمريكية وبناء الأمة في عصر كينيدي”. يتناول الباحث جهود إدارة الرئيس الأمريكي جون كينيدي في بسط أشرعة النفوذ الأمريكي. وعلى وجه أكثر تحديدًا، يتقصى الكتاب التوظيف الآيديولوجي لـ “التحديث/modernization” (والتي هي أصلًا آيديولوجيا) في جهود احتواء المد الشيوعي السوفييتي إبان الحرب الباردة.
يتطرق الكتاب لمبادرات ثلاث دشنتها إدارة كينيدي: تحالف التقدم في أمريكا اللاتينية، وهيئة السلام، وبرنامج الكوخ الاستراتيجي في فيتنام. بالنسبة للباحث، تأسست هذه المبادرات امتدادًا وجزءًا من آيديولوجيا التحديث التي اتخذت من الأكاديميا الأمريكية معقلًا لها. تتساءلون الآن بلا شك، وما هي آيديولوجيا التحديث هذه بالزبط؟ جواب لاثام أنها إعادة صياغة للإمبريالية والقدر المتجلي (Manifest Destiny)، أو بعبارة أخرى هي محاولة “تسريع” تحول المجتمعات غير الغربية لبنى تتناسب مع القيم الليبرالية-الديموقراطية-الرأسمالية. وأترك لكم حرية التفكير في معاني ذلك وكيف يقاربها الباحث نفسه.
ولا سبب وراء قراءتي للكتاب غير أنه يصب في قلب كل اهتماماتي “المملة”، ولا ما قولك يا شسمه؟
3. اللغة العربية والهوية القومية - ياسر سليمان
برضه عنوان آخر يمكن استشفاف مضمونه من العنوان. لو كنت لألخص أطروحته الرئيسية، لقلت أنه يتناول الدور الذي تلعبه اللغة العربية بصفتها مكونًا من مكونات الهوية القومية. إتْباعًا لنفس الفكرة أعلاه حول التوظيف الآيديولوجي المزدوج -إن صح التعبير-، تُستحضر اللغة العربية هنا في الصراعات الآيديولوجية المتمحورة حول الهوية (أو الهويات) القومية. ولذلك يبدأ الكتاب بمحاولة صياغة مفاهيم وظيفية للقومية (nationalism) والأمة (nation)، مستعرضًا أطروحات تتفاوت أمزجتها للمكونات المختلفة (كالعرق والتاريخ والمكان واللغة والإثنية) في تشكيل المخيال القومي.
ويعتقد الباحث أن اللغة العربية شكلت هي الأخرى جزءًا من خطابات قومية مختلفة قياسًا على الظروف التاريخية المختلفة التي وجد أنصار آيديولوجيا اللغة أنفسهم فيها. ولذا، بعد التعريج بشكل سريع (وغير مقنع ربما) على صراعات ماضية عن حكمة العرب واللحن والعجمة والعربية، وبعد التحليل المثري حول تشكّل خطاب قومي عربي ضد سياسات التتريك والمد القومي المناهض للعثمانيين أواخر القرن التاسع عشر ومطلع العشرين، يتناول الباحث ثلاث قوميات عربية حسب موطن نشأتها: قومية مصرية، وقومية سورية، وقومية لبنانية.
ما كرهته في الكتاب هو كثرة تكراره لبعض الأفكار دون توسع أو تفصيل إضافيين، واقتصاره على تحليل الخطابات القومية دون تطرق حقيقي لعلاقتها بممارسات قائمة على أرض الواقع على الصعيدين الاجتماعي والسياسي. يعني، درينا فلان تكلم عن اللغة العربية بشكل معين، ولكن كيف استقبل مجايلوه (متعوب على الكلمة) هذا الخطاب؟ وكيف ردوا عليه؟ وهل هنالك تيارات تبنت بعض الخطابات دون غيرها لأغراضها الخاصة؟ لست أدري، ولا الكتاب يجعلني أدري.
4. أحوال عصابية - تسيتسي دانغريمبا
في منتصف العام، اقترحت على حسين وراضي قراءة “أحوال عصابية” وتسجيل حلقة كتبيولوجي عنها. أخبرتهما أنها أول رواية زيمبابوية (أو روديسية إذا ما أردنا تحري الدقة) تكتب بالإنجليزية، وأنها تتناول حقبة مثيرة للاهتمام من تاريخ منطقتها (نهاية الستينات تقريبًا). ما لم أخبرهما به هو أني اخترتها بناء على ورودها في مقرر إحدى كلاساتي عن تاريخ الأدب المعولم بعد الحرب العالمية الثانية. يعني من الأساس كنت مقرر إني بأقرأها لغاية في نفسي. ولكن في كل الأحوال لا يهم ذلك، لأننا لم نسجل الحلقة أصلًا.
تحكي الرواية قصة الفتاة تامبو من منظورها وهي بالغة تستذكر طفولتها ورحلتها التعليمية في مجتمع قروي أيام ما كانت المنطقة خاضعة للاحتلال البريطاني. تلقت الفتاة تعليمًا ابتدائيًا قبل أن تحرم منه بحجة أن مكان المرأة المستقبلي هو بيت زوجها، وأن عليها تعلم تدبير المنزل وألا تحظى بما من شأنه إفساد بيت الزوجية (هممممم).
ولكن بعد وفاة شقيقها الأصغر المدلل، والذي كان يُتوقع منه رفع العائلة من براثن الفقر والضعة، وبعد مناقشات ومناوشات عما إذا كان بالإمكان أن تتقلد تامبو هذا الدور، تلتحق تامبو على غرار شقيقها بنفس مؤسسات التعليم “الغربي”. ما تكشف عنه الرواية لاحقًا مزيج من الذكورية الناجمة عن النير الاستعماري ومخيالات المجتمع التقليدي وانقسام الأدوار الجندرية، فضلًا عن دور التعليم بين عالمين. اقرؤوها وشوفوا بأنفسكم رحلة تامبو وتبريرها المستقبلي لتغير قناعاتها.
وأستغل الفرصة للتذكير برواية “لا تبكِ أيها الطفل” للروائي الكيني نغوغي وا ثيونغو عن العديد من الثيمات المتشابهة والمتقاطعة تاريخيًا.
5. خزي - ج. م. كويتزي
على كثر توصيات حسين الضو بقراءة كويتزي، ولكن المسوّف الذي بداخلي أجل ذلك حتى زرت كيب تاون الصيف الماضي. وكعادتي المثقفية الرهيبة أثناء السفر، اقتنيت بعض روايات البلد الذي أزوره، إضافة لروايات “محلية” أفريقية أخرى. وطبعًا لا حاجة لقول أني اقتنيت بضع روايات لكويتزي مذ رأيت اسمه على الأرفف، وهو القرار الذي اكتشفت صحته ١٠٠٪ بعد قراءة خزي.
أستطيع كتابة بضعة سطور حول تقاطعات العرق والجنس في الرواية، وكيف يوظفان ضمن ثنائية المدينة/الريف بما تنطويان عليه من عنف رمزي أو جسدي. بطل الرواية بروفسور جامعي خمسيني مطلق، يتعرض لـ “فضيحة” بعد إقامته علاقة جنسية مع واحدة من طالباته، مما يؤدي به للاستقالة والهروب من بيئته بحثًا عما يعتقد أنه جزء أصيل من ذاته. ولكن نظرته تتعرض لزلزال حقيقي إثر ما تعرض له لاحقًا (لن أذكره كيلا أحرق عليكم أجزاء مهمة من الرواية). وبالتالي، يمكنني التركيز على هذه التقاطعات والخروج بقراءة مستفيضة.
لكن ما أستطيعه وسأفعله هنا هو التركيز على اقتصادية وإيجاز السرد بشكل بالغ الروعة. اسألوا حسين الضو كم مرة أبديت له إعجابي بالبرغرافات الأولى من الرواية وكيف استطاع كويتزي تجسيد عوالم كاملة دون حشو زائد. لن أرفقها هنا نظرًا لاحتوائها على ما قد يزعل بعض القراء المحافظين، ولكن اقرؤوا مثلًا هذه الجزئية:
شايفين كيف؟ تخيلوا الآن أن رهابة السرد مضاف لها ثيمات مقلقة.
بالمناسبة، الجزئية أعلاه من ترجمة هنداوي المتوفرة مجانًا على موقعهم. لا أعرف مدى جودة الترجمة، ولكن إذا أعجبتكم فعلى الأقل هي موجودة هناك.
6. Intermezzo - Sally Rooney
أول رواية أقرأها لسالي روني وأفضل عمل أدبي قرأته في ٢٠٢٥ بدون منازع. وعلى غرار روعة رواية كويتزي، فهذه أيضًا تفتح أبواب إعجاب لانهائية حول تقنياتها السردية ومعالجتها الثيماتية.
ظاهريًا، تحكي الرواية قصة شقيقين وكيفية تعاملهما أو مواجهتهما للحياة بعد فقدان والدهما. نقدر نقول أنها حياة في فراغ مفاجئ، أو في تحول الحياة فجأة لثقب أسود يبتلع كل المعاني السابقة. وعلى غرار عنوانها، فاصلة مؤقتة أو استراحة أو ما أشبه، تبدو حياة الشقيقين فترة أحداث الرواية كما لو أنها متنفس إجباري من سير الحياة الطبيعي. الشقيق الأكبر محام ناجح ونسونجي -تقريبًا- يعاشر فتاة تصغره بعشرة أعوام، والأصغر لاعب شطرنج عبقري (ومتوحد كما توحي سطور الرواية) يقيم علاقة مع امرأة منفصلة غير مطلقة تكبره بأربعة عشر عامًا. وتذفك صح؟ لا ما عليكم، معالجة العلاقات العاطفية والأسرية في الرواية من خلال منظور الفقد والوجع لها وزنها، خصوصًا مع الأخذ بعين الاعتبار قيم المجتمع ودائرة العلاقات الاجتماعية للأفراد. وبالإضافة لذلك، تتعاقب الفصول في تناولها منظور كل واحد من الشقيقين في بيئة يومية، مما يعني أنكم ستحظون بفرص عديدة لاستكشاف الشخصيات المختلفة من أكثر من زاوية وعلى إثر أكثر من حدث.
لكن على عكس اقتصادية خزي وصفحاتها المئتين وشوي، تخلق سالي روني عالمها في سرد معقد يزيد عن ٤٥٠ صفحة. لا تقرؤوها إلا وأنتم مستعدين لعمل أدبي يأخذكم في رحلة متمهلة وحافلة.
أسوأ ٦ قراءات، والتي تحلطمت عن نصفها في خربوشات سابقة أصلًا
1. خاتم الرمل - فؤاد التكرلي
كانت النية هي قراءة “المسرات والأوجاع” لنفس الكاتب، بحكم تكرار التوصية بها واستثارة اهتمامي بالاسم. ولكن نظرًا لطول الرواية نسبيًا، قررت اتباع قاعدتي الأخرى حين أقرأ لكتّاب لم أقرأهم سابقًا: قراءة أعمال قصيرة كي أتأكد أن أسلوبهم ينبلع. والحمدلله أني قمت بذلك، إذ اكتفيت بقراءة “خاتم الرمل” كيلا أضيع وأقتي وأتلف أعصابي بكتابات أطول للتكرلي. أعتقد أنها كانت أطول ١٦٠ صفحة قرأتها بحياتي.
بس كيلا أجعل الخربوشة تتمحور حول خاتم الرمل وحسب، سأعرض عليكم قراءة الجزء الثاني من سلسلة “جذور رداءة الرواية العربية”، إذ استعرضت بالتفصيل ما جعلني أكره الرواية وكل ما تنطوي عليه أو تمثله.
2. نقد المفاهيم - عبدالله العروي
لو سئلت قبل قراءتي نقد المفاهيم عن رأيي في العروي، لذكرت الصورة الطيبة المتشكلة عن قراءة كتبه الأولى. ولذا آخر ما توقعته هو تحول رصانة العروي بذهني لإنشائية موغلة في الحماقة؛ كل ما اعتقدته بحثًا فاحصًا وملكةً نقدية مميزة استحال بعد قراءة “نقد المفاهيم” صفصفة لأفكار ساذجة وآراء مجترة دون أدنى تمحيص أو تقويم. فجأة بدا اختيار مفرداته مضحكًا، كحين حديثه عن الردّة والتقدم اجتماعيين. وفجأة صارت أسسه المنهجية جوفاء، كاستبطانه مراحل حضارية حتمية ينبغي المرور بها. وفجأة انكشفت دعاويه الغبية، مثل مطالبته لنا(؟) باعتناق التأويلات اللاتاريخية التي تجرد ذواتنا(؟) من أي نقد مفاهيمي حقيقي.
وليس الأمر طبعًا اختلافي مع استنتاجات العروي أو قراءاته الفلسفية، وإلا عزوت ذلك لتباين الاهتمام المعرفي واستخلصت من نقده المفاهيمي ما يثري منظوري الشخصي. بعبارة أخرى، لا مشكلة لو اقتصر الأمر على رفض منهجية طرحه أو نوعية استشهاداته، حيث تظل هناك مساحةٌ كافية لبحث نقاط الالتقاء في الشغل المعرفي ككل. ولكن الأمر أعوص من ذلك، إذ ينبني على إشكالات كامنة في بنية الطرح عمومًا، على إشكالات تتولد عن الإطار الحداثي الذي يتبناه العروي صراحة وضمنًا. ولذا، في النهاية، رغم زعم العنوان احتواء الطرح نقدًا مفاهيميًا (ومن منظور تاريخي تحديدًا كما تشير المقدمة)، لا يعدو الكتاب كونه نسخًا تلفيقيًا يكرس كل ما يدعي نقده، ويؤدلج كل ما يدعي مساءلته.
هل تشعرون بأنكم قرأتم هذه الجزئية من قبل؟ لا، هذا ليس ديجافو، بل جزء من الخربوشة التفصيلية التي كتبتها عن تبعية العروي الفكرية.
3. سياسة التقوى - صبا محمود
تتناول صبا محمود حراك النساء في عددٍ من مساجد القاهرة بهدف تبيان قصور مفهومي الذات (subject) والفاعلية (agency) كما يحضران في المنظومة العلمانية-الليبرالية الغربية. تنبني هذه المنظومة على افتراضات محددة حول الحياة الحديثة وتشظي فضاءاتها، وبالتالي نجد سيادة مفهومي المقاومة (resistance) والاستقلال (autonomy) على أي طرحٍ يتناول تشكّل الذات في السياق الاجتماعي. بعبارةٍ أخرى، في كنف هذه المنظومة، لا معنى لفاعلية الذات إلا بالمقاومة، جسديةً كانت أم معنوية.
ولأن صبا محمود تؤمن أن الفاعلية والذات أوسع من ذلك، تطمح في فصول الكتاب لمساءلة المنظومة عن طريق إثبات فاعلية المتدينات في مصر واستقلاليتهن وفقًا لتصورات مغايرة عن الأخلاق والتدين والتقوى. ولذا تجري الكاتبة بحثًا ميدانيًا تتقصى فيه دور الممارسات والطقوس الدينية في تعريفِ هؤلاء النسوة لذواتهن ومسلكهن، فضلًا عن وضع كل ذلك في السياق الاجتماعي-الاقتصادي. وللأسف، ظل طموح الكاتبة في إثبات فاعلية النساء عصيًا على التحقق.
ربما يحقق الكتاب غاياته عند جمهوره المستهدف الأصلي، أي المنتمون لعالم الأكاديميا الغارق في طوفان النظريات ما-بعد-البنيوية وما-بعد-الاستعمارية (أقول ذلك بناء على نوع استشهادات الكاتبة وإحالاتها النظرية، إضافة للغة الكتابة ومصطلحاتها). لكن وقتما خرج الكتاب عن ضيق أفق ذلك العالم، يصبح عرضة للعديد من الأسئلة حول حدود الطرح المجاليّ وحول نجاح الكاتبة في توجيه نقد فعلي للمنظومة العلمانية-الليبرالية.
لحظة، هل تشعرون مجددًا بأنكم قرأتم هذه الجزئية من قبل؟ مرة ثانية، هذا ليس ديجافو، بل جزء من الخربوشة التفصيلية التي كتبتها عن الكتاب.
4. شرطة الذاكرة - يوكو أوغاوا
عنوان آخر قرأناه كي نسجل عنه حلقة كتبيولوجية. ولكن هذه المرة قرأناه، وكرهناه. مع كامل احترامي لمحبي الرواية، بس ما عندكم سالفة. فكرة رهيبة بتنفيذ باهت وسخيف ومتهالك.
يعني، أكيد أن فكرة نسيان المجتمع للأشياء وقتما قررت سلطةٌ ما إخفاءها تستثير قريحة السرد (متعوب عليها برضه). هذا بحد ذاته مدخل رهيب لعلاقة المجتمع بالتاريخ، ودور الذاكرة في تشكيل الهوية. ولكن هل استطاعت الرواية إثارة هذه الأسئلة ولا ضاعت في هذيان سردي ملخبط وغير متماسك وسخيف؟ ضاعت طبعًا.
عمومًا، حلقة كتبيولوجي عن الرواية كافية ووافية، لأننا تكلمنا بالتفصيل عن كل ما نرفزنا.
5. الثقافة، المعرفة والإيديولوجيا - عبدالإله بلقزيز
لو قيل لي وأنا في فصول الكتاب الأولى أني سأضعه ضمن قائمة أسوأ قراءات ٢٠٢٥، لضحكت وطنشت. ولكن من يضحك أخيرًا يضحك كثيرًا #عمق #فلسفة.
ولكن ما أنلام. بداية الكتاب مشجعة، وتطرق بلقزيز للتشابك ما بين مفاهيم الثقافة والمعرفة والآيديولوجيا (بكل ما تنطوي عليه من مشتركات ومفترقات في التأصيل والتحليل) يجبر القارئ على التروي. ولكن سرعان ما يتغير ذلك في الثلث الثاني من الكتاب، حين يبدأ بلقزيز بتحليل أطروحات مفكرين عرب حول الثيمات التي يتناولها هو في الكتاب. ولماذا أقول أن ذلك يتغير؟ لأن آلية التحليل إما أن تكون استعراضية، أو بالغة الاقتضاب، أو ما تدري وش تبغى بالزبط.
ناهيكم عن أن الكتاب ينتهي بكل القراءات اللاتاريخية التي تنسف الأسس التي بنى عليها أطروحته بداية الكتاب. منها مثلًا تناوله للتاريخ الإسلامي، وتحليلاته الكليشيهية والبائخة لطبيعة التغيرات وأسبابها، والتي تشبه طرح أي مراهق فكري يُطلب منه كتابة مقالة لنشرةٍ بريدية عن أحد المواضيع التي تهمه. شيء من قبيل: سقطت دولة المماليك لأنهم لم يكونوا عقلانيين. هذه مزحة طبعًا مو هو اللي قالها.
6. السلفية الجهادية - شيراز ماهر
بما أن الكتاب عن تاريخ فكرة السلفية الجهادية، فسأكمل بقية الخربوشة بالعامية. العنوان الفرعي هو “تاريخ فكرة/The History of an Idea. استخدام صيغة التعريف بالعنوان الإنجليزي إشكالي شوي، بس نمشيه. لكن بدل ما نعتبر الكتاب تاريخ فكرة، أظن إنه من الأنسب اعتباره مدخل لفقه السلفية الجهادية مثلما تحضر في كتابات بعض رموزها (أو رموز السلفية بشكل أعم). بمعنى إنه الكتاب ينطلق من قيام السلفية الجهادية على مبادئ تمايزها عن تيارات سلفية أخرى (واللي يحددها الكتاب في التوحيد والولاء والبراء والحاكمية والجهاد والتكفير)، ومن ثم يتقصى تنظير رموز التيار حول هالمبادئ. ويركز أحيانًا على الفوارق في التنظير لمصطلح معين عبر التاريخ وبعض سياقات هذي الفوارق. على سبيل المثال، يشرح الكتاب للقارئ أقسام التوحيد، وكيف الجهاديين فسروا توحيد الألوهية عبر منطق الجهاد، وعلاقة التكفير بتبرير مهاجمة أنظمة الحكم في الدول العربية من خلال اتهامها بتغييب الشريعة والحاكمية لغير الله.
هذا ما عليه خلاف لو أعاد الكاتب ربط هذي التغيرات والتطورات الفقهية بالسياقات اللي يستحضرها كل شوي. يقول مثلًا إنه بعض اللحظات الفارقة في تاريخ السلفية الجهادية تتمثل في غزو السوفييت لأفغانستان وغزو صدام للكويت ومن ثم أحداث ١١ سبتمبر (كون الكتاب نشر عام ٢٠١٦ يقلل من إمكانية تناوله لداعش). وهاللحظات مهمة بالنسبة للكاتب من باب إنه التغيرات في الفكر السلفي الجهادي ناجمة بشكل رئيسي عن الحروب أو الصراعات. بعبارة أخرى، يزعم الكاتب إنه تطورات الجهادية السلفية وليدة الحاجة لإعادة النظر -فقهيًا- في بعض الممارسات المرتبطة بالحروب والصراعات، بما فيها أحكام قتل المدنيين العزل وموظفي الدولة ومهاجمة مؤسسات الحكومة، بل وحتى تحويل الجهاد من منطلق دفاعي ضد قوى الاحتلال إلى استخدامها وسيلة لتهيئة ظروف إعادة الخلافة. لكن للأسف اللي صار إنه كل هالسياقات تحضر كمعلومة عامة بدون أي تناول مفصل لكيف أعادت تشكيل التيار الجهادي.
وليش أقول معلومة عامة؟ لأنه الكاتب يتناول مبادئ الجهادية السلفية عبر استشهاد لاتاريخي، يخليه ينتقي معاني المصطلحات واستخداماتها خلال آخر ١٤٠٠ سنة بدون تمحيص حقيقي. بالنسبة له، يبدو إنه ما فيه إلا فرق مفاهيمي بسيط بين الجهاد اللي يدعو له الظواهري والجهاد في سنوات الإسلام الأولى، بمعنى إنه ١) ما يسائل دور الإسلام السياسي في تكريس نزعة استعادة الماضي المتخيل من الأساس، و٢) ما يتقصى آثار الاصطدام بالمستعمر بأي تفصيل مثمر، و٣) يختزل الجهادية السلفية في بُعدها الرجعي المبني على ردة الفعل، بدون ما يشوف آثارها في إعادة هندسة المجتمعات وتغلغلها في مؤسسات الحكم
بس في النهاية (وهي مو النهاية بس خلصت حلطمتي الحين)، هذا الكتاب أصلًا بحث الدكتوراه للكاتب، فطبيعي إنه ما يعول عليه بشكل رئيسي إلا على المصادر وفكرة أو فكرتين. وطبيعي أيضًا بحكم جمهوره الأساسي إنه يكون مختزل وتبسيطي. مو معقولة كل شوي لما يبغى يشرح شيء معين في العقائد أو الشعائر الإسلامية إنه يروح يضرب أمثلة بالمسيحية. بس يلا.
خاتمة وتنويه استباقي
انتهت سنتي القرائية بـ٤٧ كتابًا من أصل ٥٢ اعتزمتها. والرقم -وإن كان جيدًا- لن يتكرر للأسف في ٢٠٢٦ بحكم الانشغالات والالتزامات التي أخذت تتضاعف أسيًا. فترقبوا السنة القادمة خربوشة “١٢ شهر ونص كتاب”.















